تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: من طرائف العلماء

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    May 2011
    المشاركات
    806

    افتراضي من طرائف العلماء

    قال ابن الجوزي: وبلغنا أن رجلاً جاء إلى أبي حنيفة، فشكا أنه دَفَن مالاً في موضع ولا يذكر الموضع، فقال أبو حنيفة: ليس هذا فقهًا فأحتال لك فيه، ولكن اذهب فصلِّ الليلةَ إلى الغداة، فإنك ستذكره - إن شاء الله تعالى - ففَعَلَ الرجلُ ذلك، فلم يمضِ إلا أقلُّ من ربع الليل حتى ذَكَر الموضع، فجاء إلى أبي حنيفة فأخبره، فقال: قد علمتُ أن الشيطان لا يدَعُك تصلِّي حتى تذكر، فهلا أتممتَ ليلتك؛ شكرًا لله - عز وجل[1]. قال إبراهيم بن أبي عبلة: أراد هشام بن عبدالملك أن يولِّيني خراج مصر، فأبيتُ، فغضب حتى اختلج وجهه، وكان في عينه الحول، فنظر إليَّ نظر منكِر وقال: لتأتينَّ طائعًا أو لتأتين كارهًا، فأمسكتُ عن الكلام حتى سكن غضبه، فقلت: يا أمير المؤمنين، أتكلم؟ قال: نعم، قلت: إن الله قال في كتابه العزيز: ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا ﴾ [الأحزاب: 72]، فوالله يا أمير المؤمنين ما غضب عليهن إذ أبَيْنَ، ولا أكرههن إذ كرِهْنَ، وما أنا بحقيق أن تغضب عليَّ إذ أبيتُ، وتكرهني إذا كرهتُ، فضحك وأعفاني[2]. أحمد بن مسعود الضرير السنهوري: المعروف بالمادح؛ لأنه كان يكثر من مدائح النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان حَفَظَةً، وله قدرة على النظم، ينظم القصيدة وفي كل بيت حروف المعجم، وفي كل بيت طاء، وفي كل بيت ضاد، وهكذا من هذا اللُّزوم، وكان أولاً كثير الأهاجي للناس، ثم إنه رفض ذلك ورجع إلى مدائح النبي - صلى الله عليه وسلم. وكان الوجيه بن الدهَّان أعمى قد أتقن العربية، وحفظ شيئًا كثيرًا من أشعار العرب، وسمع الحديث، كان حنبليًّا ثم انتقل إلى مذهب أبي حنيفة، ثم إلى مذهب الشافعي، وكان يحفظ الكثير من الحكايات والملح والأمثال، ويعرف العربية والتركية والعجمية والرومية والحبشية والزنجية، وكان له يدٌ طولى في نظم الشعر. وكان لا يغضب، وتراهن اثنان على إغضابه، فصار أحدهما يسأله ويسيء إليه، فتبسَّم ضاحكًا وقال: إن كنتَ راهنتَ فقد غُلبت، وإنما مَثَلُك مثل البعوضة، سقطت على ظهر الفيل، فلما أرادتْ أن تطير، قالت له: استمسك؛ فإني أحب أن أطير، فقال لها الفيل: ما أحسستُ بكِ حين سقطتِ، فما أحتاج أن أستمسك إذا طرتِ. الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم الفراهيدي الأزدي: من أئمَّة اللغة والأدب، وواضع علم العروض، أخذه من الموسيقا، وكان عارفًا بها، وهو أستاذ سيبويه النحْوي. ولد ومات في البصرة، وعاش فقيرًا صابرًا، كان شعث الرأس، شاحب اللون، قشف الهيئة، متمزِّق الثياب، متقطِّع القدمين، مغمورًا في الناس، قال بعضهم: أبدع الخليل بدائعَ لم يُسبق إليها، فمن ذلك تأليفه كلام العرب على الحروف في الكتاب المسمى بكتاب العين، فإنه هو الذي رتب أبوابه، وتوفي قبل أن يحشوه، وهو الذي اخترع العروض، وأحدث أنواعًا من الشعر ليست من أوزان العرب[3]. قيل: لما دخل الخليل البصرة لمناظرة أبي عمرو بن العلاء، جلس إليه ولم يتكلم بشيء، فسئل عن ذلك فقال: هو رئيس منذ خمسين سنة، فخفت أن ينقطع، فيفتضح في البلد.