بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن وآلاه و بعد :
فهذه إشكالات بعث إلي بها بعض الطلبة ممن درسوا علي في شرح الورقات واللمع وبداية جمع الجوامع تتعلق بجمع الجوامع وهي إشكالات خاصة بالمقدمات ونسأل الله أن ييسر إكمال باقي الإشكال إلى نهاية الكتاب وبه التوفيق.
كتبه/ سعيد عيظة الجابري
saeedAlgabry1980@hotmail.com
س1 هل هناك فرق بين حكم الانتفاع بالأشياء قبل ورود الشرع ، ومسألة انتفاء الحكم قبل ورود الشرع ؟
ج1: هنا مسألتان:
المسألة الأولى:
انتفاء الحكم قبل ورود الشرع:
الصحيح أنه لا حكم قبل ورود الشرع بل الأمر موقوف إلى وروده وخالفت المعتزلة فالعقل يحكم تبعا لصفة الحسن والقبح في الفعل فزعموا أن الأفعال في حد ذاتها بقطع النظر عن أوامر الشرع ونواهيه يدرك العقل أحكامها وتستفاد منه، وإنما يجيء الشرع مؤكداً لذلك، فهو كاشف لتلك الأحكام التي يثبتها العقل، وبنوا عليه تحكيم العقل أي إدراكه الحكم في الأفعال قبل البعثة
قالوا فالضروري منها كالنفس في الهواء مقطوع بإباحته، والاختياري ينقسم إلى الأقسام الخمسة الواجب وغيره، فما أشتمل على مفسدة فعله فحرام كالظلم، أو تركه فواجب كالعدل، أو على مصلحة فعله فمندوب كالإحسان أو تركه فمكروه وإن لم يشتمل على مصلحة أو مفسدة فمباح، فإن لم يدرك العقل فيه مفسدة ولا مصلحة كأكل الفاكهة فلهم أقوال ثلاثة الحظر والإباحة والوقف.
المسألة الثانية:
اختلف في مسألة الانتفاع بالأشياء قبل ورود الشرع على أقوال قيل هي على الإباحة وهو قول معتزلة البصرة وقيل على الحظر وهو قول معتزلة بغداد وأبي عبد الله الزبيري وابن أبي هريرة من الشافعية وقيل بالوقف وهو قول كثير من الشافعية وقول أبي الحسن الأشعري وسبب الوقف عند أصحابنا هو كونها حصلت قبل الشرع ولا حكم لها قبل الشرع لأن الحكم منتف قبله ولا إشكال بين المسألتين فمن قال في الأولى إن الحكم منتف قبل ورود الشرع وقال في الثانية إنه لا حكم للأشياء قبل ورود الشرع لم يقع في تناقض كما هو ظاهر وهذا الخلاف في المسألة الثانية مبني عند ابن السمعاني في القواطع على الخلاف في المسألة الأولى.
لكن من قال بالإباحة من أصحابنا ليس قاله موافقة لمذهب الأعتزال بل لمدرك شرعي مثل قوله تعالى "خلق لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه".
لعل وجه الإشكال هو الاشتباه بين المسألة الثانية وهي مسألة الانتفاع بالأشياء قبل ورود الشرع وبين مسألة يذكرها الأصوليون في الأدلة المختلف فيها وهي الأصل في المنافع الإباحة هذه ممكن تشكل ـ في باديء الأمر ـ مع القول بأنه لا حكم قبل الشرع.
والحمد لله لا إشكال إن شاء الله لأن المراد بهذه المسألة الأصل في المنافع الإباحة أي بعد ورود الشرع ولهذا يعبرون عنها كما قال الزركشي رحمه الله بالإباحة.

س2 ما فائدة الخلاف مع المعتزلة في مسألة تعلق الأمر بالمعدوم تعلقاً معنوياً ؟
المعتزلة تمنع تعلق الأمر بالمعدوم تعلقا معنويا والأشاعرة أثبتته وأصل الكلام في هذه المسألة ـ كما قال الزركشي رجمه الله ـ أن الأشاعرة لما أثبتوا الكلام النفسي وأن الله تعالى لم يزل آمرا ناهيا مخبرا قيل عليهم من قبل المعتزلة القائلين بحدوثه: إن الأمر والنهي بدون المخاطب عبث فاضطرب الأشاعرة في التخلص من ذلك على فرقتين إحداهما قالت: إن المعدوم في الأزل مأمور على معنى تعلق الأمر به في الأزل على تقدير الوجود واستجماع شرائط التكليف لا أنه مأمور حال عدمه فإن ذلك مستحيل بل هو مأمور بتقدير الوجود بمعنى أنه يجوز أن يكون الأمر موجودا في الأزل ثم إن الشخص الذي سيوجد بعد ذلك يصير مأمورا بذلك الأمر وأقرب مثال لذلك الوكالة فإن تعليقها باطل على الذهب ولو نجز الوكالة وعلق التصرف على شرط جاز وهو الآن وكيل وكالة منجزة ولكنه لا يتصرف إلا على مقتضاها وهو وجدان الشرط.
الفرقة الثانية قالت إنه كان في الأزل آمر من غير مأمور ثم لما استمر وبقي صار المكلفون بعد دخولهم في الوجود مأمورين بذلك الأمر وضربوا لذلك مثالا وهو أن الإنسان إذا قرب موته قبل ولادة ولده فربما يقول لبعض الناس إذا أدركت ولدي فقل له إن أباك كان يأمرك بتحصيل العلم فهاهنا قد وجد الآمر والمأمور معدوم حتى لو بقي ذلك الأمر إلى أوان بلوغ ذلك الصبي لصار مأمورا بِه.
وفائدة الخلاف بين الأشاعرة ومن نحا منحاهم وبين المعتزلة تظهر في الاستدلال قال أبو الخطاب الحنبلي: فائدة الخلاف أنه إذا احتج علينا بأمر أو خبر يلزمنا على الحد الذي كان يلزمنا لو كنا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم موجودين من غير قياس إن قلنا الأمر يتناول المعدوم وإن قلنا لا يتناوله فيحتاج إلى قياس أو دليل آخر لإلحاق الموجود في هذا الزمان بالموجود في ذلك الزمان.
