الحمد لله الذي فضل أولياءه بالدعوة إلى الصراط المستقيم ،

وأنعم عليهم بمفاصلة سبل أهل الجحيم ،


وثبتهم بمنه على دينه القويم ،

وأشهد أن لا إله إلا الله وحوه لا شريك له شهادة أرجو بها عند الله الزلفى والفوز بالنعيم ،

وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله الهادي بإذن ربه إلى الصراط المستقيم وأصلي وأسلم على محمد صاحب الخلق العظيم ...

ورضي الله عن الصحب الكرام والتابعين وعنا معهم بحق أن الله هو البر الرحيم ..

أما بعد :

فهذه فوائد تدبرية من كتاب رب البرية ، علَّها تشحذ همتي وهمم السامعين ، رجاء أن نكون على إثر من رفع الله بين الورى منارهم ، وخلَّد في التنزيل ذكرهم ، في ميادين الدعوة والجهاد ، من الذين جعلوا حياتهم وقفاً لبثّ نور ربهم ، فكافأهم الله بوقف علمهم نوراً لمن بعدهم ، لم يسألوا الناس على دعوتهم أجراً إخلاصاً لربهم ، فعوضهم الله أجور العاملين بعلمهم من بعدهم وهم في قبورهم ، من غير نقصان أجر العاملين شيئاً ، أوذوا في الله وهم في طريق الحق وأهينوا ، فجعل الله عاقبتهم في إكرام وتكريم ، أعلاهم وأغلاهم ، وأطيبهم وأهداهم ، وأنقاهم وأصفاهم ، وأرقاهم وأكرمهم ، نبينا محمدٌ عليه الصلاة والسلام ، الذي لا أحد يساميه في رفع الذكر ، وأنى لهم ذلك ، وأعقب الله ذكره بعد ذكره ، وامتن عليه بأسلوب العظمة والتعظيم فقال ممتناً عليه : ورفعنا لك ذكرك ، فلا يذكر اسم الله إلا وذكر رسول الله كما في الخطب والتشهد والتأذين ، قال حسان بن ثابت رضي الله عنه :


أغرٌ عليه للنبوة خاتم ****** من الله نور يلوح ويشهد

وضم الإله اسم النبي إلى اسمه *****إذا قال المؤذن في الخمس أشهد

وشق له من اسمه ليجله ***** فذو العرش محمود وهذا محمد

فهذا فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ، فكل من الله رفع ذكره من قبله ومن بعده فهو إما بالاقرار وإما بالاتباع ، وعلى قدر اتباع العبد لهذا النبي الأمين على قدر حظه من قول ربه : ورفعنا لك ذكرك ، وكل من عارضه بالكفر والابتداع كان له بقدر ذلك من قوله سبحانه : إن شانئك هو الأبتر ، ولما كان ذلك كذلك أحببت أن أتدبر بعض الآيات التي قصَّها الله علينا بذكر بعضهم بأوجز عبارة وأفصح بيان وأجمع كلام ، ومن العجب أن الله لم يورد لنا اسمه بل نكَّره وسنذكر بعض حكم ذلك في موضعه...

وهذا ما قص الله علينا من ذكره في سورة يس ، وهو ما يعرف بحبيب النجار ، وهذه التسمية إنما عرفناها في الإسرائيليات والتي هي من قبيل ما لا يصدق ولا يكذب كما قال ابن عثيمين رحمه الله وغيره من أهل التفسير ، وسيان كان هذا اسمه أم لا فإن ذلك لا يزيد في الإيمان شيء فإن الذي يهمنا من ذكر أمره من حاجات دعوية أو إيمانية أو منهجية فقد أخبرنا بها ربنا بأوجز عبارة وأيسر أسلوب وأجمع بيان ، وها قد آن الشروع في المقصود فبالله أبتدي وبه أستعين وعليه اتكالي وإليه أفوض أمري هو حسبي ونعم الوكيل ...

قال الله جل وعلا :
وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يقوم اتبعوا المرسلين اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون ..
فوائد الآية :

1 : لم يمنعه بعد المكان عن القيام بواجب الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ...

