بسم الله الرحمن الرحيموصية أبي حازم الأعرج للزهريالحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.عافانا الله وإياك أبا بكر من الفتن، ورحمك من النار، فقد أصبحت بحال ينبغي لمن عرفك بها أن يرحمك منها، أصبحت شيخا كبيرا قد أثقلتك نعم الله عليك، بما أصح من بدنك، وأطال من عمرك، وعلمت حجج الله تعالى مما حملك من كتابه، وفقهك فيه من دينه، وفهمك من سنة نبيك صلى الله عليه وسلم، فرمى بك في كل نعمة أنعمها عليك وكل حجة يحتج بها عليك، وقد قال تعالى: {لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد}.انظر أي رجل تكون إذا وقفت بين يدي الله عز وجل فسألك عن نعمه عليك كيف رعيتها؟ وعن حججه عليك كيف قضيتها؟ ولا تحسبن الله راضيا منك بالتغرير، ولا منك بالتقصير، هيهات ليس كذلك، أخذ على العلماء في كتابه إذ قال: {لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم} .. الآية.إنك تقول إنك جدل، ماهر عالم، قد جدلت الناس فجدلتهم، وخاصمتهم فخصمتهم، إذلالا منك بفهمك، واقتدارا منك برأيك، فأين تذهب من قول الله عز وجل: {ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة} .. الآية.اعلم أن أدنى ما ارتكبت، وأعظم ما احتفيت، أن آنست الظالم وسهلت له طريق الغي بدنوك حين أدنيت، وإجابتك حين دعيت، فما أخلقك أن تبوء بإثمك غدا مع الجمعة، وأن تسأل عما أردت بإغضائك عن ظلم مظلمة.إنك أخذت ما ليس لمن أعطاك، ودنوت ممن لا يرد على أحد حقا، ولا ترك باطلا حين أدناك، وأجبت من أراد التدليس بدعائه إياك حين دعاك.جعلوك قطبا تدور باطلهم عليك، وجسرا يعبرون بك إلى بلائهم، وسلما إلى ضلالتهم، وداعيا إلى غيهم، وسالكا سبيلهم، يدخلون بك الشك على العلماء، ويقتادون بك قلوب الجهال إليهم، فلم تبلغ أخص وزرائهم، ولا أقوى أعوانهم لهم إلا دون ما بلغت من إصلاح فسادهم، واختلاف الخاصة والعامة إليهم، فما أيسر ما عمروا لك في جنب ما خرجوا عليك، وما أقل ما أعطوك في كثير ما أخذوا منك، فانظر لنفسك فإنه لا ينظر لها غيرك، وحاسبها حساب رجل مسؤول.وانظر كيف شكرك لمن غذاك بنعمه صغيرا وكبيرا، وانظر كيف إعظامك أمر من جعلك بدينه في الناس بخيلا، وكيف صيانتك لكسوة من جعلك لكسوته ستيرا، وكيف قربك وبعدك ممن أمرك أن تكون منه قريبا.ما لك لا تنتبه من نفسك، وتستقيل من عثرتك، فتقول: والله ما قمت لله مقاما واحدا أحيي له فيه دينا، ولا أميت له فيه باطلا، إنما شكرك لمن استحملك كتابه، واستودعك علمه.ما يؤمنك أن تكون من الذين قال الله تعالى فيهم: {فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى} ... الآية.إنك لست في دار مقام، قد أذنت بالرحيل، ما بقاء المرء بعد أقرانه، طوبى لمن كان مع الدنيا على وجل، ويا بؤس من يموت وتبقى ذنوبه من بعده.إنك لم تؤمر بالنظر لوارثك على نفسك، وليس أحد أهلا أن تردفه على ظهرك، ذهبت اللذة وبقيت التبعة، ما أشقى من سعد بكسبه غيره، احذر فقد أتيت وتخلصت، فقد ادعيت أنك تعامل من لا يجهل، والذي يحفظ عليك لا يغفل.تجهز فقد دنا منك سفر، وداو دينك فقد دخله سقم شديد، ولا تحسبن أني أردت توبيخك أو تعييرك وتعنيفك، ولكني أردت أن تنبش ما فات من رأيك، وترد ما عزب عنك من حلمك، وذكرت قوله تعالى: {وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين}.أغفلت ذكر من مضى من أسلافك وأقرانك، وبقيت بعدهم كقرن أعصب، فانظر هل ابتلوا بمثل ما ابتليت به، أو دخلوا في مثل ما دخلت فيه، هل تراه ادخر لك خيرا منعوه أو علمك علما جهلوه، بل جهلت ما ابتليت به من حالك في صدور العامة، وكلفهم بك أن صاروا يقتدون برأيك ويعملون بأمرك، إن حللت أحلوا، وإن حرمت حرموا، وليس ذلك عندك، ولكن إنكبابهم عليك، ورغبتهم فيما في يديك، ذهاب عملهم، وغلبة الجهل عليك وعليهم، وطلب حب الرياسة وطلب الدنيا منك ومنهم.أما ترى ما أنت فيه من الجهل والعزة، وما الناس فيه من البلاء والفتنة، وابتليتهم بالشغل عن مكاسبهم وفتنتهم، بما رأوا من أثر العلم عليك، وتاقت أنفسهم إلى أن يدركوا بالعلم ما أدركت، ويبلغوا منه مثل الذي بلغت، فوقعوا بك في بحر لا يدرك قعره، وفي بلاء لا يقدر قدره، فالله لنا ولك ولهم المستعان.واعلم أن الجاه جاهان: جاه يجريه الله تعالى على يدي أوليائه لأوليائه، الخامل ذكرهم، الخافية شخوصهم، ولقد جاء نعتهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحب الأخفياء الأتقياء الأبرياء الذين إذا غابوا لم يفتقدوا، وإذا شهدوا لم يعرفوا، قلوبهم مصابيح الهدى، يخرجون من كل فتنة سوداء مظلمة"، فهؤلاء أولياء الله الذين قال تعالى فيهم: {أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون}.وجاه يجريه الله تعالى على يدي أعدائه لأوليائه، ورهبة يقذفها الله في قلوبهم لهم، فيعظمهم الناس بتعظيم أولئك لهم، ويرغب الناس فيما في أيديهم لرغبة أولئك فيه إليهم: {أولئك حزب الشيطان ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون}.وما أخوفني أن تكون ممن ينظر لمن عاش مستورا عليه في دينه، مقتورا عليه في رزقه، معزولة عنه البلايا، مصروفة عنه الفتن في عنفوان شبابه وطهور جلده، وكمال شهوته، فعني بذلك دهره، حتى إذا كبر سنه، ورق عظمه، وضعفت قوته، وانقطعت شهوته ولذته، فتحت عليه الدنيا شر فتوح، فلزمته تبعتها وعلقته فتنتها، وأعشت عينيه زهرتها، وصفت لغيره منفعتها.فسبحان الله ما أبين هذا الغبن، وأخسر هذا الأمر، فهلا إذا عرضت لك فتنتها ذكرت أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه في كتابه إلى سعد؛ حين خاف عليه مثل الذي وقعت فيه عندما فتح الله على سعد.أما بعد فأعرض عن زهرة ما أنت فيه حتى تلقى الماضين الذين دفنوا في أسمالهم، لاصقة بطونهم بظهورهم، ليس بينهم وبين الله حجاب، لم تفتنهم الدنيا ولم يفتنوا بها، رغبوا فطلبوا فما لبثوا أن لحقوا.فإذا كانت الدنيا يبلغ من مثلك هذا في كبر سنك، ورسوخ علمك، وحضور أجلك، فمن يلوم الحدث في سنه، والجاهل في علمه، والمأفون في رأيه المدخول في عقله؛ (إنا لله وإنا إليه راجعون) على من المعول، وعند من المستعتب.نحتسب عند الله مصيبتنا.. وما نرى منك، ونحمد الله الذي عافانا مما ابتلاك به. والسلام عليك ورحمة الله وبركاته..والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.