خاطرة لأبي الفرج إبن الجوزي ـ رحمه الله ـ ، بعنوان : ( الله يغفر للجاهل قبل العالم )
شرحها الشيخ أبي إسحاق الحويني ـ حفظه الله ـ ، وعنون لها بـ ( حقيقة العلم النافع )
من مجالس ( مدرسة الحياة ) لرمضان عام ( 1432 ) هـ ـ ( 2011 ) مـ
قال إبن الجوزي ــ رحمه الله ــ : ( رأيت جماعة من العلماء يتفسحون و يظنون أن العلم يدفع عنهم ، و ما يدرون أن العلم خصمهم ! ، و أنه يغفر للجاهل سبعون ذنبا قبل أن يغفر للعالم ذنب ــ واحد ! ــ ؛ و ذاك لأن الجاهل لم يتعرض بالحق ! ، و العالم لم يتأدب معه ! ، و رأيت بعض القوم يقول : " أنا قد ألقيت منجلي بين الحصّادين و نمت " ، ثم كان يتفسح في أشياء لا تجوز ، فتفكرت فإذا العلم ــ الذي هو معرفة الحقائق ، و النظر في سير القدماء ، و التأدب بآداب القوم ، و معرفة الحق ، و ما يجب له ــ ليس عند القوم !! ، و إنما عندهم : صور ألفاظ يعرفون بها ما يحل و ما يحرم ، و ليس ذلك العلم النافع ؛ إنما العلــــم : " فهم الأصول ، و معرفة المعبود و عظمته و ما يستحقه ــ سبحانه وتعالى ــ ، و النظر في سير الرسول ــ صلى الله عليه و سلم ــ و صحابته ، و التأدب بآدابهــم ، و فهم ما نقل عنهم " ، ذاك هو العلم النافع الذي يدع أعظم العلماء أحقر عند نفسه من أجهل الجهال ! ، و رأيت بعض من تعبد مدة ثم فتر فبلغني أنه قال : " قد عبدته عبادة ما عبده بها أحد ، و الآن قد ضعفت " ! ؛ فقلت : " ما أخوفني أن تكون كلمته هذه سببا لرد الكل " ؛ لأنه قد رأى أنه عمل مع الحق شيئا ، و إنما وقف يسأل النجاة بطلب الدرجات ، ففي حق نفسه فعل .. ، و ما مثله إلا كمثل من " وقف يكدي فما ينبغي أن يمن على المعطي " !! ، و إنما سبب هذا الإنبساط ؛ " الجهل بالحقائق " ، و أين هو من كبار علماء المعاملة الذين كان فيهم مثل صلة بن أشيم ، إذا رآه السبع ؛ هرب منه ! ، و هو يقول ــ إذا انقضى الليل عند صلاته ــ : " يا رب أجرني من النار أوَ مثلي يسأل الجنة " ؟! ، و أبلغ من ذا قول عمر ــ رضي الله عنه ــ : " وددت أن أنجو كفافا لا لي و لا علي " ! ، و قول سفيان ــ عند موته ــ لحماد بن سلمة : " أترجو لمثلي أن ينجو من النار "؟ ! ، و قول أحمد : " لا بعد " ! . فأنا أحمد الله ــ عز و جل ــ ؛ إذ تخلصت من جهل المتسمين بالعلم من هؤلاء الذين ذممتهم ، و بالزهد من هؤلاء الذين عبتهم ؛ فإني قد اطلعت من عظمة الخالق ، و سير المحققين على ما يخرس لسان الإنبساط و يمحو النظر إلى كل فعل ، و كيف أنظر إلى فعلي المستحسن و هو الذي وهبه لي و أطلعني على ما خفى عن غيري ؟! ، فهل حصل ذلك بي أو بلطفه ؟! ، و كيف أشكر توفيقي الشكر ؟! ، ثم أي عالم ــ إذا سبر أمور العلماء من القدماء ــ لا يحتقر نفسه ؟! ، هذا في صورة العلم فدع معناه ، و أي عابد يسمع بالعباد و لا يجري في صورة التعبد فدع المعنى ؟! ، نسأل الله ــ عز و جل ــ معرفة تعرفنا أقدارنا ؛ حتى لا يبقى للعجب بمحتقر ما عندنا أثر في قلوبنا ، و ترغب إليه في معرفة لعظمته تخرس الألسن أن تنطق بالإذلال ، و نرجو من فضله توفيقا نلاحظ به آفات الأعمال التي بها نزهو ؛ حتى تثمر ــ الملاحظة لعيوبها ــ الخجل من وجودها .. إنه قريب مجيب .