2 : تصوير بديع لحال مجيئه بصورة وصفية حقيقية وليست مجازية كما يتوهم البعض في كثير من آيات الكتاب ، والتي هي من قول الحق الذي لا يقول إلا الحق ، وتعالى الله أن يوصف شيءٌ من قوله وكلامه بالمجاز وهو الذي وصف قوله بقوله : { والله يقول الحق وهو يهدي السبيل }، وهذا اختيار أئمة التحقيق كابن تيمية وغيره الذين نفوا نفياً قاطعاً أن يكون في كلام ربنا ما هو مجاز ، واستدلوا بالآية المذكورة آنفاً وغيرها ومن السنة بمثل دعاء رسول الله : اللهم أنت الحق وقولك الحق ، فوصفُ الله لمجيئه بهيئة السعي فيه دلالات وأبعاد ومعان عميقة ، حيث تضمنت صورة وصفية ومدحاً من وجوه عديدة ، فصفة المجيء التي تفيد ترك الموطن والهجرة منه للانتصار لدين الله ولتبليغ ما أُمر بإبلاغه ، ثم ثنى بوصفه بالرجولة والتي تتضمن مدحاً وكمالاً في البنية ، والقيام بشكر الله على هذه النعمة، وفيه أن الرجولة والكمال في أن يكون الرجل مستعملاً في خدمة دين ربه ، وفيه الإشعار بقرائن الأوصاف أن مجيئه كان راجلاً ، وهو كناية على أن الرجل كان مغموراً فقيراً ليس من أهل الترف فلم يكن له مركوب ينقله بسرعة بقيامه بالمهام ، لذلك أضاف وصفاً على مجيئه وعلى رجولته ألا وهو صفة السعي ، فليس حاله كحال الكثير من مشائخ الوظائف والأوقاف والتصوف والطرق ، الذين تراهم يمشون الهوينى ، ويغضب إذا اتسخت جبته أو تجعلكت عباءته أكثر من غضبه إذا أُشرك بربه وعُدل به ، فالسعي الموصوف فيه كناية عن الإشفاق والحرص المترفع عن كل مطمع وضيع ، السامق في الملكوت الأعلى ، على قدر همته وعزيمته ، حيث لم يرض بالدون فحملته الغيرة إلى ميادين السباق وكان أمرهُ وسطاً ، فجاء مسارعاً بهيئة الساعي ليدل على كمال الحشمة مع علو الهمة لتأدية المهمة ، ليُوصِّل القول ويسمو في القمة ، فانظر بعد تعداد محاسنه ، جاء دور الوصف حال لُقْيا القوم : قال يا قوم ، واجههم بياء النداء والتي كثيراً ما استعملت في أيات الكتاب لاسترعاء السمع والتي غالباً ما تأتي قبل أمرٍ مهم أو نهي حتم ، ثم أردف بمناداتهم بمقام القومية ليشعرهم أنه منهم ، وهذا من أرقى أنواع التلطف في الدعوة إلى الله ، ليعلم كل داعية من بعده أن يترفق في الخطاب فلم ينادِ عليهم بالجهالة ولا بالضلالة ولا بالتسفيه ، بل ناداهم بما يستجلب أسماعهم ، وقد تضمن ذلك مدحاً للقول ومدحاً للأسلوب ، ثم شرع في المقصود : وهو التصريح باتباع من إذا اتبعوهم نجوا ألا وهم المرسلون ، للدلالة على أن النجاة باتباع الرسالة ، والناس أمامها إحدى ثلاث إما عالم رباني أو متعلم على سبيل النجاة وإما كأصحاب حبيب همج رعاع أتباع كل ناعق ، ولك أن تنظر إلى قوله الإجمالي ثم التفصيلي ، فأجمل لهم القول بأن ندبهم لاتباع المرسلين ، ويبدو أنهم لم يمتثلوا فاحتاج إلى التفصيل والبيان ، وهذا درس للدعاة بالبدء بالإجمال ، فإذا لم يحصل المطلوب وهو فهم السامع ، انتُقل من الخطاب المجمل إلى الخطاب المُفصل ، وهذه طريقة القرآن ، فإن القرآن يأتي بالإجمال أولاً ثم بالتفصيل ، وأعظم ما يدل على ذلك قول الله في أم الكتاب : إهدنا الصراط المستقيم، أجمل ثم فصل فقال : صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين .

وهذا ما فعله هذا الداعية الخبير رحمه الله فانتقل إلى التفصيل بأسلوب بديع فقال : اتبعوا من لا يسألكم أجراً وهم مهتدون .

وفي ذلك فوائد جمة :

1 : أنه متبع وليس بمبتدع ، فلم يدعُ إلى نفسه ، وهذه علامة فارقة يُعرف من خلالها أهل الاتباع من أهل الابتداع ، فأهل الاتباع أدلة على المرسل والرسالة ، وأهل الابتداع أدلة على أنفسهم وطرائقهم ومشائخهم ، تجده حريصاً على تعليقك به أكثر من حرصه على وصلك بالكتاب والسنة ..

2 : إثباته رحمه الله لأوصاف تدل على صدق المرسلين دليل على اتباع قومه لأشباههم المزورين ، وهؤلاء لا يخلو منهم زمان حتى يظهر الدجال الأكبر فهم الدجاجلة الصغار الذين يوطؤون له ، وجهادهم إيمان بحسب القدرة ولا ينتقل معهم من جهاد اللسان إلى غيره إلا بعد قيام الحجة والبيان .

3 : إيراده رحمه الله لوصفين غير منفكيْن للدلالة على صدق المرسلين ، وهو أنهم لا يسألون قومهم أجرا ، وهذا لا يكفي لأن بعض زنادقة دعاة التنصير والمبتدعة والمحرفة لا يسألون أجراً ظاهراً على دعوتهم ، فاحتاج إلى وصف مضاف يكون جامعاً مانعاً ودليلاً قاطعاً ألا وهو وصفهم بالهداية ، والهداية المقصودة هي الكاملة بشقيْها الإرشاد والتوفيق .