وقال الواحدي في تفسيره: الإجماع منعقدٌ على أنه لم يكن أحدٌ أعلمَ بالنحو من الخليل[4]. قال النضر بن شميل: أقام على خص بالبصرة لا يقدر على فلس، وعِلمُه قد انتشر وكسب به أصحابه الأموال، قال: وسمعته يقول: إني لأغلق بابي علي ما يجاوزه همِّي. خَلَف الصفَّار أمير سجستان: تفقَّه وروى الحديث، جمع كبار العلماء في بلاده فصنفوا معه تفسيرًا للقرآن الكريم من أكبر الكتب، اشتمل على أقوال مَن تقدم من المفسرين والقراء والنحاة والمحدِّثين. قال العتبي: أنفق على العلماء مدة اشتغالهم بمعونته على تصنيفه عشرين ألف دينار، ونسخته بنيسابور موجودة في مدرسة الصابونية، تستغرق عمر الكاتب، وتستنفذ حبر الناسخ[5]. محمد بن الحسن بن دريد: من أئمة اللغة والأدب، كان مَن تقدم من العلماء يقولون: ابن دريد أشعر العلماء، وأعلم الشعراء، وهو صاحب المقصورة الدريدية، له كتب عديدة. شهاب الدين أبو العباس أحمد بن أبي طالب بن نعمة الحجار المعروف بابن الشحنة: قُرِئ البخاري عليه نحوًا من ستين مرة وغيره، وقد سمع عليه السلطان الملك الناصر وخلع عليه وألبسه الخلعة بيده، وسمع عليه من أهل الديار المصرية والشامية أممٌ لا يحصَوْن كثرة، وانتفع الناس بذلك، وكان شيخًا حسنًا، بهيَّ المنظر، سليم الصدر، ومتمتعًا بحواسِّه وقواه، فإنه عاش مائة سنة محققًا وزاد عليها، وتوفي سنة 730هـ[6]. وكان من الزهد في طبقة لا تُدْرَك، حتى قيل: إن بعض الملوك طلبه يؤدِّب له أولاده، فأتاه الرسول وبين يديه كسر يابسة يأكلها، فقال له: قل لمرسلك: ما دام يلقى مثل هذه، لا حاجة به إليك، ولم يأت الملك[7]. عامر الشعبي: يُضْرَب به المثل في حفظه، اتَّصل بعبدالملك بن مروان، فكان نديمه وسميره ورسوله إلى ملك الروم، وكان ضئيلاً نحيفًا، وقيل له: ما لنا نراك ضئيلاً؟ قال: إني زوحمت في الرَّحم، وكان ولد هو وأخ له في بطن واحد. نفطويه: قال الثعالبي: لقب نفطويه؛ لدمامته وأدمته، تشبيهًا بالنفط، وزيد "ويه" نسبة إلى سيبويه؛ لأنه كان يجري على طريقته، ويدرس كتابه. مكِّي بن ريان بن شبه الماكسيني النحوي: قرأ على علماء الموصل، ثم تتلمذ عليه عددٌ كثير من أهلها، ثم مضى إلى الشام وعاد إلى الموصل، وكان عارفًا بالقراءات السبع، وسمع الحديث فأكثر، وقد أخذ من كل علم بطرف، وكان أوَّل حياته في ماكاسين يعرف بمُكيك تصغير مكي، فلما ارتحل عن ماكسين واشتغل في طلب العلم، اشتاق إلى وطنه فعاد إليها، ففرح الناس به؛ لعلمه وأدبه وفضله، وكان ينوي الإقامة في بلده، وفي تلك الليلة سمع امرأةً تقول لأخرى: ما تدرين مَن جاء؟ قالت: لا، قالت: مكيك بن فلانة، فقفل راجعًا وقال: واللهِ لا أقمت في بلد أدعى فيه بمكيك، وسافر من وقته إلى الموصل. أبو علي الحسن بن شهاب العكبري: سمع الحديث وهو كبير السن، له اليد الطولى في الفقه والأدب، والإقراء والحديث، والشعر والفتيا. قال العكبري: كسبت في الوراقة خمسة وعشرين ألف درهم راضية، وكنت أشتري كاغدًا بخمسة دراهم، فأكتب فيه ديوان المتنبي في ثلاث ليالٍ، وأبيعه بمائتي درهم، وأقله بمائة وخمسين درهمًا. له مصنفات في الفقه والفرائض والنحو، خلف أموالاً طائلة، وأخذ السلطان من تركته ما قدره ألف دينار، وكان قد ترك ثروةً من الأموال والعقار والكروم، وأوصى بثلث ماله لمتفقِّهة الحنابلة، فلم تُنفذ وصيته ولم يُعطَوْا شيئًا. قال أبو بكر الخلال - وذكر الأثرم - فقال: جليل القدر حافظ، وكان عاصم بن علي بن عاصم لما قدم بغداد طلب رجلاً يخرج له فوائد يمليها، فلم نجد له في ذلك الوقت غير أبي بكر الأثرم، فكأنَّه لما رآه لم يقع منه بموقع؛ لحداثة سنِّه، فقال له: أخرجْ كتبك، فجعل يقول له: هذا الحديث خطأ، وهذا الحديث كذا، وهذا غلط، وأشياء نحو هذا، فسُرَّ عاصم به، وأملاه قريبًا من خمسين مجلسًا[8]. الحافظ عبدالغني بن عبدالواحد بن علي بن سرور المقدسي: ارتحل إلى بلدان كثيرة في طلب الحديث، فرحل إلى بغداد ودمشق ومصر وإسكندرية والجزيرة وأصبهان، وله مؤلفات كثيرة نافعة، منها: "الكمال في أسماء الرجال"، والأحكام الكبرى والصغرى، و"عمدة الأحكام"، وغيرها، وقد قيض له حُسَّاد آذَوْه وألبُوا عليه. لما رحل إلى أصفهان وسمع فيها الكثير من الحديث، وجد مصنفًا لأبي نعيم في أسماء الصحابة، فأخذ في مناقشته واعترض عليه في مائة وتسعين موضعًا، فغضب بنو الخجندي من ذلك، فبغضوه وأخرجوه منها مختفيًا في آزاد، ثم دخل الموصل وسمع كتاب العقيلي في الجرح والتعديل، فثار عليه الحنفية، فلما ورد دمشق كان يقرأ الحديث بعد صلاة الجمعة برواق الحنابلة من جامع دمشق، فاجتمع الناس عليه وإليه. وكان رقيق القلب، سريع الدمعة، فحصل له قَبول من الناس جدًّا، فحسده بنو الزكي والدولعي وكبار الدماشقة من الشافعية وبعض الحنابلة، وجهَّزوا الناصح الحنبلي، فتكلم فيه تحت قبة النسر، وأمروه أن يجهر بصوته مهما أمكنه؛ حتى يشوش عليه، فحوَّل عبدالغني ميعاده إلى بعد العصر، فذكر يومًا عقيدته على الكرسي، فثار عليه القاضي ابن الزكي وضياء الدين الدولعي، وعقدوا له مجلسًا في القلعة يوم الاثنين الرابع والعشرين من ذي القعدة سنة خمس وتسعين وخمسمائة، وتكلَّموا معه في مسألة العلو، ومسألة النزول، ومسألة الحرف والصوت، وطال الكلام وظهر عليهم بالحجة، فقال له برغش نائب القلعة: كل هؤلاء على الضلالة، وأنت على الحق؟! قال: نعم، فغضب برغش من ذلك وأمره بالخروج من البلد، فارتحل بعد ثلاث إلى بعلبكَّ ثم إلى القاهرة، فآواه الطحانيون، فكان يقرأ الحديث بها، فثار عليه الفقهاء بمصر أيضًا، وكتبوا إلى الوزير صفي الدين بن شكر، فأمر بنفيه إلى المغرب فمات قبل وصول الكتاب. وكان هذا العالم الجليل من أحذق المحدِّثين، ومن المشهورين بالعبادة والورع، والسخاء