س3 ما الفرق بين السبب والشرط والعلة ؟ لو تكرمتم التوضيح مع المثال – إن أمكن - ؟
الشبه بين العلة والسبب أشد من الشبه بين الشرط والسبب لذا كان الاعتناء ببيان الفرق بين السبب والعلة آكد من الاعتناء ببيان الفرق بين السبب والشرط فنتكلم أولا عن:
الفرق بين السبب والشرط:
فالسبب هو الذي يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم لذاته والشرط ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته وحينئذ فالمعتبر في الشرط عدمه وفي السبب وجوده وعدمه وهذا فارق عظيم يتعلق بماهية كل من السبب والشرط ومثاله زوال الشمس سبب لوجوب صلاة الظهر والوضوء شرط فالزوال معتبر في الصلاة الحكم الشرعي من حيث الوجود ومن حيث العدم فمتى ما زالت الشمس وجبت الصلاة وإذا لم تزل لم تجب الصلاة والوضوء معتبر في الصلاة من حيث العدم فمن لم يتوضأ لم تصح صلاته فيلزم من عدمه عدم الصلاة لكن غير معتبر من جانب الوجود فمن توضأ لا يلزم من وضوئه وجود الصلاة.
وكذلك الزكاة لها سبب وشرط فالسبب النصاب والشرط الحول.
فالنصاب معتبر في الزكاة ـ الحكم الشرعي ـ من حيث الوجود والعدم فمن لم يبلغ ماله نصابا لا زكاة عليه ومن بلغ ماله نصابا عليه الزكاة, وأما الحول فهو معتبر في الزكاة من حيث العدم فمن لم يحل الحول على ماله لا زكاة عليه وأما من حيث الوجود فهو غير معتبر فمن حال على ماله الحول لا زكاة عليه إذا لم يبلغ نصابا.
فإن قيل: لما لم نعكس ونجعل الحول هو السبب والنصاب الشرط؟
قيل كما قال الزركشي في تشنيف المسامع وهو يعد أيضا فارقا ثانيا بين السبب والشرط: لأن الشارع إذا رتب حكما عقب أوصاف فإن كانت كلها مناسبة فالجميع علة كالقتل العمد العدوان وإن ناسب البعض في ذاته دون البعض فالمناسب في ذاته سبب والمناسب في غيره شرط فالنصاب يشتمل على الغنى ونعمة الملك في نفسه والحول مكمل لنعمة الملك بالتمكين بالتنمية في جميع الحول فهو شرط.
وأما الفرق بين السبب والعلة:
فاعلم أنهما في علم الكلام ـ كما في البحر ـ يشتركان في توقف المسبب عليهما ويفترقان من وجهين:
أحدهما: أن السبب ما يحصل الشيء عنده لا به كالشرب سبب للري فيحصل الري عند الشرب لا به والعلة ما يحصل به فالحرمة حاصلة بالإسكار في الخمر.
والثاني: أن المعلول متأخر عن علته بلا واسطة ولا شرط يتوقف الحكم على وجوده كالكسر والانكسار فالكسر علة للانكسار وهو يحصل عقبه من غير واسطة ولا شرط يتوقف عليه والسبب إنما يقتضي الحكم بواسطة أو بوسائط ولذلك يتراخى الحكم عنه حتى توجد الشرائط وتنتفي الموانع كما في الأبوة سبب للإرث لكن الحكم وهو الإرث متراخ عنه لتوقفه على شروط وانتفاء موانع كالقتل مثلا وأما العلة فلا يتراخى الحكم عنها إذا اشترط لها بل هي أوجبت معلولا بالاتفاق حكى الاتفاق إمام الحرمين والآمدي وغيرهما.
وأما في علم الأصول فقال الآمدي في جدله: العلة في لسان الفقهاء تطلق على المظنة أي الوصف المتضمن لحكمة الحكم كما في القتل العمد العدوان فإنه يصح أن يقال قتل لعلة القتل وتارة يطلقونها على حكمة الحكم كالزجر الذي هو حكمة القصاص فإنه يصح أن يقال العلة الزجر وأما السبب فلا يطلق إلا على مظنة المشقة دون الحكمة إذ بالمظنة يتوصل إلى الحكم لأجل الحكمة.أهـ.
ومن ناحية أخرى فالسبب أعم من العلة حيث يطلق على معقول المعنى وغير معقول المعنى، فمثال إطلاق السبب على ما لا يعقل معناها جعل دخول الوقت سبباً في وجوب الصلاة كما في قوله تعالى : ) أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهوداً( حيث دلت الآية على أن دخول الوقت سبب في وجوب الصلاة وجعله سببا لوجوب صلاة الظهر غير معقول المعنى.
س4 المانع نوعان :
مانع سبب ، ومانع حكم ما الفرق بينهما بالمثال ؟
ج: المانع عند الاطلاق ينصرف إلى مانع الحكم وأما مانع السبب فلا يذكر إلا مقيدا به ومانع الحكم هو الذي يذكر في الأحكام الوضعية وهو الوصف الوجودي الظاهر المنضبط المعرف نقيض حكم السبب فالظاهر أخرج الخفي كشفقة الأب فليست مانعة من القصاص لخفائها والمنضبط أخرج المضطرب فليس مانعا كإحسان الأب بالتربية فإنها غير مانعة من القصاص لأنها غير منضبطة لاختلافها من أب لآخر و مثال ما استجمع القيود الأبوة في باب القصاص فإنها مانعة من وجوب القصاص المسبب عن القتل لمانع الأبوة وهو كون الأب سببا لوجود الولد ، فلا يحسن كونه سببا لعدمه ، فينتفي الحكم مع وجود مقتضيه وهو القتل لوجود المانع للحكم وسمي هذا مانع الحكم لأن سببه وهو القتل مع بقاء حكمته لا يؤثر.
وأما مانع السبب فهو الوصف الوجودي المشتمل على ما يخل بحكمة العلة كالدين في الزكاة إن قلنا إنه مانع من الوجوب فإن حكمة السبب ـ الذي هو النصاب ـ مواساة نحو الفقراء من فضل المال وهي مفقودة هنا لأن الدين أخل بها إذ ليس مع الدين فضل يواسى به وسمي هذا مانع السبب لأن حكمته وهي المواساة بفضل المال فقدت مع وجود صورته فقط وهو النصاب.