فلمَّا لم ينفع معهم أسلوب التفصيل بعد الإجمال ، انتقل إلى أسلوب آخر فلم يمل ولم يكل ، فاستدار بهيئة الخطاب لا إلى المخاطب ولا إلى الغائب ، بل إلى نفسه وهو يقصدهم فخاطب نفسه بصيغة استفهامية استنكارية فقال : وما لي لا أعبد الذي فطرني ، مع أنه يعبد الذي فطره ، لكنه يتفنن في توصيل القول وقد ضمَّن قوله تخويفاً وتهديداً ، فقال : وإليه ترجعون ، مع أنه كان يخاطب نفسه فلم يقل وإليه أُرجع إنما قال : وإليه ترجعون .. وكأنه في تذكيرهم بالفاطر يحاول هزَّ أعماق فطرتهم ، فلمَّا لم ينفع ذكَّرهم بالرجعة بصيغة المخاطب الوجاهية ، وكأنه يهزهم هزاً عنيفاً متقطعاً ، وكأني بهم قد استفاقوا بالهزة فزلقوه بأبصارهم ، فاستدار بخطابه إلى نفسه ليُسكن غضبهم ، فقال لنفسه وهو يقصدهم : أأْتخذ من دونه آلهة ، وكأنه يقول إني سفيه إن اتخذت إلهاً غير الذي فطرني ، ولماذا أتخذ إلهاً غير الله ، وكل المألوهات عاجزة عن كشف الضر ، ولا تغنِ عني من كشف الضر إن كُتب لي شيئاً ، فقال : { إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفعتهم شيئاً ولا يُنقذون }، وانظر إلى ذوقه في إيراد اسم الرحمن في مقام الضر ليفيد أن الضر لا يستدفع إلا باستجلاب الرحمة والتذلل للرحمن ، كما فعل أيوب عليه السلام : إني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين، فأعقب الله قوله بفاء التعقيب والترتيب فاستجبنا له وكشفنا ما به من ضر ، فأفادنا هذا أن الضر يستدفع بالرحمن لا باللجأ للأوثان والكهان والعرافين والطواغيت ، وأنها كلها لا تنقذ بل الذي ينقذ هو من بيده الأمر من قبل ومن بعد وإليه يرجع الأمر كله فاطر السموات والأرض ..

ولمَّا لم ينفع معهم كل هذه الوسائل وتبين أنهم مطموس على أعينهم ومغلفة قلوبهم استدعاه ذلك أن يغضب لله غضبةً غير آبهٍ بالنتيجة وحيداً فريداً لكنه يستشعر معية ربه _ كما كانت معية الله مع موسى حينما أُرسل لبلاغ فرعون _ فقال : إني إذاً لفي ضلال مبين ، أي ضلال واضح جلي ، فجاءت الصرخة المدوية التي تعرب عن العزة بالله : إني آمنت بربكم فاسمعون ، أي إسمعوني كلكم فإني أعلن جهاراً إيماني ولم يقل بربي بل قال بربكم ففهموا اعتزازه بربه وتسفيهه آلهتهم مما استدعى فوران حنقهم ورعونة أخلاقهم وسفاهة أحلامهم فلم يتمالكوا أن قتلوه ، فقال الله بعدها مباشرة من دون أي حرف يفيد التراخي لا ثم ولا فاء الترتيب والتعقيب ، قيل ادخل الجنة ، وكذا جاء تصوير حاله أيضاً بلا أي حرف ، قال ياليت قومي يعلمون ، وهنا يقول ابن عباس رضي الله عنهما : رحمه الله نصح قومه حياً وميتاً ، ثم صور لنا حاله ومآله : بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين ، فهذا هو الإكرام الحق ، الإكرام أن يكرمك الله ، وأي إكرام أعظم من أن يجعل لك ذكراً في عقبك ، فانظر إلى هذا المكرم كيف رفع الله ذكره فكم ترحمت عليه الألسن وكم تأثر به دعاة ، وكم مضى على دربه الماضون ، وروحه ترقى في عليين تسرح في الجنة حيثما تشاء ثم تأوي إلى ظل العرش ، فياهنتاه على هذا الإكرام ، وإكرام الله ليس لأهل الترف والطغيان ، الذين يصدون عن سبيل الله ، فهؤلاء يوم القيامة أحق بقوله سبحانه : ذق إنك أنت العزيز الكريم ، وهم أحق بقوله سبحانه : ومن يهن الله فما له من مكرم ، فنسأل الله أن يجعلنا من المكرمين وأن يستعملنا في طاعته وأن يصنعنا على عينه وأن نكون ممن حمل أمانة العلم والبلاغ ، هذا ما تيسر إعداده وهو جهد المقل فما كان من صواب فمن الله وحده وما كان من خطأ أو سهو أو نسيان فمني ومن الشيطان والله ورسوله منه براء ، والله تعالى أعلم وأحكم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد والحمد لله أولاً وآخراً ..

كتبه أخوكم مصباح الحنون

طرابلس الشام حرسها الله

في جمعة 5 شوال1433