تساؤلات حول تمثيل الصحابة

الكلام على التمثيل عمومًا وعلى تمثيل الصحابة خصوصًا كلام طويل متشعب وفيه أقاويل وتصانيف ، ولست هنا في معرض الترجيح الفقهي، كما أنني لست مستدلا بالخلاف للتسويغ الشرعي كما يفعله قليلو البضاعة ومتخذو الاختلاف شماعة، إلا أنه ثمة هنا أسئلة ملحة أطرحها على من يجيز تمثيل الصحابة :

1- كثير من المشايخ الذي قالوا بالجواز تراهم عند مطالبتهم بإبداء رأيهم صراحة على الملأ في مسألة تمثيل الصحابة تجدهم يهرعون إلى المنطقة الرمادية، وتراهم يحيدون عن الإجابة، ويأتون بأجوبة ضبابية محتملة، وبعضهم يقول –
بلهجة المتهرب - : أنا دوري فقط تقييم النص التاريخي وتوثيقه واعتماده ... إلخ . وبعضهم ربما صرح بالإنكار والمنع ثم تتفاجأ بظهور اسمه في قائمة المجيزين للعمل الفني . والسؤال : أليس في تلك اللغة المائعة العائمة - التي يتكلم فيه أولئك الشيوخ - تهرب من المسؤولية ؟! أليس فيها حيدة عن التبعة ؟! أليس فيها إقرار ضمني بوجود إشكال ما في هذا العمل الفني ؟!
2- لماذا يوصف من يمنع تمثيل الصحابة بالجمود والرجعية والعجلة في إصدار الأحكام قبل التصور و قبل الاحتكام ؟ أليس حكم أولئك المشايخ صادر عن استقراء وتتبع لتاريخ طويل للدراما التاريخية التي لا زالت تعيد نفس الأخطاء وتقع في ذات المزالق ؟

3- مما هو معروف ومُسلَّم به عند من له أدنى اهتمام بطرق الإلقاء وأساليب التخطاب ووسائل الاتصال والتواصل أن لغة الجسد لها أثر كبير جدًا في إيصال المعلومات وفهمها، وأنها تحمل معنى أكثر من معنى الكلام المصاحب لها وأبلغ، وربما توقف عليها فهم الكلام ومعرفة المراد به وقصد المتكلم . فالحركات والأحوال والهيئات والإشارات والتعابير سواء كانت بالجسد كله من تمايل وثبات، أو ببعض أعضائه كإيماءات الرأس، أو حركات اليدين، أو تعابير الوجه، أو ما يلحق بذلك من طول وقصر ، ودقة وغلظ، وبياض وسواد ونحوها، أوطريقة لباس، أو هيئة مشي ، تعطي ما لا يعطيه الوصف الإلقائي والسرد القصصي المجرد في كتب التاريخ من الدلالات والإيحات ، ورسوخها في الذهن أكثر، وتأثيرها الفكري أكبر، وزياداتها على النص وتغييرها لفهمه مما لا مناص عنه، وما تتركه من انطباعات تلاحق الذهن كلما ذكر النص أمر لا تنكره العقول السليمة ، فهل يقال بعد هذا كله أن دلالة النص التاريخي تبقى مجردة من أي تأثير ؟

4- تصوير المجتمعات، وإظهار البيئة، وتجسيد الحياة العامة، وإظهار النمط الحياتي، والطابع المعيشي، والنظام الاجتماعي، عبر خلفيات المشاهد، و(الديكورات ) المصاحبة للقطات، والموسيقية الملازمة من التبعات العظيمة التي تواجه القائمين على العمل الفني؟ على ماذا سيظهر مجتمع الصحابة من لباس وطريقة عمل؟ كيف كان يسير المجتمع في عهدهم ؟ وعلى ماذا تظهر نساء الصحابة ؟ وعلى ماذا يظهر أولاد الصحابة؟

