وقفت على هذه الفتوى في [فتح العلي المالك] والمتعلقة ببعض الأمور التي كانت تعرض للأمير/ عبدالقادر الجزائري في قتاله الفرنسيين، وعلاقة بعض الدول الإسلامية حينئذ بقوة الاحتلال الفرنسي!!
وإليكم نصها:

من خديم المجاهدين والعلماء والصالحين عبد القادر بن محيي الدين إلى سادتنا العلماء الأبرار الأفاضل الأخيار رضي الله عنكم وأرضاكم وجعل الجنة منزلكم ومثواكم جوابكم عما فعله بنا سلطان المغرب من المنكرات الشرعية التي لا تتوقع من مطلق الناس فضلا عن أعيانهم فأمعنوا نظركم فيها شافيا وأجيبونا جوابا كافيا شافيا خاليا عن الخلاف ليخلو قلب سامعه عن الاعتساف, وذلك أنه لما استولى عدو الله الفرانسيس على الجزائر وخلت الإيالة عن الأمير وانقطعت السبل وعطلت الأسباب وطالت شوكة الكافر اجتمع ذوو الرأي وتقاضوا على أن يقدموا رجلا من ساداتهم يؤمن السبل ويكف الظالم ويجمع المسلمين للجهاد لئلا يبقى الكافر في راحة فتمتد يده فاختاروا رجلا منهم وقدموه لذلك فتقدم وعمل جهده فيما قدموه له فتأمنت السبل بحمد الله وتيسرت الأسباب بعونه وجاهد في سبيله , وذلك من لدن سنة الستة والأربعين إلى سنة ثلاث وستين هذه ولن نزال كذلك إن شاء الله, فإذا بسلطان المغرب فعل بنا الأفعال التي تقوي حزب الكافر على الإسلام وتضعفنا وأضر بنا الضرر الكثير , ولم يلتفت إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ( المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يظلمه ) ولا إلى قوله عليه الصلاة والسلام ( المؤمن لأخيه كالبنيان المرصوص يشد بعضهم بعضا ) ولا إلى قوله عليه الصلاة والسلام ( المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم ) إلى غير ذلك من الأحاديث الشريفة
فأول ما فعل بنا أننا لما كنا حاصرنا الكافر في جميع ثغوره نحوا من ثلاث سنين وقطعنا عليه السبل ومادة البر من الحب والحيوان وغيرهما تضييقا عليه وتضعيفا له خصوصا من جهة الحيوان; لأن قانون عسكره أنهم إذا لم يأكلوا اللحم يومين, أو ثلاثة يفرون عن طاغيتهم ولا يقاتلون ولا يلامون حتى بلغت قيمة الثور عندهم مائة ريال دورو, فإذا بالسلطان المذكور أمدهم وهم في الضيق الشديد بألوف من البقر وغيرها.
الثاني أنه غصب من عاملنا ألفا وخمسمائة بندقة إنجليزية .
الثالث أنه غصب من وكيلنا أربعمائة كسوة جوخ أعددناها للمجاهدين .
الرابع أن بعض المحبين في الله ورسوله من رعيته قطع قطعة من ماله الخاص به ليعين به المجاهدين , فإذا بالسلطان المذكور زجره ونزعها منه وقال أنا أحق بها والحال أنه لم يجاهد وأيضا أن بعض القبائل من رعيته عزموا على إعانتنا بأنفسهم في سبيل الله فمنعهم من ذلك وأعاننا آخر من رعيته بسيوف في سبيل الله فحبسه إلى الآن زجرا له وردعا لغيره .