وهذا يذكرونه في باب العلة لأنه لابد في العلة من اشتمالها على حكمة تدعو إلى الامتثال، فلذا كان مانعها وصفا وجوديا يخل بحكمتها كما في المثال, فإن لم يخل بحكمتها بل بالحكم فقط والحكمة باقية ، سمي مانع الحكم كما تقدم فإن الحكمة باقية وهو كون الأب سببا في وجود الابن فالأبوة إنما أخلت بالحكم فقط وهو القصاص.
س5 قال المؤلف – رحمه الله – في تعريف السبب ( ما يضاف إليه الحكم للتعلق به من حيث إنه معرف أوغيره ).
قال في الشرح : أو غيره : أي : غير معرف له أي مؤثر فيه بذاته كالزوال أو بإذن الله تعالى ، أو باعث عليه .
ما معنى ( باعث عليه ) هنا مع الإيضاح بمثال ؟
اختلف في تعريف السبب اصطلاحا وهذه الأقوال جمعها ابن السبكي رحمه الله في تعريفه: ما يضاف إليه الحكم للتعلق به من حيث إنه معرف أوغيره.
القول الأول: أنه ما يضاف إليه الحكم للتعلق به من حيث إنه معرف.
والثاني: ما يضاف إليه الحكم للتعلق به من حيث إنه مؤثر بذاته وهذا قول المعتزلة.
الثالث: ما يضاف إليه الحكم للتعلق به من حيث إنه مؤثر بذات الله وهذا قول الغزالي.
الرابع: ما يضاف إليه الحكم للتعلق به من حيث إنه باعث على الامتثال وهذا قول الآمدي.
ومعنى "باعث عليه" أنه باعث على فعل المكلف الذي هو الامتثال مثاله حفظ النفوس فإنه علة باعثة للمكلف على القصاص الذي هو فعل المكلف المحكوم به من جهة الشرع ولكن هذا القول هل ينافي القول بأن أحكام الله لا تعلل كما تقول به الأشاعرة أم لا ينافيه؟
قال الزركشي: قال بعض المتأخرين اشتهر عند المتكلمين أن أحكام الله تعالى لا تعلل واشتهر عند الفقهاء التعليل وأن العلة بمعنى الباعث ويتوهم كثير من الناس أنها الباعث للشرع فيتناقض كلام الفقهاء وكلام المتكلمين وليس كذلك ولا تناقض.
ودفع التناقض المتوهم هو أن العلة والسبب باعث للمكلف على الامتثال كما سبق إيضاحه وأما حكم الشرع فليسا باعثين عليه لأنه قادر أن يحفظ النفوس بغير ذلك وإنما يتعلق أمره بحفظ النفوس وهو مقصود في نفسه وبالقصاص لأنه وسيلة إليه فكلاهما مقصود للشارع حفظ النفوس قصد المقاصد والقصاص قصد الوسائل وأجرى الله العادة أن القصاص سبب للحفظ فإذا قصد بأداء فعل المكلف من السلطان والقاضي وولي الدم القصاص وانقاد إليه القاتل امتثالا لأمر الله تعالى ووسيلة إلى حفظ النفوس كان له أجران أجر على القصاص وأجر على حفظ النفوس وكلاهما مأجور به من جهة الله تعالى أحدهما بقوله كتب عليكم القصاص والثاني إما بالاستنباط أو بالإيمان بقوله ولكم في القصاص حياة.
وإذا قلنا: إن العلة معرفة كما هو القول الأول وهو قول أكثر من الأشاعرة فدفع الإشكال واضح وهو أن المعرف للشيء لا يؤثر فيه وليس باعثا عليه فهو يتفق مع قولهم في أصول الدين بنفي التعليل.
س6:

قال المؤلف رحمه الله : القبيح : المنهي ولو بالعموم ، فدخل خلاف الأولى
ما وجه جعل خلاف الأولى من القبيح ، مع أنه لا يذم عليه فعله ؟


ج6:
الحسن هو فعل المكلف المأذون فيه شرعاً وفعل المكلف الذي أذن فيه الشارع هو الواجب والمندوب والمباح فلا تخرج أقسام الحسن عن هذه الثلاثة والقبيح فعل المكلف المنهي عنه شرعاً ولو كان منهياً عنه بالنهي المستفاد من العموم، كالمستفاد من أوامر الندب، فيدخل فيه خلاف الأولى كما يدخل فيه الحرام و المكروه وقال إمام الحرمين في الشامل ليس المكروه ولا خلاف الأولى قبيحاً، لأنه لا يذم عليه، وإنما يلام فقط، ولا حسناً لأنه لا يسوغ الثناء عليه بخلاف المباح فإنه يسوغ الثناء عليه وإن لم يؤمر به، وتبعه التاج السبكي في شرح مختصر ابن الحاجب.
وهذا الخلاف الحاصل بينهم في عد بعض أقسام الفعل من القبيح أو من الحسن سببه الاختلاف في تعريف القبيح والحسن ولذا قال الزركشي رحمه الله: وقد اضطرب أصحابنا في الفصل بينهما أهـ.
وقال الأستاذ أبو إسحاق الاسفراييني : الحسن هو المأذون فيه شرعا فدخل المباح وهذا يقرب من تعريف جمع الجوامع.
وبعضهم قال القبيح ما نهي عنه شرعا وبعضهم قال القبيح ما يذم فاعله.
نرجع إلى الإشكال الوارد في السؤال ولو دققنا النظر فيه لوجدنا أنه في غير محله وأنه غير وارد على تعريف جمع الجوامع بيان ذلك أن صاحب الجمع عرف القبيح بالمنهي عنه شرعا ولو بالعموم فدخل خلاف الأولى لأنه منهي عنه والتعليل في الإشكال كان بتعريف آخر وهو الذم على الفعل فلو قال صاحب الجمع: القبيح ما ذم فاعله, ثم مع هذا جعل خلاف الأولى قبيحا فهذا لا يستقيم كما قلت أنت لأنه لا يذم عليه لكن طالما أنه اختار في تعريف القبيح ما نهي عنه ولو بالعموم فلا إشكال في عد المكروه وخلاف الأولى من القبيح لأنهما منهيان عنهما وفي تعليل إمام الحرمين السابق إشارة إلى هذا. والله أعلم.
س7:
قرر المؤلف - رحمه الله - أن المندوب غير مأمور به وكذا المباح ، فما هو الراجح عند الجمهور من المتكلمين ؟
ج7:

قال القاضي أبو الطيب في شرح الكفاية الصحيح من مذهب الشافعي أن المندوب مأمور به وقد نص عليه الشافعي في كتبه.
