الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد ، وعلى آله وأصحابه أجمعين .. وبعد :
فعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ( رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ) قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ ( صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ) : ( نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ ؛ الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ ) ! ، والغُبْنُ هو ( الظُّلْمُ ) ، فلماذا كانوا مغبونين ؟! ؛ لأنهم لم يستفيدوا من صحتهم وفراغهم بما يقربهم إلى الله والدار الآخرة ، ولهذا بين النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) هذا المفهوم في حديث آخر ؛ فقال : ( اغْتَنِمْ خَمْساً قبْلَ خَمْسٍ ، حَياتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ ، وفَراغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ ، وشَبابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ ، وغِناكَ قَبْلَ فَقْرِكَ ) ، فـ ( الصحة ـ كما قيل ـ تاج على رؤوس الأصِحَّاء ، لا يعرفها إلا المرضى ) ! ، فكم من مريضٍ يتمنى أن يخطوا بقدميه ليُصلي الفريضة مع الجماعة ! ، ويَصِلَ أرحامه ! ، ويزور إخوانه ! ، ولكنه لا يستطيع ؟! ، وكم من مريضٍ إنقطع عن الناس ؛ فهو لا يسمع ولا ينطق ، يتمنى سماع القرآن وترتيل آياته ! ، ولكنه لا يسـتطيع ؟! ، وكم من مريض كُفَّ بصره ، فهو يتمنى أن يرى مخلوقات الله وآياته ؟! ، وكم من مريض يتمنى أن يأكل الطعام ويشرب الشراب ولكنه لا يستطيع ؟! ، وكم من مريض لا تَسْكن أوجاعه ، ولا يرتاح في منامه ؟! ـ وغيرهم كثير ! ـ ، وأنت تملك كل هذه الجوارح ومعافى فيها غير مبتلى ، فهل شكرت الله عليها ـ حق الشكر ـ ؟! ، وشكر نعمة ( الصحة ) يكـون ـ أولاً ـ بالنطق بكلـــمة الشــكر ، و ـ ثانياً ـ بتسـخير جوارحك ـ ( كلها ) ـ في طاعة الله ـ تعالى ـ ؛ فلا تسمع إلا خيراً أو طاعة ، ولا تنطق إلا بخــيرٍ أو طاعة ، ولا تمش إلا إلى خيرٍ أو طاعة ، ولا تنظر إلى ما حرم الله ، ولا تكتب بيدك إلا ما يسرُّك أن تلقاه أمامك يوم القيامة ، وبهذين الأمرين ـ فقط ـ يكون شكر نعمة الجوارح ـ لا غير ! ـ ، وليس الشكر باللسان ـ فقط ـ كما يفهمه بعض الناس ـ ، فأنت مسؤولٌ ـ أيها المسلم ـ يوم القيامة عن نعمة الصحة التي أعطاك الله إياهــا ، قال الله ـ تعالى ـ : (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ الْنَّعِيْمِ ( 8 ) )( سورة التكاثر /8 ) ، وقال: ( وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) )( سورة الصافات / 24 ) ، فما عساك أن تقول ؟! ، وما عساك أن تجيب ؟! ، وما أنت فاعلٌ حين يخــتم الله ـ تعالى ـ على فيك ، ثم تتكلم جوارحك بما كنت تفعله من خير أو شر ؟! ، قال الله ـ تعالى ـ : ( الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَــا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65) )( سورة يس / 65 ) ، فهيء لنفسك جـوابا ( صوابا ) عن السؤال يوم ( العرض الأكبر ) ! ، وأنا أسألك سؤالاً : ( لو أعطاك شخص عزيز عليك هدية كأن يكون جوالاً قيمته الماديةُ عاليةٌ جداً ، وهو من النوع الفاخر جداً ، وأنت لم تكن تتوقع أن تملكه يوما من الأيام ، وبمجرد أن أخذته بدأت تَفُكُّ قِطَعَهُ قِطْعَةً قِطْعَةً ، وترمي بهذه