5- هل من الإنصاف مع ذلك المجتمع والصدق مع التاريخ واحترام النص التاريخي وتوثيقه- كما يزعم بعض المشايخ - أن يظهر الصحابة بثياب أشبه بثياب مهرجي السيرك ودراويش الصوفية ؟ إن تجربة السابقة لتمثيل الصحابة أبدت لنا أنها تظهر الصحابة بثياب ليس فيها تناسق ألوان، أو تناسب طول وقصر، أو حسن مظهر وجمال منظر . فمظاهر الصحابة في تلك الأعمال الفنية لا ترى فيها الأناقة وحسن الزي ولا تجد فيها الذوق في اللباس الذي يوجد عند كل إنسان بالفطرة . وهذا ناشيء من فهم خاطئ للزهد والبذاذة والتواضع، لاعتقاد التلازم بينها وبين أن يكون المظهر رثاثة الهيئة وقبح المظهر ، بل تجد أكثر أولئك الممثلين لا يحسن لبس العمامة وحمل السيف والمشي بالنعال والتمكن من امتطاء الخيل !

6- هل من الإنصاف مع ذلك المجتمع الطاهر المحافظ واحترام النص التاريخي أن يظهر المجتمع المسلم في عهد الصحابة والصدر الأول مجتمعًا يختلط فيه النساء بالرجال ويزاحم النساء فيه الرجال في الأسواق والمنتديات ؟

7- هل من الإنصاف مع ذلك المجتمع واحترام العقل وإثبات النص التاريخي أن يظهر الصحابة أنها مجرد متصوفة زهاد متنسكون وبسطاء ساذجون دراويش وفقراء مساكين صعاليك وضعيفو الفكر قليلو الرأي عديمو الحيلة لا هم لهم في أمور الدنيا ولا يعرفون شيئا في السياسة وتدبير الأمور ؟

8- هل
من احترام النص التاريخي تنزيل طرائق إخراج الكلام وأساليب أداء الكلمات وسبل النطق بالعبارات في عصرنا على أهل ذلك العصر ؟
9-
هل من احترام النص التاريخي تنزيل التعابير الجسدية التي تستخدم في بعض البلدان وعرف بها أهل بعض الأمصار على أهل ذلك العصر ؟
10- من أين
لأولئك الممثلين أساليب العرب الفصحاء وطرائقهم في الكلام في ذلك العصر من الكلام البديع والخطاب الرائق والأسلوب الفذ والمنطق الفصيح ؟
11- بعض
الأحداث وردت فيها أقوال وأشعار فيها كلمات غريبة ولا تكاد تستعمل في لسان أهل هذا العصر فلا تُفهم إلا بالرجوع إلى القواميس والمعاجم فما هو موقفهم منها فإما أن يذكروها كما هي ويدعوا المشاهد في حيرة وإما أن يغيروها وكثيرا ما يفعلون ؟
12- انطباع
صورة الممثل في الذهن عند ذكر الشخصية وتلازم ذلك واستمراره ولصوقه في العقل الباطن، من أكبر المشاكل التي لا يمكن الانفكاك عنها ولا يوجد لها حل، وأخبرني أحدهم أنه شاهد فيلم الرسالة من إخراج المخرج السوري مصطفى العقاد في صغره وكلما ذكر حمزة بن عبد المطلب ذكر الممثل المصري عبد الله غيث – رحمه الله - وكثير من الناس يشاركونه في هذا الشعور، فما هو موقف أولئك المشايخ المبيحين من التصاق تلك الصورة في العقل الباطن وملازمته له عند ذكر الشخصية وخطر ذلك على النشء خاصة ؟
13- من السذاجة
الفادحة التي لم يتخلص منها ممثلو الأفلام التاريخية إلى يومنا هذا تصوير المسلمين في المعارك لابسين ثيابًا بيضًا والكفار لابسين ثيابًا سودًا وكأننا في مباراة كرة قدم ، أليس هذا من مغالطة التاريخ ؟
14-
هل من الإنصاف مع ذلك المجتمع الطاهر المحافظ واحترام النص التاريخي أن يظهر بعض الصحابة حليقي اللحى أو بلحى مشذبة مقصوصة قصيرة، بل تجد بعض القصات الحديثة للحى والشعر مما تظهر بعض الشخصيات التاريخية ؟
15- من السذاجة
الفادحة التي لم يتخلص منها ممثلو أفلام الصحابة إلى يومنا تصوير الكفار عموما وكفار قريش خصوصًا بأنهم ذووا مناظر بشعة وأشكال قبيحة مرعب، وكأنه يلزم من الكفر أن يكون صاحبه ذميم الوجه موحش الهيئة قبيح المنظر، وفاتهم أن أبا لهب كان جميلًا وما سمي بذلك إلا لجماله أليس هذا من مغالطة التاريخ ؟
16- من
أين لهم توفر بعض الصفات الخَلقية في الممثل الذي يمثل الشخصية التاريخية إذا كانت مثلًا قصيرة جدًا مع ضعف في البنية كابن مسعود، أو كان فيها حول كأبي لهب ...إلخ ؟ أليس من المغالطة التاريخية ألا تظهر الشخصية التاريخية بنفس صفاتها ؟ ثم من أين لهم تحقيق تطابق بعض الصفات الهامة التي عُرفت بها الشخصية التاريخية بين الممثِّل والممثَّل ؟
لقد ساهمت تلك المسلسلات والأفلام التاريخية في إضعاف هيبة الشخصيات التاريخية، وزعزعة محبتها، واهتزاز بعض القناعات عنها، وإحداث بعض التصورات تجاهها، إن اكتناف الغموض في النواحي الكيفية للشخصية التاريخية فيه من المهابة والتعظيم ما يحدث محبتها وتعظيمها ، كما يحدث فجوة وبعد لعدم الخوض في شأنها والجرأة عليها، فالسماع المجرد غير الرؤية ومعلوم تفاوت تأثيرهما على النفس البشرية فما راءٍ كمن سمع وفي الحديث :" ليس الخبر كالمعاينة "، وهذا أمر معروف فإن السماع المجرد فيه التشويق والإثارة والمحبة والتطلع، والرؤية تضعف هذا .