والصدقات على الفقراء والأرامل والأيتام، وفي آخر عمره ضعف بصرُه؛ من كثرة المطالعة والبكاء من خشية[9]. وكان موفَّق الدين عبدالله بن قدامة، وأخوه أبو عمر محمد بن أحمد بن قدامة، وابن خالهم عبدالغني لا يتخلَّفون عن غزاة يخرج فيها الملك صلاح الدين إلى بلاد الإفرنج. أبو الفرج عبدالرحمن بن علي بن الجوزي: العالم الواعظ المتفنِّن، قال ابن كثير في "البداية والنهاية": "برز في علوم كثيرة وانفرد بها عن غيره، وجمع المصنفات الكبار والصغار نحوًا من ثلاثمائة مصنف، وكتب بيده نحوًا من مائتي مجلدة، وتفرَّد بفن الوعظ الذي لم يُسبق إليه، ولا يلحق شأوه فيه، وفي طريقته وشكله، وفي فصاحته وبلاغته، وعذوبة وحلاوة ترصيعه، ونفوذ وعْظه، وغوصه على المعاني البديعة، وتقريبه الأشياء الغريبة فيما يشاهد من الأمور الحسية، بعبارة وجيزة سريعة الفهم والإدراك، بحيث يجمع المعاني الكثيرة، في الكلمة اليسيرة. هذا، وله في العلوم كلها اليد الطولى، والمشاركات في سائر أنواعها من التفسير والحديث، والتاريخ والحساب، والنظر في النجوم، والطب والفقه، وغير ذلك من اللغة والنحو، وله من المصنفات في ذلك ما يضيق هذا المكانُ عن تَعدادها وحصر أفرادها، منها كتابه في التفسير المشهور بـ"زاد المسير"، وله تفسير أبسط منه ولكنه ليس بمشهور، وله "جامع المسانيد" استوعب به غالب مسند أحمد وصحيحي البخاري ومسلم وجامع الترمذي، وله كتاب "المنتظم في تواريخ الأمم من العرب والعجم" في عشرين مجلدًا، قد أوردنا في كتابنا هذا كثيرًا منه من حوادثه وتراجمه، ولم يزل يؤرخ أخبار العالم حتى صار تاريخًا، وما أحقَّه بقول الشاعر:
    مَا زِلْتَ تَدْأَبُ فِي التَّارِيخِ مُجْتَهِدًا
    حَتَّى رَأَيْتُكَ فِي التَّارِيخِ مَكْتُوبًا
    وله مقامات وخطب، وله "الأحاديث الموضوعة"، وله "العلل المتناهية في الأحاديث الواهية"، وغير ذلك، وقد حضر مجلسَ وعظه الخلفاءُ والوزراء، والملوك والأمراء، والعلماء والفقراء، ومن سائر صنوف بني آدم، وأقل ما كان يجتمع في مجلس وعظه عشرةُ آلاف، وربما اجتمع فيه مائةُ ألف أو يزيدون. وله من النظم والنثر شيء كثير جدًّا، وله كتاب سماه "لفظ الجمان في كان وكان". مات أبوه وعمره ثلاث سنين، وحفظ الوعظ وهو ابن عشرين سنة أو دونها، كان شغوفًا بالعلم منذ الصغر، وكان لا يلعب مع الصبيان، وبلغ في الوعظ شأوًا لا يلحق فيه. التفت مرَّة إلى ناحية الخليفة المستضيء وهو في الوعظ، فقال: يا أمير المؤمنين، إن تكلمتُ خفتُ منك، وإن سكتُّ خفت عليك، وإن قول القائل لك: اتَّقِ الله، خيرٌ لك من قوله لكم: إنكم أهل بيت مغفور لكم، كان عمر بن الخطاب يقول: إذا بلغني عن عاملٍ لي أنه ظلم فلم أغيِّره، فأنا الظالم. يا أمير المؤمنين، وكان يوسف لا يشبع في زمن القحط؛ حتى لا ينسى الجائع، وكان عمر يضرب بطنه عام الرمادة ويقول: قرقر أو لا تقرقر، والله لا ذاق عمرُ سمنًا ولا سمينًا، حتى يخصب الناس، فبكى المستضيء وتصدَّق بمالٍ، كثير وأطلق المحاسبي، وكسا