وعن الشيخ أبي الحسن الأشعري أنه غير مأمور به حقيقة بل مجازا.
هذا في المندوب.
وأما المباح فالجمهور على أنه غير مأمور به وقال الكعبي من المعتزلة إنه مأمور به وحكي عن أبي بكر الدقاق بل نسب إلى معتزلة بغداد.
والخلاف في كون المندوب مأمور أقوى من الخلاف في كون المباح مأمور به وذلك لقرب درجة المندوب من درجة الواجب الذي هو مأمور به بلا خلاف ولاشتراكهما في القدر المشترك وهو طلب الفعل.
وابن السبكي رحمه الله ممن كتب على طريقة المتكلمين في الأصول وهو اختار أن كلا من المندوب والمباح غير مأمور بهما واختاره الرازي في المحصول.
لكن الأهم من هذا هو أثر الخلاف في الفروع والصحيح أن الخلاف في كون المندوب مأمورا به ليس لفظيا بل معنوي يظهر أثره في مثل ما لو قال الراوي: أمرنا بكذا أو أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا.
س8:
المسألة الثامنة : ما معنى قول المؤلف رحمه الله (المباح ليس بجنس للواجب))أي أن المباح ليس جنساً يدخل تحته الواجب والمندوب ، بل هو حكم مستقل بذاته ، لأن الراجح أن التكليف الزام ما فيه كلفة ، والمباح ليس الزام بما فيه كلفة .


ج8:
هل المباح جنس للواجب والجائز بالمعنى الأخص أم لا والمراد بالمعنى الأخص ما لفاعله أن يفعله مع جواز تركه وبالأهم ما لفاعله أن يفعله فيدخل فيه الواجب والمندوب؟
الأصح أن المباح ليس بجنس للواجب بل هما نوعان لجنس وهو فعل المكلف الذي تعلق به حكم شرع إذ لو كان المباح جنسا للواجب لاستلزم النوع وهو الواجب التخيير فيه، ضرورة استلزام النوع لجنسه كما أن الناطقية تستلزم الحيوانية لأنها نوع لها لأن الناطق إلا يكون إلا حيوانا، فيكون الواجب مخيرا ، وهو باطل.
وقيل إن المباح جنس للواجب لأن المباح مأذون في فعله وتحته أنواع الواجب والمندوب والمخير فيه والمكروه الشامل لخلاف الأولى واختص الواجب بفصل المنع من الترك.
قلنا واختص المباح أيضا بفصل الإذن في الترك على السواء فيكون المباح نوعا من أنواع أفعال المكلف مثل الواجب. وأنتم تركتم فصل المباح الذي به يتميز عن الواجب ، وهو الإذن في الترك على السواء ثم توهمتم الجنسية ثابتة في المباح.
والخلاف بين القولين لفظي يرجع إلى تفسير المباح.
قال ابن شهاب في الترياق النافع: وهذان القولان مبنيان على تفسير المباح، فمن فسره بالتخيير بين الفعل والترك قال: إنه ليس جنساً للواجب، لأنه لو كان جنساً للواجب كان الواجب مخيراً فيه بين الفعل والترك وهو محال، ومن فسره بعدم الحرج قال أنه جنس للواجب، وثبوت عدم الحرج للواجب صحيح، ولهذا كان الخلاف لفظياً.
س9:
تكلم المؤلف - رحمه الله - عن تحريم شي لا بعينه ، فهل ورد في الشرع ؟

ج9:
الحرام المخير الخلاف فيه كالخلاف في الواجب المخير وقال بإثبات الواجب المخير جمهور العلماء ونفاه المعتزلة, وكذلك نفت المعتزلة ومن معهم الحرام المخير والصواب إثباته فقد يرد التخيير بين ضدين لا ثالث لهما, والمعنى ملائمة المكلف أحد الضدين الذي اختار وآثره على نقيضيه ، مثل : أنهاك عن الحركة ، أو السكون ، أحببت أيهما شئت ، ولا تأكل اللبن أو السمك ، فقد منعتك عن أحدهما مبهما ، لا عن كليهما جميعا ، ولا عن أحدهما معينا لأنه أمر بترك أحدهما فلا يجب تركهما كما لو أمر بفعل أحدهما لم يجب فعلهما.
واحتجت المعتزلة بأن ما كان منهيا عنه مع غيره كان منهيا عنه بانفراده كسائر المحظورات.
ورد هذا إمام الحرمين في البرهان حيث قال: هذا يبطل بنكاح إحدى الأختين فإنه منهي عنه مع نكاح أختها وليس بمنهي عنه عند الانفراد.
وهذه المسألة كما قلنا هي كمسألة الواجب المخير لكن فيها زيادة ، وهي دعوى بعض المخالفين كما نقل المازري أن اللغة لم ترد بذلك قال : ألا ترى أن قوله سبحانه (ولا تطع منهم آثما أو كفورا) محمول على أنه نهى عن طاعتهما .
قال المازري : وهذا ليس بشيء ، قال : ولولا الإجماع على أن المراد في الشرع النهي عن طاعة الجميع لم تحمل الآية على ذلك أهـ
فالآية فيها دلالة على المسألة لكن منعنا من حمل الآية على التخيير الإجماع.
فهذا مثال للمسألة.
قال أبو حيان في الارتشاف كما نقله تلميذه ابن السبكي في الأشباه: وإذا نهيت عن المباح استوعب ما كان مباحًا باتفاق من النحاة ، ومنه {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ كَفُورًا} وإذا نهيت عن المخير فيه فذهب السرافي إلى أنه يستوعب الجميع كالنهي ، وذهب ابن كيسان إلى جواز أن يكون النهي عن واحد وعن الجميع.
وإذا نهى عن أحد شيئين كان ذلك نهيا عن الجمع بينهما ويجوز فعل أحدهما.أهـ
ومذهب المعتزلة في الحرام المخير هو أن الكل حرام كما قالوا في الواجب المخير: الكل واجب.
وأما عند الجمهور ممن أثبت الحرام المخير فالمحرم هو شيء واحد لا بعينه ويجوز للمكلف فعل أحدهما لكن ما دام لم يعين ، لا يجوز له الإقدام على شيء منها ومن أمثلة هذه المسألة: لو ملك أختين ووطئهما حرمت إحداهما لا بعينها حتى تخرج الأخرى عن ملكه.
