صمت غريب ورهيب ساد حينا ، فتحت النوافذ والأبواب ووقف الصغار على الأعتاب ، ينتظرون قدوم ضيف يطرق الباب موهِنا ، النِّسْوَةُ على السطوح يطاردن السحاب ، يَرْقـُبْنَ ظهور عُرْجُون للسماء مزينا ، الأيادي على الصدور والشفاه تدعوا في ارتقاب ، فكلما صدر صوت أصغت الأسماع للبينة ، غابت الشمس فلاحت بشرى قدوم الأحباب ، ودوََّت صفارة الإعلان لرؤية الهلال بَيِّنا ، وانطلقت الأفراح وتناسلت التهاني من باب لباب ، زغردت النساء وهلل الكبار وجرى الصغير مغنيا ، غدا رمضان .. غدا رمضان يا أصحاب ، وتكاثرت الأهازيج وامتزجت الأصوات المنادية ، وغزت النفوس بهجة ورُسِمت البسمة تطارد الارتياب ، وفاح عبق رمضان تشمه الأنوف للجو غازيا ، مرحبا بالزائر هكذا الترحاب ، بضيف ترك آخر مرة كل محب باكيا ، يا رمضان عُدتَ وقلوب المحبين تخـفي العتــاب ، فلقد رحلت يومها و تركت الفؤاد شاكيا ، رويدك لا تسرع فلا نريد العَدَّ والحساب ، فلقد عهدناك مؤنسا للعابدين وللعليل مداويا ، فلما ولـَّيْتَ إليه الشيطان آب ، ففيك يصفـَّد من كان للسلاح شاكيا ، فحنانيك يا شهر الصيام بعد طول غياب ، لا تسرع بالزوال وكن لعباد الله مرضيا ...
هكذا الحال بتجدد اللقيا جيلا بعد جيل ، نفيءُ إلى ظلال الإيمان البديعة ، نطهر القلوب بالذكر والتنزيل ، نغتنم ما استطعنا أياما تمضي سريعة . وفي هذا السباق الحامي تنكـَّب السبيل ، أناسٌ قلوبهم لشهوات النفس صريعة ، ما استشعروا ما حولهم من منابع إيمان تسيل ، ولا لفتـَتْ أنظارَهم مساجد بالمصلين بديعة ، زادهم رمضان بعدا وحملوا الوزر الثقيل ، ضاعفوا المعاصي وأعلنوا فيه الخديعة ، ليلهم سهر على الحرام وزمر وتطبيل ، ونوم بالنهار جاعلين الصيام ذريعة ، وحتى وإن صاموا الوقت الطويل ، فقد أفطروا بأعمال مستبشعة شنيعة ، فانتبهوا !! لا تكونوا من هذا القبيل ، وكونوا من الموفقين أولي الأنفس الوديعة ...
خلال هذا الشهر المُفضَّل المحبوب ، يتصارع خصمان كل وقت وحين ، يغلب هذا تارة وأخرى يكون هو المغلوب ، فالجولاتٌ بينهما بعدد الأيام و السنين ... إنها النفس وصاحبها المنكوب ، فهو يحاول الاستجابة لنداء رب العالمين ، وهي تنزع لرغباتها بكل أسلوب ، فمن الناس غالب ألجَمَها بالصبر واليقين ، وخاسر مخذول على وجهه مكبوب ، النفس تريد الماء البارد والدجاج السمين ، وصاحبها يصطبر يرتقب الغروب ، وهي تريد مُعَافسَة الأزواج ابتغاء البنين ، وصاحبها ينتظر ليلة الصيام ليحصِّل المطلوب ، وأما إن كان عازبا فمسكين حزين ، يرجو الفرج ممن بيده كل مرغوب ، والنفس للملاهي وللأنغام تلين ، وصاحبها يمنعها اللحن الطروب ، وهي تريد النوم وتجهر بالأنين ، وهو يكرهها على القيام فهواهما مقلوب ..
خصمان لا بد يدخلان المعركة ، في رمضان وفي غيره من الأوقات ، فناج مُسَلـَّمٌ ومخدوش ينجو من المَهلكة ، وأما الذي غلبته نفسه فقد مات ، فأسأل الله لي ولك النجاة وألا نكون ممن أهلكه ، من فاته رمضان فهيهات هيهات ، كيف يدرك السابقين أولي العزم النـَّسَكة !!؟ فالمسكين مثلي يخطو ثم يتراجع مرات ومرات ... فرويدك يا رمضان على المسكين فما تركه ، شيطانه حتى أضعفه بكثرة الزلات ، أدركه ففيك العفو والفضل والبركة ، وفيك عتق من النار والمهلكات ، فحياتنا فيك الماء تحيا فيه السمكة ، وفراقنا لولا العيد بكاء وويل وحسرات ...
يا أيتها النفس العمياء اسمعي كلامي ، لن تغلبي من رب العرش مولاه ، إني وإن زللت ساعة فلن تنامي ، إلا على طاعة وذكر لست أنساه ، فكني راضية أو اسخطِ كل أيامي ، فمن ضيع الشهر فما أغباه ، سبق الرجال فبعدت ركابهم وزاد همِّي ، وأنا متخلف إن أطعتك كالأبله يفتح فاه ، إني قد عزمت على السباق فتـَقـَوَّمي ، فالشهر قريبا يطرق بابنا بهداه ، فأينكم أيها الفرسان قد غلبت خصمي ؟ وما عُدتُ عبدا لها فلا شيء أخشاه ن أسرجت خيلي ولبست درعي وبريت سهمي ، فعدوي هوى لما أغَرْتُ عليه بقول رباه رباه ....

أبــو الــوليد