خلقًا من الفقراء. وقد ابتُلي ابن الجوزي بولدٍ له عاق، اسمُه علي، كان يبيع كتب والده بأبخس الأثمان في غيبة أبيه بواسط، ولكن ابنه الأصغر كان نجيبًا، اسمه محيي الدين يوسف، ووعظ بعد أبيه وصار له شأن عند الخلفاء والملوك، وابتنى المدرسة الجوزية[10]. قال محمد بن سعد يذكر علي بن الحسين: كان ثقة مأمومًا، كثير الحديث، عاليًا رفيعًا ورعًا، وكان كثير الصدقة بالليل، ويقول: صدقة الليل تطفئ غضب الرب، وتنوِّر القلب والقبر، وتكشف عن العبد ظلمةَ يوم القيامة. وقال محمد بن إسحاق: كان ناس بالمدينة يعيشون لا يدرون من أين يعيشون ومَن يعطيهم، فلمَّا مات علي بن الحسين فقدوا ذلك، فعرفوا أنه هو الذي كان يأتيهم في الليل بما يأتيهم به، ولما مات وجدوا في ظهره وأكتافه أثرَ حمل الجراب إلى بيوت الأرامل والمساكين في الليل، وقيل: إنه كان يعول أهل مائة بيت بالمدينة، ولا يدرون بذلك حتى مات. ودخل علي بن الحسين على محمد بن أسامة بن زيد يعوده، فبكى ابن أسامة، فقال له: ما يبكيك؟ قال: عليَّ دين، قال: وكم هو؟ قال: خمسة عشر ألف دينار - وفي رواية سبعة عشر ألف دينار - فقال: هي عليَّ. ونال منه رجلٌ يومًا، فجعل يتغافل عنه - يريه أنه لم يسمعه - فقال له الرجل: إياك أعني، فقال له: وعنك أغضي. وخرج يومًا من المسجد فسبَّه رجل، فانتدب الناس إليه، فقال: دعُوه، ثم أقبل عليه فقال: ما ستره الله عنك من عيوبنا أكثر، ألك حاجة نعينك عليها؟ فاستحيا الرجل، فألقى إليه خميصة كانت عليه، وأمر له بألف درهم، فكان الرجل بعد ذلك إذا رآه يقول: إنك من أولاد الأنبياء. واختصم عليُّ بن الحسين وحسن بن حسن - وكان بينهما منافسة - فنال منه حسن بن حسن وهو ساكت، فلما كان الليل ذهب علي بن الحسين إلى منزله فقال: يا ابن العم، إن كنتَ صادقًا يغفر الله لي، وإن كنتَ كاذبًا يغفر الله لك، والسلام عليكم، ثم رجع، فلحقه فصالحه. وقال علي بن الحسين لابنه: يا بُني، لا تصحب فاسقًا؛ فإنه يبيعك بأكلة وأقل منها، يطمع فيها ثم لا ينالها، ولا بخيلاً؛ فإنه يخذلك في ماله أحوج ما تكون إليه، ولا كذابًا؛ فإنه كالسراب، يقرب منك البعيد، ويباعد عنك القريب، ولا أحمق؛ فإنه يريد أن ينفعك فيضرك، ولا قاطع رحم؛ فإنه ملعون في كتاب الله، قال - تعالى -: ﴿ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ﴾ [محمد: 22، 23]. وروى المقبري قال: بعث المختار إلى علي بن الحسين بمائة ألف، فكَرِه أن يقبلها، وخاف أن يردَّها، فاحتبسها عنده، فلما قُتل المختار، كتب إلى عبدالملك بن مروان: إن المختار بعث إليَّ بمائة ألف، فكرهتُ أن أقبلها، وكرهت أن أردَّها، فابعث من يقبضها، فكتب إليه عبدالملك: يا ابن العم، خذها فقد طيبتُها لك، فقَبِلها. وقال علي بن الحسين: إني لأستحي من الله - عز وجل - أن أرى الأخ من إخواني فأسأل الله له الجنة وأبخل عليه بالدنيا، فإذا كان يوم القيامة قيل لي: فإذا كانتِ الجنة بيدك، كنتَ بها أبخلَ وأبخل وأبخل. وقال عبدالرزاق: سكبتْ جارية