الخامس أنه لما وقعت لهذا السلطان مقاتلته مع الفرانسيس أياما قلائل ثم تصالحا واشترط عليه الفرانسيس أن لا يتم الصلح بينهما إلا إذا حل أمر هذه العصابة المحمدية المجاهدين ويقبض رئيسهم , فإما أن يحبسه طول عمره , وإما أن يقتله . وإما أن يمكنه من يد الفرانسيس , أو يجليه من الأرض فأجابه السلطان إلى ذلك كله ثم أمرني بترك الجهاد فأبيت ; لأنه ليس له علي ولاية ولا أنا من رعيته ثم قطع عن المجاهدين الكيل حتى هام جوعا من لم يجد صبرا وأسقط من المجاهدين ركنا ثم أخذ يسعى في قبضي فحفظني الله منه , ولو ظفر بي لقتلني , أو لفعل بي ما اشترطه عليه الفرانسيس , ثم أمر بعض القبائل من رعيته أن يقتلونا ويأخذوا أموالنا وكأنه استحل ذلك فأبوا جزاهم الله خيرا ,
فإذا تصورتم أيها السادات هذه الأفعال التي تتفطر منها الأكباد وتتأثر عند سماعها العباد فهل يحرم عليه ذلك ويضمن ما غصب ويقتل بنا إن قتلنا حسبما نص عليه المعيار في أول باب الجهاد وزبدته أنه إذا نزل الكافر بساحة المسلمين وقال لهم إن لم تعطوني فلانا , أو ماله أو يقتل استأصلتكم , فإنه لا يسعهم ذلك ولا يعطوه شيئا مما طلب , ولو خافوا استئصاله , فإن أعطى ماله ضمنه الآمر به ونقل ذلك عن نصوص المالكية والشافعية , وكما نص على ذلك أيضا الشيخ ميارة في شرح لامية الزقاق في آخر باب الإمامة الكبرى ونصه قال ابن رشد إذا أمر الإمام بعض أعوانه بقتل رجل ظلما ففعل فلا خلاف أنهما يقتلان معا نقله المواق عند قول خليل في باب الجنايات كمكره ومكره , فإن فعل المأمور ذلك خوفا على نفسه , فإنه لا يعذر بذلك قال ابن رشد أيضا الإكراه على الأفعال إن كان يتعلق به حق لمخلوق كالقتل والغصب فلا خلاف أن الإكراه غير نافع نقله أيضا عند قوله في الطلاق لا قتل مسلم وقطعه ونقله الحطاب في هذا المحل الثاني ونصه في آخر معين الحكام ومن هدد بقتل , أو غيره على أن يقتل رجلا , أو يقطع يده , أو يأخذ ماله , أو يزني بامرأة أو يبيع متاع رجل فلا يسعه ذلك , وإن علم أنه إن عصى وقع به ذلك , فإن فعل فعليه القود ويغرم ما أتلف ويحد إن زنى ويضرب إن ضرب ويأثم ا هـ . وهل المهادنة التي أوقعها فاسدة , ومنقوضة ; لأن الجهاد تعين عليه قبل أن يفجأه العدو بسبب قربنا منه وعجزنا عن الجهاد ولأن منفعتها عائدة على الكفار ووبالها على الإسلام كما هو مشاهد حسبما نص على ذلك في المعيار أيضا في باب الجهاد في الجواب عن سؤال التلمساني وحاصله أن الخليفة أوقع الصلح مع النصارى والمسلمون لا يرون إلا الجهاد فأجابه بما حاصله أن مهادنته منقوضة وفعله مردود ونقل على ذلك نصوصا وهل يحمل بيع البقر لهم في وقت حصرهم المسلمون على حرمة بيع الخيل لهم والشعير وآلة الحرب أم لا , وعلى أنه لم تسعه مخالفة الفرنسيس فيما شرطه عليه من قتلنا وتفريق جماعتنا وما ينشأ عنه من ترك الجهاد بالكلية , واقتحم الأمر وشق العصا وجاءنا بالجيش ليقتلنا ويأخذ أموالنا ويفرق جمعنا فهل يجوز لنا أن نقاتله بمقتضى ما نقله الشيخ ميارة أيضا في شرحه المذكور في الباب ونصه انظر إذا خلا الوقت من الأمير وأجمع الناس رأيهم على بعض كبراء الوقت ليمهد سبيلهم ويرد قويهم عن ضعيفهم فقام بذلك قدر جهده وطاقته والظاهر أن القيام عليه لا يجوز والمتعرض له يريد شق عصا الإسلام وتفريق جماعته ففي صحيح مسلم رضي الله عنه عن زياد بن علاقة قال سمعت عرفجة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (
إنها ستكون هنات وهنات فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة , وهو جميع فاقتلوه كائنا من كان ) وبسنده قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد يريد تفريق جماعتكم فاقتلوه ) ا هـ . أم لا يجوز لنا ذلك ونترك الجهاد ليس إلا جوابكم تؤجرون وتحمدون وعليكم السلام في البدء والختام والحمد لله رب العالمين.


فأجبت بما نصه : الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله المهتدين نعم يحرم على السلطان المذكور أصلح الله أحواله جميع ذلك الذي ذكرتم حرمة معلومة من الدين بالضرورة لا يشك فيها من في قلبه مثقال ذرة من الإيمان وما كان يخطر ببالنا أن يصدر من مولانا السلطان عبد الرحمن وفقه الله تعالى مثل هذه الأمور مع مثلكم , فإنا لله , وإنا إليه راجعون وما قدر الله سبحانه وتعالى لا بد أن يكون خصوصا , وأنتم جسر بينه وبين عدوه , وإن كنا في اطمئنان على إقليمه من استيلاء عدو الله عليه بما في الأحاديث الصحيحة من بقاء أهله على الحق حق تقوم القيامة منها ما وجد بخط الشيخ المقري ونصه من خط الفقيه المحدث العالم أبي القاسم العبدوسي حفظه الله تعالى ما نصه وجدت في ظهر تقييد الشيخ أبي الحسن الصغير على المدونة بخط من يقتدى به قال ذكر صاحب كتاب نقط العروس عن أبي مطرف قال حدثنا محمد بن المواز عن ابن القاسم عن مالك بن أنس عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ستكون بالمغرب مدينة يقال لها فاس أقوم أهل المغرب قبلة وأكثرهم صلاة أهلها قائمون على الحق لا يضرهم من خالفهم يدفع الله عنهم ما يكرهون إلى يوم القيامة ) ا هـ .
وكذا ضمانه لما غصب ضروري لا يشك فيه مسلم , وكذا استحقاقه القصاص منه بقتله مؤمنا عمدا عدوانا مباشرة أو بإكراه غيره عليه معلوم من الدين بالضرورة والنصوص التي ذكرتم صحيحة صريحة لا تقبل التأويل والمهادنة التي أوقعها فاسدة منقوصة وما نسبتم للمعيار هو كذلك فيه وبيع البقر وسائر الحيوان والطعام والعروض وكل ما ينتفعون به في النازلة المذكورة حرام قطعا إجماعا ضرورة لا يشك فيه مسلم سواء في حال حصر المسلمين إياهم وفي حال عدمه إذ قتالهم فرض عين على كل من فيه قدرة عليه ولو من النساء والصبيان من أهل تلك البلاد ومن قرب منها كأهل عمل السلطان المذكور وفقه الله تعالى فكيف يتخيل مسلم أن معاملتهم بما ينتفعون به ويتقوون به على البقاء في أرض الإسلام جائزة مع ذلك قال الحطاب : وأما بيع الطعام يعني للحربيين فقال ابن يونس عن ابن حبيب يجوز في الهدنة , وأما من غير الهدنة فلا , قاله ابن الماجشون ا هـ وظاهر أن هذا فيما يذهبون به لبلادهم فيما يستعينون به على البقاء في أرض الإسلام وقتال أهله أولى بالمنع , وإن اقتحم الأمر وشق العصا وأتاكم بجيشه وجب عليكم قتاله وجوبا عينيا إذ هو حينئذ كالعدو والبغاة المتغلبين الفاجئين القاصدين الأنفس والحريم لعدوانه وتجاربه على ما أجمع المسلمون على تحريمه , وهو أنفسكم وحريمكم وأموالكم ومنعكم مما هو متعين عليكم بالإجماع من جهاد الكفار الفاجئين لكم والمقتول منكم في قتاله كالمقتول في قتال الكفار ليس بينه وبين الجنة إلا طلوع الروح فصمموا على قتاله وأعدوا له ما استطعتم من قوة نصركم الله تعالى عليه , وعلى أعداء الدين وبارك فيكم وفي كل من أعانكم من المسلمين وخذل كل من عاداكم وخذلكم كائنا من كان وجعل كيده في نحره .
===========
ونص ما في المعيار: وسئل بعض فقهاء تلمسان جوابكم سيدي عما عمت به البلوى في بلادنا وعظم من أجله الخطب واتسعت فيه المقالات وذلك أن الخليفة أصلح الله صالح هؤلاء النصارى الذين أخذوا سواحلنا إلى أجل معلوم والمسلمون يرون أن جهادهم من أعظم القربات فصاروا يغيرون على أطراف بلادهم فيقتلون ويضيقون بهم هل ذلك طاعة , أو معصية والفرض أن الخليفة لا يوافق على ذلك ويعاقب عليه أجيبونا أرشدتم ووفقتم .
فأجاب: الحمد لله الذي أيد الدين المحمدي بالجهاد ووعد الساعي فيه بالوصول إلى أسنى المراد والشهيد بالحياة المحفوفة بالرزق والحسن في برزخ الموت والإمداد فما من ميت إلا يتمنى العود إلى الدنيا إلا الشهيد لما يرى من فضل الشهادة من ذي العرش المجيد فيطلبها ليزاد له من الكرامة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر بعد المعاد فأعظم به من وصف لا تحصى فضائله إذ قدمت على نوافل الخير المعلى نوافله عند أهل الاجتهاد وصلى الله على سيدنا محمد النبي المبعوث لجميع الخلائق المبعوث بجميل الخلائق القامع بلسانه وسيفه وبرهانه أهل الباطل والعناد , وعلى آله وأصحابه الذين وازروه على إظهار الخزي عنه من الأضداد فجلبوا ببركته لأمته المصالح وبذلوا لهم النصائح ودفعوا الفساد صلاة وسلاما فنال ببركتهما من الخيرات والبركات ما يخرج عن المعتاد .
أما بعد: أيها الأخ الكريم مسجده، الجميل معتقده, فإن جواب سؤالك يتوقف على تقرير مقدمة بتقريرها يتبين ما يتضح به المسئول عنه فنقول الصلح الواقع بين إمام المسلمين وأعداء الدين على ضربين :
الضرب الأول حيث يكون الجهاد فرض كفاية .
والثاني حيث يكون فرض عين .
أما الأول فحيث يكون المسلمون طالبين على الكافرين الحربيين فالصلح لمصلحة يراها الإمام بحسب اجتهاده جائز عند المالكيين ونقل ابن عبد البر عن سحنون أنه قال لا يبعد في المدة ونقل ابن شاس عن أبي عمران أنه استحب أن لا تكون المدة أكثر من أربعة أشهر إلا مع العجز .