القطع على الأرض أمام من أعطاك الجوال ! ، أو أنك لم تشكره !! ، ولم تكافئه أبدا !!! ؛ فهل يعتبر هذا الفعل فعلاً حسناً ؟! ، أم هو من القُبْحِ بمكان ؟! ) ، فكذلك جوارحك التي وهبك الله إياها ؛ إذا إستعملتها في الخير أو الطاعة ؛ فأنت شاكرٌ للنعمة ، وإن كنت على عكس ذلك فأنت كافرٌ للنعمة ـ أي : جاحداً لها ؛ بسوء صنيعك ـ ! ، وكن كعبد الله ونبيه إبراهيم ( عليه السلام ) حين قال الله ـ تعالى ـ عنه ـ : ( شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) ) ( سورة النحل / 121 ) ، وكن ـ أيضا ـ كحال عبد الله ونبيه سليمان ( عليه السلام ) حيــن أغدق الله ـ تعالى ـ عليه النعم إغداقاً ؛ فقال : ( ... هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) )( سورة النمل / 40 ) ، فقد إعترف بفضل الله ـ تعالى ـ عليه وشكر ( بلسانه وعمله ) ولم يكفر !! . أما ( الفراغ ) ؛ فهو ـ عند كثير من الناس ـ لا قيمة له ، والفراغ ـ في الغالب ـ مملوء بغير الخير ، وبما لا ينـــفع ـ بل بما ( قد ) يضر ! ـ ، ويقضون أيامهم ـ بساعاتها الطوال ـ فيما لا فائدة منه ـ وفيه ! ـ ، وكأن حياتهم مبنية على اللهو والراحة والأكل والشرب والنوم ـ فقط ـ ! ، ونسوا ـ أو تناسوا ـ الغاية التي من أجلها خلق الله الخلق وهـي : ( العبادة ) ! ، قال الله ـ تعالى ـ : ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) )( سورة الذاريات / 56 ) ، وغيَّروا نمط حياتهم وسياقها من ( المطلوب ) إلى ( المحبوب ) ! ، فالمطلوب منهم هو أن يكونوا ( عبيداً لله ـ بحق ـ ) ! ، لا أن يلتجؤا للمحبوب ـ وهو ( هوى النفس ) ـ وكأنهم عبيد لأهوائهم من حيث لا يشعروا !! ، وهذا لا يعني أن المسلم لا يعيش حياة الراحة ، والإستقرار .. إلخ .. ( لا ) ! .. ولكن المطلوب منه أن يُسخِّر نفسه ـ و ( كل ما يملك ) ـ في الطاعة ، فالنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان ( يَضْحَكُ ويُضْحِكُ ) .. وكان ( يَمْزَحُ وَيُمَازِحُ ) ، ولكن لا يقول إلا حقا ( !! ).. أما نحن ـ اليوم ـ أصبحت حياتنا ( كلها ) ـ إلا ما رحم ربك ـ ( ضَحِكٌ في ضَحِكٍ ) ! ، وكأننا خُلقنا لنضحك ـ فقط !! ـ ، وأصبحت حياتنا ( كلها ) ـ إلا ما رحم ربك ـ ( مُزَاحٌ في مُزَاحٍ ) ـ ولا مكان للجد ـ وكأننا خُلقنا لنمزح ـ فقط !! ـ ، وهل نَحْنُ راضون عن أنفسِنا في قضاء أوقاتنا هَدَرَاً من غير فائدة ؟! ، فإذا جلس ( أَحدُنا ) أمام ( التلفاز ) ؛ فلا يرى فيه ما ينفعه في دينه ـ إلا ما رحم ربنا ـ ، وكأن الدروس والمحاضرات والمواعظ والقرآن أعداءٌ لنا ! ، وإذا ظهرت لنا قناة فيها من الخير ما فيها ؛ فإننا سرعان ما نحولها لقناة تلبي رغباتنا ! ، وكأننا ما خُلقنا إلا لنرى ( كرة القدم ) ! ، وكأننا ما خُلقنا إلا لنرى ( البرامج الترفيهية ) ! ، وكأننا ما خُلقنا إلا لنرى ( المسلسلات والأفلام ) ! ، و ( غالب ) أوقات ( أكثر المسلمين ! ) ـ على التلفاز ـ يقطعونها بهذه الأمور ! ، وهم يعلمون ما فيها من الشرور ! ، فَإتَّقُوْا اللهَ يَا ( مُسْلِمُوْنَ ) فِي هَاتَيْنِ النِّعْمَتَيْنِ ، وأُشْكُرُوْهُمَ ا قَبْلَ زَوَالِهِمَا ، !! ، والبِدارَ .. البِدارَ في إسْتِثْمارِهِمَ ا قَبْلَ ( فَوَاتِ الأَوَانِ وَالنَّدَمِ ) ، وَ ـ حِيْنَهَـا ـ لا يَنْفَــعُ ( النَّدَمُ ) ، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد ، وعلى آله وأصحابه أجمعين .