لعلي بن الحسين عليه ماء ليتوضأ، فسقط الإبريق من يدها على وجهه فشجَّه، فرفع رأسه إليها، فقالت الجارية: إن الله يقول: ﴿ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ ﴾، قال: قد كظمتُ غيظي، قالت: ﴿ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ﴾، قال: عفا الله عنك، فقالت: ﴿ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾، قال: أنت حرة لوجه الله. قال ابن كثير في ترجمة عبدالله بن المبارك: وكان موصوفًا بالحفظ والفقه والعربية، والزهد والكرم، والشجاعة والشعر، له التصانيف الحسان، والشعر الحسن المتضمِّن حكمًا جمة، وكان كثير الغزو والحج، وكان له رأس مال نحو أربعمائة ألف يدور يتَّجر به في البلدان، فحيث اجتمع بعالم أحسن إليه، وكان يربو كسبه في كل سنة على مائة ألف، ينفقها كلَّها في أهل العبادة والزهد والعلم، وربما أنفق من رأس ماله. قال سفيان بن عيينة: نظرتُ في أمره وأمر الصحابة، فما رأيتهم يفضلون عليه إلا في صحبتهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم. وقال إسماعيل بن عياش: ما على وجه الأرض مثلُه، وما أعلم خصلة من الخير إلا وقد جعلها الله في ابن المبارك، وقدم مرَّة الرقة وبها هارون الرشيد، فلمَّا دخلها احتفل الناس به، وازدحم الناس حوله، فأشرفت أم ولد للرشيد من قصر هناك، فقالت: ما للناس؟ فقيل لها: قدم رجل من علماء خراسان يقال له: عبدالله بن المبارك، فانجفل الناس إليه، فقالت المرأة: هذا هو المُلْك، لا مُلْك هارون الرشيد الذي يجمع الناس عليه بالسوط والعصا، والرغبة والرهبة. وخرج مرَّة إلى الحج فاجتاز ببعض البلاد، فمات طائر معهم، فأمر بإلقائه على مزبلة هناك، وسار أصحابه أمامه وتخلَّف هو وراءهم، فلما مر بالمزبلة إذا جاريةٌ قد خرجتْ من دار قريبة منها، فأخذتْ ذلك الطائر الميت، ثم لفَّتْه، ثم أسرعتْ به إلى الدار، فجاء فسألها عن أمرها وأخْذها الميتة، فقالت: ذلك أنا وأخي هنا ليس لنا شيء إلا هذا الإزار، وليس لنا قوت إلا ما يُلقى على هذه المزبلة، وقد حلَّت لنا الميتة منذ أيام، وكان أبونا له مال، فظُلِم وأُخذ ماله وقُتل، فأمر ابن المبارك بردِّ الأحمال وقال لوكيله: كم معك من الفضة؟ قال: ألف دينار، فقال: عُدَّ منها عشرين دينارًا تكفينا إلى مرو وأعطها الباقي؛ فهذا أفضل من حجِّنا في هذا العام، ثم رجع. كان محمد بن سيرين إذا ذُكِر عنده أحدٌ بسوء، ذَكَره بأحسن ما يعلم، وقال خلف بن هشام: كان محمد بن سيرين قد أعطي هديًا وسمتًا وخشوعًا، وكان الناس إذا رأَوْه ذَكَروا الله. وقال ابن سيرين: ظلمٌ لأخيك أن تذكر منه أسوأَ ما تعلم منه وتكتم خيرَه.وكان إذا سُئِل عن الرؤيا قال للسائل: اتَّقِ الله في اليقظة، ولا يغرَّك ما رأيتَ في المنام.وقال أنس بن مالك: إني لأغبط أهل البصرة بهذين الشيخين: الحسن، وابن سيرين. وقال عبدالله بن أحمد: حدَّثنا علي بن الجهم، قال: كان لنا جار فأخرج إلينا كتابًا، فقال: أتعرفون هذا الخط؟ قلنا: هذا خط أحمد بن حنبل، فكيف كتب لك؟ قال: كنا بمكة مقيمين عند سفيان بن عيينة، ففقدنا أحمدَ أيامًا، ثم جئنا لنسأل عنه، فإذا الباب مردود عليه وعليه خلقان، فقلت: ما خبرك؟ قال: سُرِقت ثيابي، فقلت له: معي دنانير، فإن شئت صلة، وإن شئت قرضًا، فأبى، فقلت: تكتب لي بأجرة؟ قال: نعم، فأخرجت دينارًا، فقال: اشترِ لي ثوبًا واقطعه نصفين - يعني إزارًا ورداء - وجئني ببقية الدينار، ففعلتُ وجئت بورق، فكتب لي هذا. عطاء بن أبي رباح المكي: أحد كبار التابعين الثقات، يقال: إنه أدرك مائتي صحابي. وقال ابن سعد: سمعت بعض أهل العلم يقول: كان عطاء أسود أعور أفطس أشلَّ أعرج، ثم عمي بعد ذلك، وكان ثقة فقيهًا كثير الحديث. وقال أبو جعفر الباقر وغير واحد: ما بقي أحد في زمانه أعلم بالمناسك منه، قيل: إنه حج مائة حجة، وعمَّر مائة سنة. وكان ينادي منادي بني أمية: لا يفتي الناسَ في الحج إلا عطاءُ بن أبي رباح.وقال أبو جعفر الباقر: ما رأيت فيمن لقيتُ أفقهَ منه.وقال الأوزاعي: مات عطاء يوم مات وهو أرضى أهل الأرض عندهم. وكان عطاء من أحسن الناس صلاة. قال قتادة: كان سعيد بن المسيب والحسن وإبراهيم وعطاء، هؤلاء أئمة الأمصار. وقال عطاء: إن الرجل ليحدِّثني بالحديث، فأنصت له كأني لم أكن سمعته، وقد سمعته قبل أن يُولَد، فأريه أني إنما سمعته الآن منه، وفي رواية: أنا أحفظ منه له، فأريه أني لم أسمعه[11]. الشيخ الإمام، وحيد عصره، تاج الدين، أبو اليمن، زيد بن الحسن بن زيد بن الحسن بن سعيد بن عصمة الكندي: ولد ببغداد ونشأ بها، واشتغل وحصل، ثم قدم دمشق فأقام بها، وفاق أهل زمانه شرقًا وغربًا في اللغة والنحو، وغير ذلك من فنون العلم، وعلوم الإسناد، وجيد الطريقة والسيرة، وحسن العقيدة، وانتفع به علماء زمانه، وأثنَوا عليه وبجَّلوه، وكان حنبليًّا ثم صار حنفيًّا. ولد في الخامس والعشرين من شعبان سنة عشرين وخمسمائة، فقرأ القرآن بالروايات وعمره عشر سنين، وسمع الكثير من الحديث العالي على الشيوخ الثقات وعني به، وتعلَّم العربية واللغة واشتهر بذلك، ثم دخل الشام في سنة ثلاث وستين وخمسمائة، ثم سكن مصر واجتمع بالقاضي الفاضل، ثم انتقل إلى دمشق فسكن بدار العجم منها، وحظي عند الملوك والوزراء والأمراء، وتردد إليه العلماء والملوك وأبناؤهم. كان الأفضل بن صلاح الدين - وهو صاحب دمشق - يتردد إليه في منزله، وكذلك أخوه المحسن والمعظم ملك دمشق كان ينزل إليه إلى درب العجم، يقرأ عليه في "المفصل" للزمخشري، وكان المعظم يعطي لمن حفظ "المفصل" ثلاثين دينارًا جائزة، وكان يحضر مجلسَه بدرب العجم جميعُ المصدرين بالجامع، كالشيخ علم الدين السخاوي، ويحيى بن معطي الوجيه اللغوي، والفخر التركي، وغيرهم.وكان القاضي الفاضل يثني عليه.قال السخاوي: كان عنده من العلوم ما لا يوجد عند غيره. ومن العجب أنه قد شرح كتاب سيبويه، واسم سيبويه عمرو، واسم الشارح زيد، فقال السخاوي في ذلك:
    لَمْ يَكُنْ فِي عَهْدِ عَمْرٍو مِثْلُهُ
    وَكَذَا الكِنْدِيُّ فِي آخِرِ عَصْرِ