وأما الضرب الثاني فمهما تعين الجهاد في موضع لم يجز فيه الصلح كما لو كان العدو طالبا على المسلمين , وقد يفجأ موضعهم , وهو ضعف عدد المسلمين فأقل لا شدة وعدة على المشهور عند المحققين فيتعين على من نزل بهم , ومن قاربهم دفعهم في الحين ونقل اللخمي عن الداودي فرضية الجهاد على من يلي العدو ويسقط عمن بعد عنه وقرره المازري بأنه بيان لتعلق فرض الكفاية لمن حضر محل تعلقه قادرا عليه دون من بعد عنه لعسره , فإن عصى الحاضر تعلق بمن يليه وحاصل كلام المازري أن فرض الكفاية الذي هو حكم الجهاد قد يعرض له ما يوجبه على الأعيان في بعض الأحيان . وفي تلقين القاضي عبد الوهاب قد يتعين في بعض الأوقات على من يفجؤهم العدو . وفي نوازل ابن أبي زيد عن سحنون إن نزل أمر يحتاج فيه إلى الجميع كان عليهم فرضا ولو سبى المشركون النساء والذرية والأموال وجب استنقاذهم على من قوي عليه ما لم يخافوا على أنفسهم , أو على أهليهم برؤية سفن , أو خبر عنها فكل ما نقل في تعين فرض الجهاد مانع من الصلح لاستلزامه لإبطال فرض العين الذي هو الجهاد المطلوب فيه الاستنقاذ وفي العتبية سئل مالك أواجب على المسلمين افتداء من أسر منهم قال نعم أليس واجبا عليهم أن يقاتلوا حتى يستنقذوهم قال بلى قال فكيف لا يفدونهم بأموالهم وفي مثل هذا أعني حيث يتعين الجهاد , حكى القاضي ابن رشد الاتفاق على أنه أقوى من الذهاب إلى حجة الفريضة ; لأن الجهاد إن تعين كان على الفور والحج قد قيل فيه إنه على التراخي ولما تقررت هذه المقدمة بما فيها من النصوص للأئمة تعين بها أن الجهاد فرض عين في مسألة السؤال فيمتنع فيه الصلح على كل حال لا سيما إن طالت مدته , فقد عادت على العدو أهلكه الله مصلحته , وعلى المسلمين مفسدته , وإن تخيلت فيه مصلحة فهي للعدو أعظم من وجوه مكملة , فإنه يتحصن في تلك المدة ويكثر من آلات الحرب والعدة فيتعذر على المسلمين الاستنقاذ ويصعب عليهم تحصيل المراد بعد تيسره لو ساعد التوفيق ولكن المولى جل جلاله المسئول في هدايته إلى سواء الطريق فما وقع من الصلح هو مفسدة على الإسلام فلا يكون له في نفس الأمر إبرام فالصلح المذكور يجب نقضه ; لأنه بمقتضى الشرع غير منبرم فحكمه غير لازم عند كل من حقق أصول الشريعة قال في التلقين ولا يجوز ترك الجهاد لهدنة إلا من عذر لا يقال الصلح المسئول عنه داخل في المستثنى من كلام القاضي عبد الوهاب . والصلح من المسلمين لا يكون في الغالب إلا من عذر على أنه حكم اجتهادي من إمام فلا سبيل إلى نقضه ; لأنا نقول وقع ذلك عقب الداهية الدهياء وهي انتهاز العدو دمره الله الفرصة في بلاد المغرب مع توفر الإسلام والعدد والعدو ليس له فيها مدد والمسلمون لا يقصرون عن ضعف العدو فضلا عن أن يكون عدوهم ضعفهم فإما أن يكون الصلح لخوف استئصال الكافرين بقية المسلمين . وإما للخوف من المحاربين والأول باطل لمخالفته الفرض والثاني كذلك أيضا ; لأن الخوف من المحارب بالفرض مع إمكان انقسام العدد واتصال المسلمين بحصول المدد فالواجب القتال , وإن كان العدو ذا جلد ومعه كثرة العدد فلا يدخل الصلح في المستثنى من كلام القاضي عبد الوهاب وحكم الجهاد ينتقض إذا تبين فيه الخطأ كما نقل عن سحنون وطول المدة في الصلح المذكور خطأ فينتقض الصلح وذلك أيضا ; لأن الصلح المذكور فيه ترك الجهاد المتعين وترك الجهاد ليسكنه ممتنع فالصلح المذكور ممتنع وكل ممتنع غير لازم والجهاد في الموضوع المذكور لم يزل متعينا من زمن الوخزة إلى الآن وعن ابن القاسم إن طمع قوم في فرصة في عدو قربهم وخشوا إن أعلموا الإمام يمنعهم فواسع خروجهم وأحب إلى أن يستأذنوه قال ابن حبيب سمعت أهل العلم يقولون إن نهى الإمام عن القتال لمصلحة حرمت مخالفته إلا أن يزحمهم العدو وقال ابن رشد طاعة الإمام لازمة , وإن كان غير عدل ما لم يأمر بمعصية ومن المعصية النهي عن الجهاد المتعين على ما تقدم والله سبحانه وتعالى أعلم .

ومما ينبغي أن يذيل به ما وقع من جواب السؤال: بيان حقيقة الصلح لغة وشرعا وبيان الممتنع منه والجائز بمال , أو بغير مال , وهو المعبر عنه في كتب الفقه بالمهادنة .
قال الجوهري هادنه صالحه والاسم الهدنة ,
وأما حقيقته في العرف الفقهي فهو عبارة عن توافق إمام المسلمين والحربيين على ترك القتال بينهم مدة لا يكون فيها تحت حكم الإسلام
فقولنا الإمام يخرج من سواه من المسلمين , فإذا حصل منه فلا يتم , ولو كان أمير السرية وبقية الرسم مخرجا للأمان والاستئمان وذكر المدة غير مقيدة فيه إشارة إلى أنها موكولة إلى اجتهاد الإمام ما لم تطل ويفهم ذلك من تنكيرها , فإنها للنوعية .
وأما حكمه فالجواز إن اقتضته مصلحة للمسلمين والمنع إن تضمن مفسدة عليهم قال ابن حبيب عن ابن الماجشون إن رجا الإمام فتح حصن لم ينبغ له صلح أهله على مال , وإن كان على إياس منه فلا بأس بصلحهم على غير شيء كصلح الحديبية , وإن لم يتضمن مصلحة ولا مفسدة فهو مكروه لما فيه من توهين الجهاد , فإن نزل مضى ما لم تتبين فيه مفسدة بعد عقده فينتقض قال الشيخ ابن أبي زيد عن سحنون : ولو هادنهم الإمام على مال ثم بان له أنهم غروا بالمسلمين لم ينبذه حتى يرد ما أخذ منه , وكذلك إن بان ذلك لمن بعده ولا يحبس من المال بقدر ما مضى من الأجل . قال سحنون وليس للإمام نقض الصلح لغير بيان خطئه فيه , ولو رد ما أخذ إلا برضا من عاقده ونقل الشيخ ابن أبي زيد عن ابن المواز أنه قال كره علماؤنا المهادنة على أن يعطينا أهل الحرب مالا كل عام قال محمد , وإنما ( هادن النبي صلى الله عليه وسلم أهل مكة لقلة المسلمين حينئذ ) هذا ما يتعلق بالصلح على مال يأخذه الإمام , أو بغير مال , وأما لو وقع بمال يعطيه المسلمون لهم فقال المازري لا يهادن العدو بإعطائه مالا ; لأنه عكس مصلحة أخذ الجزية منه إلا لضرورة التخلص منه لخوف استيلائه على المسلمين ( وقد شاور النبي صلى الله عليه وسلم لما أحاطت القبائل بالمدينة سعد بن معاذ وسعد بن عبادة في أن يبذل المسلمون ثلث الثمار لما خاف أن يكون الأنصار ملت القتال فقالا إن كان هذا من الله سمعنا وأطعنا , وإن كانوا رأيا فما أكلوا منها في الجاهلية ثمرة إلا بشراء فكيف , وقد أعزنا الله تعالى بالإسلام فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم عزمهم على القتال ترك ذلك ) فيؤخذ من هذه القضية جواز إعطاء المال على الوجه الموصوف للضرورة إذ لو لم يجز لم يشاور فيه الرسول عليه الصلاة والسلام لكنه قد شاور فيه فهو جائز وبيان الملازمة هو أن المشاورة في دفع المال ملزومة لهم بدفعه على تقدير الموافقة على إعطائه ولا يهم الرسول صلى الله عليه وسلم بممتنع , وأما بيان المقدمة الاستثنائية تثنائية فيما ذكره أهل السير والله جل جلاله الموفق بفضله لا رب سواه انتهى .