والله تعالى أعلم




بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن وآلاه و بعد :
فهذه إشكالات بعث إلي بها بعض الطلبة ممن درسوا علي في شرح الورقات واللمع وبداية جمع الجوامع تتعلق بجمع الجوامع وهي إشكالات خاصة بالمقدمات ونسأل الله أن ييسر إكمال باقي الإشكال إلى نهاية الكتاب وبه التوفيق.
كتبه/ سعيد عيظة الجابري
saeedAlgabry1980@hotmail.com
س1 هل هناك فرق بين حكم الانتفاع بالأشياء قبل ورود الشرع ، ومسألة انتفاء الحكم قبل ورود الشرع ؟
ج1: هنا مسألتان:
المسألة الأولى:
انتفاء الحكم قبل ورود الشرع:
الصحيح أنه لا حكم قبل ورود الشرع بل الأمر موقوف إلى وروده وخالفت المعتزلة فالعقل يحكم تبعا لصفة الحسن والقبح في الفعل فزعموا أن الأفعال في حد ذاتها بقطع النظر عن أوامر الشرع ونواهيه يدرك العقل أحكامها وتستفاد منه، وإنما يجيء الشرع مؤكداً لذلك، فهو كاشف لتلك الأحكام التي يثبتها العقل، وبنوا عليه تحكيم العقل أي إدراكه الحكم في الأفعال قبل البعثة
قالوا فالضروري منها كالنفس في الهواء مقطوع بإباحته، والاختياري ينقسم إلى الأقسام الخمسة الواجب وغيره، فما أشتمل على مفسدة فعله فحرام كالظلم، أو تركه فواجب كالعدل، أو على مصلحة فعله فمندوب كالإحسان أو تركه فمكروه وإن لم يشتمل على مصلحة أو مفسدة فمباح، فإن لم يدرك العقل فيه مفسدة ولا مصلحة كأكل الفاكهة فلهم أقوال ثلاثة الحظر والإباحة والوقف.
المسألة الثانية:
اختلف في مسألة الانتفاع بالأشياء قبل ورود الشرع على أقوال قيل هي على الإباحة وهو قول معتزلة البصرة وقيل على الحظر وهو قول معتزلة بغداد وأبي عبد الله الزبيري وابن أبي هريرة من الشافعية وقيل بالوقف وهو قول كثير من الشافعية وقول أبي الحسن الأشعري وسبب الوقف عند أصحابنا هو كونها حصلت قبل الشرع ولا حكم لها قبل الشرع لأن الحكم منتف قبله ولا إشكال بين المسألتين فمن قال في الأولى إن الحكم منتف قبل ورود الشرع وقال في الثانية إنه لا حكم للأشياء قبل ورود الشرع لم يقع في تناقض كما هو ظاهر وهذا الخلاف في المسألة الثانية مبني عند ابن السمعاني في القواطع على الخلاف في المسألة الأولى.
لكن من قال بالإباحة من أصحابنا ليس قاله موافقة لمذهب الأعتزال بل لمدرك شرعي مثل قوله تعالى "خلق لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه".
لعل وجه الإشكال هو الاشتباه بين المسألة الثانية وهي مسألة الانتفاع بالأشياء قبل ورود الشرع وبين مسألة يذكرها الأصوليون في الأدلة المختلف فيها وهي الأصل في المنافع الإباحة هذه ممكن تشكل ـ في باديء الأمر ـ مع القول بأنه لا حكم قبل الشرع.
والحمد لله لا إشكال إن شاء الله لأن المراد بهذه المسألة الأصل في المنافع الإباحة أي بعد ورود الشرع ولهذا يعبرون عنها كما قال الزركشي رحمه الله بالإباحة.

س2 ما فائدة الخلاف مع المعتزلة في مسألة تعلق الأمر بالمعدوم تعلقاً معنوياً ؟
المعتزلة تمنع تعلق الأمر بالمعدوم تعلقا معنويا والأشاعرة أثبتته وأصل الكلام في هذه المسألة ـ كما قال الزركشي رجمه الله ـ أن الأشاعرة لما أثبتوا الكلام النفسي وأن الله تعالى لم يزل آمرا ناهيا مخبرا قيل عليهم من قبل المعتزلة القائلين بحدوثه: إن الأمر والنهي بدون المخاطب عبث فاضطرب الأشاعرة في التخلص من ذلك على فرقتين إحداهما قالت: إن المعدوم في الأزل مأمور على معنى تعلق الأمر به في الأزل على تقدير الوجود واستجماع شرائط التكليف لا أنه مأمور حال عدمه فإن ذلك مستحيل بل هو مأمور بتقدير الوجود بمعنى أنه يجوز أن يكون الأمر موجودا في الأزل ثم إن الشخص الذي سيوجد بعد ذلك يصير مأمورا بذلك الأمر وأقرب مثال لذلك الوكالة فإن تعليقها باطل على الذهب ولو نجز الوكالة وعلق التصرف على شرط جاز وهو الآن وكيل وكالة منجزة ولكنه لا يتصرف إلا على مقتضاها وهو وجدان الشرط.
الفرقة الثانية قالت إنه كان في الأزل آمر من غير مأمور ثم لما استمر وبقي صار المكلفون بعد دخولهم في الوجود مأمورين بذلك الأمر وضربوا لذلك مثالا وهو أن الإنسان إذا قرب موته قبل ولادة ولده فربما يقول لبعض الناس إذا أدركت ولدي فقل له إن أباك كان يأمرك بتحصيل العلم فهاهنا قد وجد الآمر والمأمور معدوم حتى لو بقي ذلك الأمر إلى أوان بلوغ ذلك الصبي لصار مأمورا بِه.
وفائدة الخلاف بين الأشاعرة ومن نحا منحاهم وبين المعتزلة تظهر في الاستدلال قال أبو الخطاب الحنبلي: فائدة الخلاف أنه إذا احتج علينا بأمر أو خبر يلزمنا على الحد الذي كان يلزمنا لو كنا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم موجودين من غير قياس إن قلنا الأمر يتناول المعدوم وإن قلنا لا يتناوله فيحتاج إلى قياس أو دليل آخر لإلحاق الموجود في هذا الزمان بالموجود في ذلك الزمان.
س3 ما الفرق بين السبب والشرط والعلة ؟ لو تكرمتم التوضيح مع المثال – إن أمكن - ؟
الشبه بين العلة والسبب أشد من الشبه بين الشرط والسبب لذا كان الاعتناء ببيان الفرق بين السبب والعلة آكد من الاعتناء ببيان الفرق بين السبب والشرط فنتكلم أولا عن:
الفرق بين السبب والشرط:
فالسبب هو الذي يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم لذاته والشرط ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته وحينئذ فالمعتبر في الشرط عدمه وفي السبب وجوده وعدمه وهذا فارق عظيم يتعلق بماهية كل من السبب والشرط ومثاله زوال الشمس سبب لوجوب صلاة الظهر والوضوء شرط فالزوال معتبر في الصلاة الحكم الشرعي من حيث الوجود ومن حيث العدم فمتى ما زالت الشمس وجبت الصلاة وإذا لم تزل لم تجب الصلاة والوضوء معتبر في الصلاة من حيث العدم فمن لم يتوضأ لم تصح صلاته فيلزم من عدمه عدم الصلاة لكن غير معتبر من جانب الوجود فمن توضأ لا يلزم من وضوئه وجود الصلاة.
وكذلك الزكاة لها سبب وشرط فالسبب النصاب والشرط الحول.
فالنصاب معتبر في الزكاة ـ الحكم الشرعي ـ من حيث الوجود والعدم فمن لم يبلغ ماله نصابا لا زكاة عليه ومن بلغ ماله نصابا عليه الزكاة, وأما الحول فهو معتبر في الزكاة من حيث العدم فمن لم يحل الحول على ماله لا زكاة عليه وأما من حيث الوجود فهو غير معتبر فمن حال على ماله الحول لا زكاة عليه إذا لم يبلغ نصابا.
فإن قيل: لما لم نعكس ونجعل الحول هو السبب والنصاب الشرط؟
قيل كما قال الزركشي في تشنيف المسامع وهو يعد أيضا فارقا ثانيا بين السبب والشرط: لأن الشارع إذا رتب حكما عقب أوصاف فإن كانت كلها مناسبة فالجميع علة كالقتل العمد العدوان وإن ناسب البعض في ذاته دون البعض فالمناسب في ذاته سبب والمناسب في غيره شرط فالنصاب يشتمل على الغنى ونعمة الملك في نفسه والحول مكمل لنعمة الملك بالتمكين بالتنمية في جميع الحول فهو شرط.
وأما الفرق بين السبب والعلة:
فاعلم أنهما في علم الكلام ـ كما في البحر ـ يشتركان في توقف المسبب عليهما ويفترقان من وجهين:
أحدهما: أن السبب ما يحصل الشيء عنده لا به كالشرب سبب للري فيحصل الري عند الشرب لا به والعلة ما يحصل به فالحرمة حاصلة بالإسكار في الخمر.
والثاني: أن المعلول متأخر عن علته بلا واسطة ولا شرط يتوقف الحكم على وجوده كالكسر والانكسار فالكسر علة للانكسار وهو يحصل عقبه من غير واسطة ولا شرط يتوقف عليه والسبب إنما يقتضي الحكم بواسطة أو بوسائط ولذلك يتراخى الحكم عنه حتى توجد الشرائط وتنتفي الموانع كما في الأبوة سبب للإرث لكن الحكم وهو الإرث متراخ عنه لتوقفه على شروط وانتفاء موانع كالقتل مثلا وأما العلة فلا يتراخى الحكم عنها إذا اشترط لها بل هي أوجبت معلولا بالاتفاق حكى الاتفاق إمام الحرمين والآمدي وغيرهما.
وأما في علم الأصول فقال الآمدي في جدله: العلة في لسان الفقهاء تطلق على المظنة أي الوصف المتضمن لحكمة الحكم كما في القتل العمد العدوان فإنه يصح أن يقال قتل لعلة القتل وتارة يطلقونها على حكمة الحكم كالزجر الذي هو حكمة القصاص فإنه يصح أن يقال العلة الزجر وأما السبب فلا يطلق إلا على مظنة المشقة دون الحكمة إذ بالمظنة يتوصل إلى الحكم لأجل الحكمة.أهـ.
ومن ناحية أخرى فالسبب أعم من العلة حيث يطلق على معقول المعنى وغير معقول المعنى، فمثال إطلاق السبب على ما لا يعقل معناها جعل دخول الوقت سبباً في وجوب الصلاة كما في قوله تعالى : ) أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهوداً( حيث دلت الآية على أن دخول الوقت سبب في وجوب الصلاة وجعله سببا لوجوب صلاة الظهر غير معقول المعنى.
س4 المانع نوعان :
مانع سبب ، ومانع حكم ما الفرق بينهما بالمثال ؟
ج: المانع عند الاطلاق ينصرف إلى مانع الحكم وأما مانع السبب فلا يذكر إلا مقيدا به ومانع الحكم هو الذي يذكر في الأحكام الوضعية وهو الوصف الوجودي الظاهر المنضبط المعرف نقيض حكم السبب فالظاهر أخرج الخفي كشفقة الأب فليست مانعة من القصاص لخفائها والمنضبط أخرج المضطرب فليس مانعا كإحسان الأب بالتربية فإنها غير مانعة من القصاص لأنها غير منضبطة لاختلافها من أب لآخر و مثال ما استجمع القيود الأبوة في باب القصاص فإنها مانعة من وجوب القصاص المسبب عن القتل لمانع الأبوة وهو كون الأب سببا لوجود الولد ، فلا يحسن كونه سببا لعدمه ، فينتفي الحكم مع وجود مقتضيه وهو القتل لوجود المانع للحكم وسمي هذا مانع الحكم لأن سببه وهو القتل مع بقاء حكمته لا يؤثر.
وأما مانع السبب فهو الوصف الوجودي المشتمل على ما يخل بحكمة العلة كالدين في الزكاة إن قلنا إنه مانع من الوجوب فإن حكمة السبب ـ الذي هو النصاب ـ مواساة نحو الفقراء من فضل المال وهي مفقودة هنا لأن الدين أخل بها إذ ليس مع الدين فضل يواسى به وسمي هذا مانع السبب لأن حكمته وهي المواساة بفضل المال فقدت مع وجود صورته فقط وهو النصاب.
وهذا يذكرونه في باب العلة لأنه لابد في العلة من اشتمالها على حكمة تدعو إلى الامتثال، فلذا كان مانعها وصفا وجوديا يخل بحكمتها كما في المثال, فإن لم يخل بحكمتها بل بالحكم فقط والحكمة باقية ، سمي مانع الحكم كما تقدم فإن الحكمة باقية وهو كون الأب سببا في وجود الابن فالأبوة إنما أخلت بالحكم فقط وهو القصاص.
س5 قال المؤلف – رحمه الله – في تعريف السبب ( ما يضاف إليه الحكم للتعلق به من حيث إنه معرف أوغيره ).
قال في الشرح : أو غيره : أي : غير معرف له أي مؤثر فيه بذاته كالزوال أو بإذن الله تعالى ، أو باعث عليه .
ما معنى ( باعث عليه ) هنا مع الإيضاح بمثال ؟
اختلف في تعريف السبب اصطلاحا وهذه الأقوال جمعها ابن السبكي رحمه الله في تعريفه: ما يضاف إليه الحكم للتعلق به من حيث إنه معرف أوغيره.
القول الأول: أنه ما يضاف إليه الحكم للتعلق به من حيث إنه معرف.
والثاني: ما يضاف إليه الحكم للتعلق به من حيث إنه مؤثر بذاته وهذا قول المعتزلة.
الثالث: ما يضاف إليه الحكم للتعلق به من حيث إنه مؤثر بذات الله وهذا قول الغزالي.
الرابع: ما يضاف إليه الحكم للتعلق به من حيث إنه باعث على الامتثال وهذا قول الآمدي.
ومعنى "باعث عليه" أنه باعث على فعل المكلف الذي هو الامتثال مثاله حفظ النفوس فإنه علة باعثة للمكلف على القصاص الذي هو فعل المكلف المحكوم به من جهة الشرع ولكن هذا القول هل ينافي القول بأن أحكام الله لا تعلل كما تقول به الأشاعرة أم لا ينافيه؟
قال الزركشي: قال بعض المتأخرين اشتهر عند المتكلمين أن أحكام الله تعالى لا تعلل واشتهر عند الفقهاء التعليل وأن العلة بمعنى الباعث ويتوهم كثير من الناس أنها الباعث للشرع فيتناقض كلام الفقهاء وكلام المتكلمين وليس كذلك ولا تناقض.
ودفع التناقض المتوهم هو أن العلة والسبب باعث للمكلف على الامتثال كما سبق إيضاحه وأما حكم الشرع فليسا باعثين عليه لأنه قادر أن يحفظ النفوس بغير ذلك وإنما يتعلق أمره بحفظ النفوس وهو مقصود في نفسه وبالقصاص لأنه وسيلة إليه فكلاهما مقصود للشارع حفظ النفوس قصد المقاصد والقصاص قصد الوسائل وأجرى الله العادة أن القصاص سبب للحفظ فإذا قصد بأداء فعل المكلف من السلطان والقاضي وولي الدم القصاص وانقاد إليه القاتل امتثالا لأمر الله تعالى ووسيلة إلى حفظ النفوس كان له أجران أجر على القصاص وأجر على حفظ النفوس وكلاهما مأجور به من جهة الله تعالى أحدهما بقوله كتب عليكم القصاص والثاني إما بالاستنباط أو بالإيمان بقوله ولكم في القصاص حياة.
وإذا قلنا: إن العلة معرفة كما هو القول الأول وهو قول أكثر من الأشاعرة فدفع الإشكال واضح وهو أن المعرف للشيء لا يؤثر فيه وليس باعثا عليه فهو يتفق مع قولهم في أصول الدين بنفي التعليل.
س6:

قال المؤلف رحمه الله : القبيح : المنهي ولو بالعموم ، فدخل خلاف الأولى
ما وجه جعل خلاف الأولى من القبيح ، مع أنه لا يذم عليه فعله ؟


ج6:
الحسن هو فعل المكلف المأذون فيه شرعاً وفعل المكلف الذي أذن فيه الشارع هو الواجب والمندوب والمباح فلا تخرج أقسام الحسن عن هذه الثلاثة والقبيح فعل المكلف المنهي عنه شرعاً ولو كان منهياً عنه بالنهي المستفاد من العموم، كالمستفاد من أوامر الندب، فيدخل فيه خلاف الأولى كما يدخل فيه الحرام و المكروه وقال إمام الحرمين في الشامل ليس المكروه ولا خلاف الأولى قبيحاً، لأنه لا يذم عليه، وإنما يلام فقط، ولا حسناً لأنه لا يسوغ الثناء عليه بخلاف المباح فإنه يسوغ الثناء عليه وإن لم يؤمر به، وتبعه التاج السبكي في شرح مختصر ابن الحاجب.
وهذا الخلاف الحاصل بينهم في عد بعض أقسام الفعل من القبيح أو من الحسن سببه الاختلاف في تعريف القبيح والحسن ولذا قال الزركشي رحمه الله: وقد اضطرب أصحابنا في الفصل بينهما أهـ.
وقال الأستاذ أبو إسحاق الاسفراييني : الحسن هو المأذون فيه شرعا فدخل المباح وهذا يقرب من تعريف جمع الجوامع.
وبعضهم قال القبيح ما نهي عنه شرعا وبعضهم قال القبيح ما يذم فاعله.
نرجع إلى الإشكال الوارد في السؤال ولو دققنا النظر فيه لوجدنا أنه في غير محله وأنه غير وارد على تعريف جمع الجوامع بيان ذلك أن صاحب الجمع عرف القبيح بالمنهي عنه شرعا ولو بالعموم فدخل خلاف الأولى لأنه منهي عنه والتعليل في الإشكال كان بتعريف آخر وهو الذم على الفعل فلو قال صاحب الجمع: القبيح ما ذم فاعله, ثم مع هذا جعل خلاف الأولى قبيحا فهذا لا يستقيم كما قلت أنت لأنه لا يذم عليه لكن طالما أنه اختار في تعريف القبيح ما نهي عنه ولو بالعموم فلا إشكال في عد المكروه وخلاف الأولى من القبيح لأنهما منهيان عنهما وفي تعليل إمام الحرمين السابق إشارة إلى هذا. والله أعلم.
س7:
قرر المؤلف - رحمه الله - أن المندوب غير مأمور به وكذا المباح ، فما هو الراجح عند الجمهور من المتكلمين ؟
ج7:

قال القاضي أبو الطيب في شرح الكفاية الصحيح من مذهب الشافعي أن المندوب مأمور به وقد نص عليه الشافعي في كتبه.
وعن الشيخ أبي الحسن الأشعري أنه غير مأمور به حقيقة بل مجازا.
هذا في المندوب.
وأما المباح فالجمهور على أنه غير مأمور به وقال الكعبي من المعتزلة إنه مأمور به وحكي عن أبي بكر الدقاق بل نسب إلى معتزلة بغداد.
والخلاف في كون المندوب مأمور أقوى من الخلاف في كون المباح مأمور به وذلك لقرب درجة المندوب من درجة الواجب الذي هو مأمور به بلا خلاف ولاشتراكهما في القدر المشترك وهو طلب الفعل.
وابن السبكي رحمه الله ممن كتب على طريقة المتكلمين في الأصول وهو اختار أن كلا من المندوب والمباح غير مأمور بهما واختاره الرازي في المحصول.
لكن الأهم من هذا هو أثر الخلاف في الفروع والصحيح أن الخلاف في كون المندوب مأمورا به ليس لفظيا بل معنوي يظهر أثره في مثل ما لو قال الراوي: أمرنا بكذا أو أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا.
س8:
المسألة الثامنة : ما معنى قول المؤلف رحمه الله (المباح ليس بجنس للواجب))أي أن المباح ليس جنساً يدخل تحته الواجب والمندوب ، بل هو حكم مستقل بذاته ، لأن الراجح أن التكليف الزام ما فيه كلفة ، والمباح ليس الزام بما فيه كلفة .


ج8:
هل المباح جنس للواجب والجائز بالمعنى الأخص أم لا والمراد بالمعنى الأخص ما لفاعله أن يفعله مع جواز تركه وبالأهم ما لفاعله أن يفعله فيدخل فيه الواجب والمندوب؟
الأصح أن المباح ليس بجنس للواجب بل هما نوعان لجنس وهو فعل المكلف الذي تعلق به حكم شرع إذ لو كان المباح جنسا للواجب لاستلزم النوع وهو الواجب التخيير فيه، ضرورة استلزام النوع لجنسه كما أن الناطقية تستلزم الحيوانية لأنها نوع لها لأن الناطق إلا يكون إلا حيوانا، فيكون الواجب مخيرا ، وهو باطل.
وقيل إن المباح جنس للواجب لأن المباح مأذون في فعله وتحته أنواع الواجب والمندوب والمخير فيه والمكروه الشامل لخلاف الأولى واختص الواجب بفصل المنع من الترك.
قلنا واختص المباح أيضا بفصل الإذن في الترك على السواء فيكون المباح نوعا من أنواع أفعال المكلف مثل الواجب. وأنتم تركتم فصل المباح الذي به يتميز عن الواجب ، وهو الإذن في الترك على السواء ثم توهمتم الجنسية ثابتة في المباح.
والخلاف بين القولين لفظي يرجع إلى تفسير المباح.
قال ابن شهاب في الترياق النافع: وهذان القولان مبنيان على تفسير المباح، فمن فسره بالتخيير بين الفعل والترك قال: إنه ليس جنساً للواجب، لأنه لو كان جنساً للواجب كان الواجب مخيراً فيه بين الفعل والترك وهو محال، ومن فسره بعدم الحرج قال أنه جنس للواجب، وثبوت عدم الحرج للواجب صحيح، ولهذا كان الخلاف لفظياً.
س9:
تكلم المؤلف - رحمه الله - عن تحريم شي لا بعينه ، فهل ورد في الشرع ؟

ج9:
الحرام المخير الخلاف فيه كالخلاف في الواجب المخير وقال بإثبات الواجب المخير جمهور العلماء ونفاه المعتزلة, وكذلك نفت المعتزلة ومن معهم الحرام المخير والصواب إثباته فقد يرد التخيير بين ضدين لا ثالث لهما, والمعنى ملائمة المكلف أحد الضدين الذي اختار وآثره على نقيضيه ، مثل : أنهاك عن الحركة ، أو السكون ، أحببت أيهما شئت ، ولا تأكل اللبن أو السمك ، فقد منعتك عن أحدهما مبهما ، لا عن كليهما جميعا ، ولا عن أحدهما معينا لأنه أمر بترك أحدهما فلا يجب تركهما كما لو أمر بفعل أحدهما لم يجب فعلهما.
واحتجت المعتزلة بأن ما كان منهيا عنه مع غيره كان منهيا عنه بانفراده كسائر المحظورات.
ورد هذا إمام الحرمين في البرهان حيث قال: هذا يبطل بنكاح إحدى الأختين فإنه منهي عنه مع نكاح أختها وليس بمنهي عنه عند الانفراد.
وهذه المسألة كما قلنا هي كمسألة الواجب المخير لكن فيها زيادة ، وهي دعوى بعض المخالفين كما نقل المازري أن اللغة لم ترد بذلك قال : ألا ترى أن قوله سبحانه (ولا تطع منهم آثما أو كفورا) محمول على أنه نهى عن طاعتهما .
قال المازري : وهذا ليس بشيء ، قال : ولولا الإجماع على أن المراد في الشرع النهي عن طاعة الجميع لم تحمل الآية على ذلك أهـ
فالآية فيها دلالة على المسألة لكن منعنا من حمل الآية على التخيير الإجماع.
فهذا مثال للمسألة.
قال أبو حيان في الارتشاف كما نقله تلميذه ابن السبكي في الأشباه: وإذا نهيت عن المباح استوعب ما كان مباحًا باتفاق من النحاة ، ومنه {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ كَفُورًا} وإذا نهيت عن المخير فيه فذهب السرافي إلى أنه يستوعب الجميع كالنهي ، وذهب ابن كيسان إلى جواز أن يكون النهي عن واحد وعن الجميع.
وإذا نهى عن أحد شيئين كان ذلك نهيا عن الجمع بينهما ويجوز فعل أحدهما.أهـ
ومذهب المعتزلة في الحرام المخير هو أن الكل حرام كما قالوا في الواجب المخير: الكل واجب.
وأما عند الجمهور ممن أثبت الحرام المخير فالمحرم هو شيء واحد لا بعينه ويجوز للمكلف فعل أحدهما لكن ما دام لم يعين ، لا يجوز له الإقدام على شيء منها ومن أمثلة هذه المسألة: لو ملك أختين ووطئهما حرمت إحداهما لا بعينها حتى تخرج الأخرى عن ملكه.
والله تعالى أعلم