ذلكم الشيطان يخوف أولياءه
قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (175) وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177) وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهُمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ (178) ﴾ (آل عمران: 173-178)
وفي تفسير ابن كثير رحمه الله:
(173) "قوله تعالى "الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا" الآية أي الذين توعدهم الناس بالجموع وخوفوهم بكثرة الأعداء فما اكترثوا لذلك بل توكلوا على الله واستعانوا به "وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل" وقال البخاري حدثنا أحمد بن يونس قال أراه قال حدثنا أبو بكر عن أبي حصين عن أبي الضحى عن ابن عباس "حسبنا الله ونعم الوكيل" قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل.
وقد رواه النسائي عن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم وهارون بن عبدالله كلاهما عن يحيى بن أبي بكر عن أبي بكر وهو ابن عياش به والعجب أن الحاكم أبا عبدالله رواه من حديث أحمد بن يونس به ثم قال صحيح الإسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه ثم رواه البخاري عن أبي غسان مالك بن إسماعيل عن إسرائيل عن أبي حصين عن أبي الضحى عن ابن عباس قال كان آخر قول إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار "حسبنا الله ونعم الوكيل" وقال عبدالرزاق قال ابن عيينة وأخبرني زكريا عن الشعبي عن عبدالله بن عمرو وقال هي كلمة إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار.
رواه ابن جرير وقال أبو بكر بن مردويه حدثنا محمد بن معمر حدثنا إبراهيم بن موسى الثوري حدثنا عبدالرحيم بن محمد بن زياد السكري أنبأنا أبو بكر بن عياش عن حميد الطويل عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قيل له يوم أحد إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فأنزل الله هذه الآية وروى أيضا بسنده عن محمد بن عبدالله الرافعي عن أبيه عن جده أبي رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم وجه عليا في نفر معه في طلب أبي سفيان فلقيهم أعرابي من خزاعة فقال إن القوم قد جمعوا لكم فقالوا "حسبنا الله ونعم الوكيل" فنزلت فيهم هذه الآية ثم قال ابن مردويه حدثنا دعلج بن أحمد حدثنا الحسن بن سفيان أنبأنا أبو خيثمة بن مصعب بن سعد أنبأنا موسى بن أعين عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا وقعتم فى الأمر العظيم فقولوا "حسبنا الله ونعم الوكيل" هذا حديث غريب من هذا الوجه وقد قال الإمام أحمد حدثنا حيوة بن شريح وإبراهيم بن أبي العباس قالا حدثنا بقية حدثنا يحيى بن سعيد عن خالد بن معدان عن سيف عن عوف بن مالك أنه حدثهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بين رجلين فقال المقضي عليه لما أدبر: حسبي الله ونعم الوكيل فقال النبي صلى الله عليه وسلم "ردوا على الرجل فقال: ما قلت؟" قال: قلت حسبي الله ونعم الوكيل.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم "إن الله يلوم على العجز ولكن عليك بالكيس فإذا غلبك أمر فقل حسبي الله ونعم الوكيل" وكذا رواه أبو داود والنسائي من حديث بقية عن يحيى بن خالد عن سيف وهو الشامي ولم ينسب عن عوف بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه.
وقال الإمام أحمد حدثنا أسباط حدثنا مطرف عن عطية عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى جبهته يستمع متى يؤمر فينفخ" فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فما نقول؟ قال "قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل على الله توكلنا".
وقد روي هذا من غير وجه وهو حديث جيد وقد روينا عن أم المؤمنين زينب وعاثشة رضي الله عنهما أنهما تفاخرتا فقالت زينب زوجني الله وزوجكن أهاليكن وقالت عائشة نزلت براءتي من السماء في القرآن فسلمت لها زينب ثم قالت كيف قلت حين ركبت راحلة صفوان بن المعطل قالت: قلت حسبي الله ونعم الوكيل قالت زينب قلت كلمة المؤمنين.
(174) قال تعالى "فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء" أي لما توكلوا على الله كفاهم ما أهمهم ورد عنهم بأس من أراد كيدهم فرجعوا إلى بلدهم "بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء" مما أضمر لهم عدوهم "واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم" وقال البيهقي حدثنا أبو عبدالله الحافظ حدثنا أبو بكر بن داود الزاهد حدثنا محمد بن نعيم حدثنا بشر بن الحكم حدثنا مبشر بن عبدالله بن رزين حدثنا سفيان بن حسين عن يعلى بن مسلم عن عكرمة عن ابن عباس في قول الله "فانقلبوا بنعمة من الله وفضل" قال النعمة أنهم سلموا والفضل أن عيرا مرت في أيام الموسم فاشتراها رسول الله صلى الله عليه وسلم فربح فيها مالا فقسمه بين أصحابه وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد في قول الله تعالى "الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم" قال هذا أبو سفيان قال لمحمد صلى الله عليه وسلم موعدكم بدر حيث قتلتم أصحابنا فقال محمد صلى الله عليه وسلم "عسى" فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم لموعده حتى نزل بدرا فوافقوا السوق فيها فابتاعوا فذلك قول الله عز وجل "فانقلبوا بنعمة الله وفضل لم يمسسهم سوء" الآية.
قال وهي غزوة بدر الصغرى رواه ابن جرير وروى أيضا عن القاسم عن الحسين عن حجاج عن ابن جريج قال: لما عمد رسول الله صلى الله عليه وسلم لموعد أبي سفيان فجعلوا يلقون المشركين فيسألونهم عن قريش فيقولون قد جمعوا لكم يكيدونهم بذلك يريدون أن يرعبوهم فيقول المؤمنون حسبنا الله ونعم الوكيل حتى قدموا بدرا فوجدوا أسواقها عافية لم ينازعهم فيها أحد قال فقدم رجل من المشركين فأخبر أهل مكة بخيل محمد وقال في ذلك.
نفرت قلوصي من خيول محمــــد وعجوة منثورة كالعنجــــــد واتخذت ماء قديد موعدي
قال ابن جرير هكذا أنشدنا القاسم وهو خطأ إنما هو:
قد نفرت من رفقتي محمــــــد وعجوة من يثرب كالعنجـــــد
فهي على دين أبيهـا الأتلــد قد جعلت ماء قديد موعـد
وماء ضجنان لها ضحى الغد
(175) قال تعالى "إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه" أي يخوفكم أولياءه ويوهمكم أنهم ذوو بأس وذوو شدة قال الله تعالى "فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين" أي إذا سول لكم وأوهمكم فتوكلوا علي والجأوا إلي فإني كافيكم وناصركم عليهم كما قال تعالى "أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه" إلى قوله "قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون" وقال تعالى "فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا" وقال تعالى "أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون" وقال "كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز" وقال "ولينصرن الله من ينصره" وقال تعالى "يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم" الآية.
وقال تعالى "إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار".
(176) يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم "ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر" وذلك من شدة حرصه على الناس كان يحزنه مبادرة الكفار إلى المخالفة والعناد والشقاق فقال تعالى ولا يحزنك ذلك "إنهم لن يضروا الله شيئا يريد الله ألا يجعل لهم حظا في الآخرة" أي حكمته فيهم أنه يريد بمشيئته وقدرته أن لا يجعل لهم نصيبا في الآخرة "ولهم عذاب عظيم".
(177) قال تعالى مخبرا عن ذلك إخبارا مقررا "إن الذين اشتروا الكفر بالإيمان" أي استبدلوا هذا بهذا "لن يضروا الله شيئا" أي ولكن يضرون أنفسهم "ولهم عذاب أليم".
(178) قال تعالى "ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين" كقوله "أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون" وكقوله "فذرني ومن يكذب بهذا الحديث سنستدرجهم من حيث لا يعلمون وكقوله "ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون".