بسم الله الرحمن الرحيمصفة العارفليس في الدنيا ولا في الآخرة أطيب عَيْشًا من العارفين بالله عز وجل، حقيقة لا يدركها إلا من ذاقها، فإن العارف به مستأنس به في خلوته، فإن عمت نعمة، علم من أهداها، وإن مَرَّ مُرٌّ حلا مذاقه في فيه، لمعرفته بالمبتلي، وإن سأل فتعوق مقصوده، صار مراده ما جرى به القدر، علا منه بالمصلحة، بعد يقينه بالحكمة، وثقته بحسن التدبير، وهذا من عجيب أمر المؤمن، فإن أمره كله خير.وصفة العارف: أن قلبه مراقب لمعروفه، قائم بين يديه، ناظر بعين اليقين إليه، فقد سرى من بركة معرفته إلى الجوارح ما هذبها.فإن نطقت فلم أنطق بغيركم ... وإن سكت فأنتم عقد إضماري.فهو بالله يسمع وبه ينطق ويتكلم وبه يمشي ويسعى وبه يبطش ويكسب، فهو بالله ولله وفي سبيل الله.فإذا تسلط على العارف أَذًى، أعرض نظره عن السبب، ولم ير سوى المسبب، فهو في أطيب عيش معه: إن سكت، تفكر في إقامة حقه من دعوة الخلق إلى الله ونصرة الحق والرد على الباطل، وإن نطق، تكلم بما يرضيه وإن غضب من غضب، لا يسكن قلبه إلى زوجة ولا إلى ولد، ولا يتشبث بذيل محبة أحدٍ؛ فلا يقدم أحدا كائنا من كان على الله ورسوله، وإنما يعاشر الخلق ببدنه، وروحه عند مالك روحه، تجول في ملكوت ربه وتتفكر في آلائه.فهذا الذي لا هَمَّ عليه في الدنيا، ولا غم عنده وقت الرحيل عنها، ولا وحشة له في القبر، ولا خوف عليه يوم المحشر، ولا هم يحزنون.فأما من عدم المعرفة، فإنه معثر: لا يزال يضج من البلاء؛ لأنه لا يعرف المبتلي، ويستوحش لفقد غرضه؛ لأنه لا يعرف المصلحة، ويستأنس بجنسه؛ لأنه لا معرفة بينه وبين ربه، ويخاف من الرحيل؛ لأنه لا زاد له، ولا معرفة بالطريق، ولا ما يضيء له الصراط.وكم من عالم وزاهد لم يرزقا من المعرفة إلا ما رزقه العامي البطال! وربما زاد عليهما! وكم من عامي رزق منها ما لم يرزقاه مع اجتهادهما! وإنما هي مواهب وأقسام: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54]، {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [البقرة: 105] .وصل اللهم وسلم على محمد.