الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد ، وعلى آله وأصحابه أجمعين ... وبعد :
فإن مما لا شك فيه ولا ريب ؛ أن الغناء وسماع المعازف مُحَرَّمٌ ( شَرْعَاً ) ! ، ومُسْتَقْـبَحٌ ( عُرْفَاً ) ! ، ومُسْتَهْجَنٌ ( عَقْلاً ) ! ، وإن كنت في شـك من ـ ذلك ! ـ ، أو نسيت ـ ذلك ! ـ ؛ فإليك الأدلة عـلى ذلك ! ، قال الله ـ تعالى ـ : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) )( سورة لقمان / 6 ) ، قال إبن عباس وإبن مسعود ـ رضي الله عنهما ـ عن ( لهو الحديث ) هو : ( الغناء ) ، بل ويقسم إبن مسعود ـ رضي الله عنه ـ على ذلك ثلاثا !! ، ووافقهم على ذلك كثير من الصحابة والتابعين ؛ منهم : ( جابر ، وعِكْرِمة ، وسعيد بن جُبَيْر ، ومجاهد ، ومكحول ، وعمرو بن شعيب ، وعلي بن بَذيمة ، وعطاء الخراساني ) ، وقال الحسن البصري : ( أنزلت هذه الآية في الغناء والمزامير ) ، وقال إبن كثير ـ رحمه الله ـ في تفسيره عن ( لهـــو الحديث ) : ( ... ، الذين أعرضوا عن الانتفاع بسماع كلام الله ، وأقبلوا على استماع المزامير والغناء بالألحان وآلات الطرب ، .. ) ، وجاء التعقيب بعد هذه الآية بقوله ـ تعالى ـ : ( وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7) )( سورة لقمان / 7 )، قال إبــــن كثير ـ رحمه الله ـ تعالى ـ في تفسيرها : ( أي: هذا المقبل على اللهو واللعب والطرب ، إذا تليت عليه الآيات القرآنية ؛ ولى عنها وأعرض وأدبر وتَصَامّ وما به من صَـمَمٍ ، كأنه ما يسمعها ؛ لأنه يتأذى بسماعها ، إذ لا انتفاع له بها ، ولا أرَبَ له فيــها ، ( فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ) أي : يوم القيامــة يؤلمه ، كما تألم بسماع كتاب الله وآياته ) ، ومنها : ( أن إبن عمر ـ رضي الله عنهما ـ خرج يوماً في حاجة .. فمر بطريق فسمع ( زمارة راعٍ ) ! ؛ فوضع إصبعيه في أذنيه حتى جاوزه ) ! ، وقال إبن مسعود ـ رضي الله عنه ـ : ( الغناء يُنبت النفاق في القلب ) ، قال إبن القيم ـ رحمه الله ـ : ( فإن قيل : فما وجه إنباته للنفاق في القلب من بين سائر المعاصي ؟! ، قيل هذا من أدل شيء على فقه الصحابة في أحوال القلوب وأعمالها ومعرفتهم بأدويتها وأدوائها وأنهم هم أطباء القلوب دون المنحرفين عن طريقتهم الذين داووا أمراض القلوب بأعظم أدوائها فكانوا كالمداوي من السقم بالسم القاتل ، وهكذا والله فعلوا بكثير من الأدوية التي ركبوها ـ أو بأكثرها ـ ، فاتفق قلة الأطباء وكثرة المرضى وحدوث أمراض مزمـنة لم تكن في السلف ، والعدول عن الدواء النافع الذي ركبه الشارع وميل المريض إلى ما يقوي مادة المرض ؛ فاشتد البلاء وتفاقم الأمر وامتلأت الدور والطرقات والأسواق من المرضى وقام كل جهول يطبب الناس ! ، فاعلم أن للغناء خواص لها تأثير في صبغ القلب بالنفاق ونباته فيه كنبات الزرع بالماء ، فمن خواصه : أنه يلهي القلب ويصده عن فهم القرآن وتدبره والعمل بما فيه ، فإن القرآن والغناء لا يجتمــعان في القلب ـ أبدا ـ ؛ لما بينهما من التضاد ، فإن القرآن ينهى عن إتباع الهوى ويأمر بالعفة ومجانبة شهوات النفوس وأسباب الغي ، وينهى عن إتباع خطـوات الشيطان ، والغناء يأمر بضد ذلك كله ويحسنه ويهيج النفوس إلى شهوات الغى ؛ فيثير كامنها ويزعج قاطنها ويحركها إلى كل قبيح ويسوقها إلى وصل كل مليحة ومليح ... وهو جاسوس القلب ، وسارق المروءة ، وسوس العقل يتغلغل في مكامن القلوب ويطلع على سرائر الأفئدة ويدب إلى محل التخيل ؛ فيثير ما فيه من الهوى والشهوة والسخافة والرقاعة والرعونة والحماقة ، فبينا ترى الرجل وعليه سمة الوقار وبهاء العقل وبهجة الإيمان ووقار الإسلام وحلاوة القرآن ، فإذا إستمع الغناء ومال إليه ؛ نقص عقله وقل حياؤه وذهبت مروءته وفارقه بهاؤه وتخلى عنه وقاره وفرح به شيطانه ) . أ . هـ وقال الفضيل بن عياض ـ رحمه الله ـ : ( الغناء رقية الزنا ) ، وقال الخليفة يزيد بن الوليد : ( يا بني أمية : إياكم والغناء ؛ فإنه يُنقص الحياء ويزيد في الشهوة ويهدم المروءة ، وإنه لينوب عن الخمر ، ويفعل ما يفعل السكر ، فإن كنتم لا بُدّ فاعلين فجنبوه النساء ؛ إن الغناء داعية الزنا ) ، و قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ : ( فإنهم متفقون - أي الأئـمة الأربعة - على تحريم المعازف التي هي آلات اللهو كالعود ونحوه ) فهؤلاء أئمة المذاهب الأربعة مجتمعون على تحريمه ، فهل بعد كل هذا الكلام تشك في أن الغناء حرام ؟! ، وقال إبن القيم ـ رحمه الله ـ :
حُبّ ( الكِتَابِ ) وَ ( حُبّ الحَانِ الغِنَاءِ ) في قَلْــــبِ عَبْدٍ لَيْــــــسَ يَجْتَمِعَانِ
وقال ـ أيضا ـ رحمه الله ـ : ( فالغناء يُفسد القلب ، وإذا فسد القلب ؛ هاج في النفاق ) ، ولا شك أنه إذا كان من خلال آلة موسيقية فهو أشدّ في التحريم ، وقد يدّعي أقوامٌ أن الموسيقى الهادئة تُريح الأعصاب ! ، وليس الأمر كذلك ؛ فقد ثبّت ـ طبيّاً ـ أن النفس تجد الراحة في القرآن وليـس في الغناء ، وصدق الله ـ ومَنْ أصدقُ مِنَ اللهِ قِيْلاً ؟ ـ حين قال : ( الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) )( سورة الرعد / 28 ) ، ومما هو مشاهد محسوس معلوم ؛ أن من استلذّ بسماع الأغاني ؛ لا يُمكن أن يجد حلاوة تلاوة كلام الله ـ عز وجل ـ ، وسئل مالك ـ رحمه الله ـ عما يرخص فيه أهل المدينة من الغناء ؟ ؛ فقال : ( إنما يفعله عندنا الفساق ) ، وأما إمام أهل السنة والجماعة الإمام أحمد ابن حنبل ـ رحمه الله ـ فقال عبـــــد الله ـ إبنه ـ سألت أبي عن الغناء ؟ ؛ فقال : ( الغناء ينبت النفاق في القلب ؛ لا يعجبني ) ، ثم ذكر قول مالك : ( إنما يفعله عندنا الفساق ) ، وقال الله ـ تعالى ـ :( وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64) )( سورة الإسراء / 64 )، جاء في تفسير ( الجلالين ) : ( قوله : " وإستفزز" : إستخـف ، " صوتك" : بدعائك بالغناء والمزامير ، وكل داع إلى المعصية ، قال ابن القـيم ـ رحمــــــه الله ـ : ( والغناء من أعظم الدواعي إلى معصية الله ) ، عن مجاهد ـ رحمه الله ـ أنه قال : ( صوت الشيطان الغناء والمزامير ) ، وقال القرطبي ـ رحمه الله ـ في تفسيره : ( في الآية ما يدل على تحريم المزامير والغناء واللهو .. وما كان من صوت الشيطان أو فعله وما يستحسنه فواجب التنزه عنه ) ) أ . هـ . ومن مفاسد الغناء : ( تضييع الوقت ، قسوة القلب ، اللهو والغفلة عن كتاب الله ، تهييج الشهوات ، الحث على الفواحش ، ينبت النفاق في القلب ، إستحقاق العقوبة وهي المسخ ، خروج القرآن من القلب ، معصية الله ورسوله ، وإتباع خطوات الشيطان ) ، ومن عِظَمِ خطر الغناء ؛ توعد النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ سُمَّاع المعازف بالمسخ والقذف ؛ فقد روى الترمذي ـ بسند حسن ـ : أنه ـ صلى الله عليه وآله سلم ـ قــــــال : ( يكون في أمتي خسفٌ وقذفٌ ومسخٌ ) ، قيل : يا رسول الله .. متى ؟! ، قال : ( إذا ظهرت القينات والمعازف واستحلت الخمر ) ، وقال ـ صلى الله عليه وآله سلم ـ : ( ليكونن من أمتي أقوام يشربون الخمر ويعزف على رؤوسهم بالقيان ، يمسخهم الله تعالى قردة وخنازير ) ، والقِيان جمع قَينة ، وهي المرأة المغنية .. نعم ؛ سيعاقب الله هذه الأمة ، بما عاقب به الأمـــم من قبلنا ، أن يخسف الله بهم الأرض ، أو يمسخهم قردةً وخنازير ، أو تنزل عليهم حجارةٌ من السماء ؛ بسوء أعمالهم ، فمتى يكون ذلك ؟! ، يكون إذا ظهرت المعازف ، وإنتشرت وكثرت ، وهاهي آلات المعازف لا تكاد تحصى عدداً ، بل هاهي مدارس العزف والموسيقى تنتشر في كثير من بلاد الإسلام ، وهاهن المغنيات ، المائلات المميلات ، يحركن الشهوات ، بل هاهم الأعداء يفتكون بأرواح الثكالى ، ويعبثون بأعراض العذارى ، وفريق من قومنا في لهوه وطربه !! ... وصدق الشاعر ـ حين قال ـ : العَزْفُ وَالـرَّقْـــصُ وَالمِزْمَــارُ عُدَّتُنَا وَالخّصْـــــمُ عُدَّتَهُ عِــــــــــلْم ٌ وَآلاتُ!
تَقُودُ أمَتُنَا فِي الحَــــــــرْب ِ ( غَانِيَةٌ ) وَالجَيْشُ فِي الحَرْبِ قَـــدْ ألْهَتْهُ مُغَــــــنَاةُ ! كَمْ بَدَّدُوا المَــــالَ ـ هَدَرَاً ـ فِي مَبَاذِلِهِمُ وَفِي لَيَالِي الخَنَا ضَـــاعَـتْ مُــــــرُوْءَا تُ ! قال رجل لابن عباس : أفتني في الغناء ! حلال هو أم حرام ؟! ؛ فقال ابن عباس : ( لا أقول حلالاً إلا ما أحلَّ الله ، ولا أقول حراماً إلا ما حرَّم الله ، لكن قل لي ـ يقول ابن عباس للرجل ـ لكن قل لي : إذا اجتمع الحق والباطل يوم القيامة فأين يكون الغناء ) ؟! ؛ فقال الرجل : مع الباطل ؛ فقال ابن عباس : ( إذهب ؛ فلقد أفتيت نفسك ) !! ، فبعد كل هذا إن كنت مازلت مصمما على رأيك من السماع فأنت وما تريد ، ولكن أذكرك بقول الله ـ تعالى ـ : ( وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ( 281 ) )( سورة البقرة / 281) ، فإنك ستسأل أمام الله عن الكبير والصغير ، عن النقير و القطمير ؛ فأعِدَّ للسؤال جواباً صواباً ! ، قال الله ـ تعالى ـ : ( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ ( 30 ) )( سورة آل عمران / 30 ) ، فإن كنت تريد الآخرة ؛ فإمتثل لأمر الله ونهيه ، وتب وأحسن فيما بقي ؛ يغفر لك ما قد سلف ، قال الله ـ تعالى ـ : ( فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمــِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ )( سورة المائدة / 39 ) .... وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد ، وعلى آله وأصحابه أجمعين .