17- أكثر من أجاز تمثيل الصحابة يقتصرون على قراءة النصوص وتقييمها دون تقييم العمل والأداء والتطبيق، بل بعضهم يجيز إنتاج عمل درامي ثم يقول لم اطلع عليه وإنما اطلعت على النص أو الفكرة أليس هذا خلال كبير ؟ فكما معروف بداهة أن بين النص والتطبيق بون شاسع ؟

18- لماذا يقصر كثير ممن أجاز تمثل الصحابة مسؤوليته فقط في الجانب العلمي والشرعي فط ويخلي مسؤوليته عن الجانب الفني ويتحجج بعدم علمه ودرايته بالجوانب الفنية هل هذا يسقط عنه تبعات الفتوى ومسؤليتها ؟

19- ماذا لو مُثّل فيلم لبعض أولئك المفتين بجواز التمثيل ونُشر دون إذنهم ترى ماذا ستكون ردة فعلهم ؟ إن القضاء في أي بلد يجيز لأي شخص أن يرفع قضية إذا تعرض شخصه للتمثيل دون إذنه فمن يحفظ حق الصحابة ؟

20- عند المقارنة بين المصالح والمفاسد في تمثيل الصحابة نجد أن المفاسد أكثر من المصالح، كما نجد أن المفاسد متحققة والمصالح محتملة، فما الأولى فيها إذًا التحريم أم الإباحة ؟

وأخيرًا .. لا نطعن في نية إخواننا من الدعاة والمشايخ من أفتى بجواز تمثيل الصحابة، ولا نشك لحظة في غيرتهم على الدين وحرصهم على الدعوة ونفع الأمة، ولبعضهم قدم صدق في الإفتاء والتعليم والدعوة والله الهادي إلى الحق ، وصلى الله وسلم على النبي وآله وصحبه ومن اتبع سبيله إلى يوم الدين .

وكتبه : عبد الرحيم بن سعيد الإسحاقي