    فَهُمَا زَيْدٌ وَعَمْرٌو إِنَّمَا
    بُنِيَ النَّحْوُ عَلَى زَيْدٍ وَعَمْرِو

    قال أبو شامة: وهذا كما قال فيه ابن الدهان المتوفى سنة 592هـ:
    يَا زَيْدُ زَادَكَ رَبِّي مِنْ مَوَاهِبِهِ
    نُعْمَى يُقَصِّرُ عَنْ إِدْرَاكِهَا الأَمَلُ

    لاَ بَدَّلَ اللَّهُ حَالاً قَدْ حَبَاكَ بِهَا
    مَا دَارَ بَيْنَ النُّحَاةِ الحَالُ وَالبَدَلُ

    النَّحْوُ أَنْتَ أَحَقُّ العَالَمِينَ بِهِ
    أَلَيْسَ بِاسْمِكَ فِيهِ يُضْرَبُ المَثَلُ

    وقد مدحه السخاوي بقصيدة حسنة، وأثنى عليه أبو المظفر سبط ابن الجوزي فقال: قرأت عليه وكان حسن العقيدة، ظريف الخلق، لا يسأم الإنسانُ من مجالسته، وله النوادر العجيبة، والخطُّ المليح، والشعر الرائق، وله ديوان شعر كبير، وكانت وفاته يوم الاثنين سادس شوال سنة 613هـ وله ثلاث وتسعون سنة وسبعة عشر يومًا، وصلِّي عليه بجامع دمشق، ثم حمل إلى الصالحية فدفن بها. وكان قد وقف كتبه - وكانت نفيسة - وهي سبعمائة وواحدٌ وستون مجلدًا على معتقه نجيب الدين ياقوت، ثم على العلماء في الحديث والفقه واللغة وغير ذلك، وجعلت في خزانة كبيرة في مقصورة ابن سنان الحلبية، المجاورة لمشهد علي بن زين العابدين، ثم إن هذه الكتب تفرَّقت وبِيعَ كثيرٌ منها، ولم يبق بالخزانة المشار إليها إلا القليلُ الرث، وهي بالمقصورة الحلبية، وكانت قديمًا يقال لها: مقصورة ابن سنان. وقد ترك نعمة وافرة، وأموالاً جزيلة، ومماليكَ متعددة من الترك الحسان، وكان رقيق الحاشية، حسنَ الأخلاق، يعامل الطلبة معاملةً حسنة من القيام والتعظيم، فلما كبِر ترك القيام لهم، وأنشأ يقول:
    تَرَكْتُ قِيَامِي لِلصَّدِيقِ يَزُورُنِي
    وَلاَ ذَنْبَ لِي إِلاَّ الإِطَالَةُ فِي عُمْرِي

    فَإِنْ بُلِّغُوا مِنْ عشر تِسْعِينَ نِصْفَهَا
    تَبَيَّنَ فِي تَرْكِ القِيَامِ لَهُمْ عُذْرِي[12]



    ـــــــــــــــ ـ
    [1] "الأذكياء"، لابن الجوزي، ص94.

    [2] "تاريخ الخلفاء"، للسيوطي، ص 248 - 249.

    [3] "الأعلام"، للزركلي مع تصرف واختصار، ج2، ص363.

    [4] "شذرات الذهب"، ج1، ص277.

    [5] "الأعلام"، للزركلي، ج2، ص357.

    [6] "البداية والنهاية"، ج14، ص150.

    [7] "شذرات الذهب"، ج1، ص276.

    [8] "طبقات الحنابلة"، ج1، ص 72.

    [9] توفي سنة ستمائة، عن عمر يناهز السابعة والخمسين.

    [10] وفاة ابن الجوزي سنة 597هـ.

    [11] توفي سنة 114هـ.

    [12] من تاريخ ابن كثير بتلخيص وتعديل طفيف اقتضاه سبك الكلام




    رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Web/fayad/1066...#ixzz26vNr0tln
    سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم
    قال وهيب بن الورد:إن استطعـــت ألا يسبقك الى الله أحـــد فافعل

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Feb 2009
    المشاركات
    2,967

    افتراضي رد: من طرائف العلماء

    موضوع رائع وشيق
    وكم في امتنا من موهوب وعبقري لو كتبت سيرهم لاذهبت الانفاس وفني القرطاس
    الليبرالية: هي ان تتخذ من نفسك إلهاً ومن شهوتك معبوداً
    اللهم أنصر عبادك في سوريا وأغفر لنا خذلاننا لهم

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •