بسم الله الرحمن الرحيمكيف لو رأى ابن الجوزي ما نحن عليه اليوم؟؟؟قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى:تأملت الأرض ومن عليها بعين فكري، فرأيت خرابها أكثر من عمرانها، ثم نظرت في المعمور منها، فوجدت الكفار مستولين على أكثره، ووجدت أهل الإسلام في الأرض قليلًا بالإضافة إلى الكفار.ثم تأملت المسلمين، فرأيت الأكساب قد شغلت جمهورهم عن الرازق، وأعرضت بهم عن العلم الدال عليه.فالسلطان مشغول بالأمر والنهي، والذات العارضة له، ومياه أغراضه جارية لا سكر لها، ولا يتلقاه أحد بموعظة، بل بالمدحة التي تقوي هوى النفس!!.وَإِنَّم ا ينبغي أن تقاوم الأمراض بأضدادها، كما قال عمر بن المهاجر: قال لي عمر بن عبد العزيز: إذا رأيتني قد حدت عن الحق، فخذ بثيابي، وهزني، وقل: مالك يا عمر؟! وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: رحم الله من أهدى إلينا عيوبنا، فأحوج الخلق إلى النصائح والمواعظ السلطان.وأما جُنُودُهُ، فجمهورهم في سكر الهوى، وزينة الدنيا، وقد انضاف إلى ذلك الجهل، وعدم العلم، فلا يؤلمهم ذنب، ولا ينزعجون من لبس حرير، أو شرب خمر..، ثم أخذهم للأشياء من غير وجهها، فالظلم معهم كالطبع!.وأرباب البوادي قد غمرهم الجهل، وكذلك أهل القرى، ما أكثر تقلبهم في الأنجاس، وتهوينهم لأمر الصلوات!!..ثم نظرت في التجار، فرأيتهم قد غلب عليهم الحرص، حتى لا يرون سوى وجوه الكسب، كيف كانت، وصار الربا في معاملاتهم فاشيًا، فلا يبالي أحدهم من أين تحصل له الدنيا! وهم في باب الزكاة مفرطون، ولا يستوحشون من تركها، إلا من عصم الله.ثم نظرت في أرباب المعاش، فوجدت الغش في معاملاتهم عامًّا وكذلك التطفيف والبخس، وهم مع هذا مغمورون بالجهل!.ورأيت عامة من له ولد يشغله ببعض هذه الأشغال طلبًا للكسب قبل أن يعرف ما يجب عليه وما يتأدب به.ثم نظرت في أحوال النساء، فرأيتهم قليلات الدين، عظيمات الجهل، ما عندهن من الآخرة خبر إلا من عصم الله، فقلت: واعجبًا! فمن بقي لخدمة الله عز وجل ومعرفته؟!.فنظرت، فإذا العلماء، والمتعلمون، والعباد، والمتزهدون، فتأملت العباد والمتزهدين، فرأيت جمهورهم يتعبد بغير علم، ويأنس إلى تعظيمه، وتقبيل يده، وكثرة أتباعه، حتى إن أحدهم لو اضطر أن يشتري حاجة من السوق لم يفعل، لئلا ينكسر جاهه! ثم تترقى بهم رتبة الناموس إلى ألا يعودوا مريضًا، ولا يشهدوا جنازة، إلا أن يكون عظيم القدر عندهم.ولا يتزاورون، بل ربما ضن بعضهم على بعض بلقاءٍ، فقد صارت النواميس كالأوثان، يعبدونها ولا يعلمون! وفيهم من يقدم على الفتوى بجهل، لئلا يخل بناموس التصدر! ثم يعيبون العلماء لحرصهم على الدنيا، ولا يعلمون أن المذموم من الدنيا ما هم فيه لا تناول المباحات!.ثم تأملت العلماء والمتعلمين، فرأيت القليل من المتعلمين عليه أمارة النجابة؛ لأن أمارة النجابة طلب العلم للعمل به، وجمهورهم يطلب منه ما يصيره شبكة للكسب: إما ليأخذ قضاء مكان، أو ليصير قاضي بلد، أو قدر ما يتميز به عن أبناء جنسه، ثم يكتفي.ثم تأملت العلماء، فرأيت أكثرهم يتلاعب به الهوى، ويستخدمه، فهو يؤثر ما يصده العلم عنه، ويقبل على ما ينهاه، ولا يكاد يجد ذوق معاملة الله سبحانه؛ وإنما همته أن يقول وحسب.إلا أن الله لا يخلي الأرض من قائم له بالحجة، جامع بين العلم والعمل، عارف بحقوق الله تعالى، خائف منه، فذلك قطب الدنيا، ومتى مات، أخلف الله عوضه، وربما لم يمت حتى يرى من يصلح للنيابة عنه في كل نائبة، ومثل هذا لا تخلو الأرض منه، فهو بمقام النبي في الأمة.وهذا الذي أصفه يكون قائمًا بالأصول، حافظًا للحدود، وربما قل علمه، أو قلت معاملته، فأما الكاملون في جميع الأدوات، فينذر وجودهم، فيكون في الزمان البعيد منهم واحد.ولقد سبرت السلف كلهم، فأردت أن استخرج منهم من جمع بين العلم حتى صار من المجتهدين، وبين العمل حتى صار قدوة للعابدين، فلم أر أكثر من ثلاثة: أولهم: الحسن البصري، وثانيهم: سفيان الثوري، وثالثهم: أحمد بن حنبل، وقد أفردت لأخبار كل واحد منهم كتابًا، وما أنكر على من ربعهم بسعيد بْنِ المُسَيَّبِ.وإن كان في السلف سادات؛ إلا أن أكثرهم غلب عليه فن، فنقص من الآخرة، فمنهم من غلب عليه العلم، ومنهم من غلب عليه العمل، وكل هؤلاء كان له الحظ الوافر من العلم، والنصيب الأوفى من المعاملة والمعرفة.ولا ييأس من وجود من يحذو حذوهم، وإن كان الفضل بالسبق لهم، فقد أطلع الله -عز وجل- الخضر على ما خفي على موسى عليه السلام، فخزائن الله مملوءة، وعطاؤه لا يقف على شخص.ولقد حكي لي عن ابن عقيل: أنه كان يقول عن نفسه: أنا عملت في قارب ثم كسر وهذا غلط، فمن أين له؟! فكم من معجب بنفسه كشف له من غيره ما عاد يحقر نفسه على ذلك!! وكم من متأخر سبق متقدمًا!! وقد قيل:إنَّ اللَّيالِيَ وَالأَيَّامَ حَامِلَةٌ ... وَلَيْسَ يَعْلَمُ غَيْرُ اللهِ مَا تَلِدُ.والحمد لله رب العالمين، وصل الله على محمد وآله وصحبه وسلم.