يتبدَّى منهج السلف الصالح - رضوان الله عليهم – في تعظيم الكتاب والسنة جليًا في أولى خطوات طلب العلم ومبادئ تحصيله ، وذاك لاعتمادهم خطة ممنهجة في طلب العلم تكاد تكون محل اتفاق بينهم وعادة متداولة لدى خاصتهم وعامتهم، وهي البدء بالكتاب ثم السنة عند أول مراحل طلب العلم ولا يقدمون عليهما شيئا من العلوم في الغالب، ولن تكاد تجد عالما من علماء السلف وأنت تقرأ في ترجمته إلا وفيها أنه حفظ القرآن صغيرًا وطلب الحديث وهو في سن مبكرة وهذا أمر متكرر في التراجم حفلت به كتبه الرجال والسير والأخبار .قال أبو الفضل الرازي – رحمه الله – ([1]) :" وعلى الحفظ والتحفظ كان الصدر الأول ومن بعدهم، فربما قرأ الأكبر منهم على الأصغر منه سنا وسابقة، فلم يكن الفقهاء منهم ولا المحدثون والوعاظ يتخلفون عن حفظ القرآن والاجتهاد على استظهاره، ولا المقربون منهم عن العلم بما لم يسعهم جهله منه، غير أنهم نسبوا إلى ما غلب عليهم من المعرفة بحروفه أو العلم بغيرها" ([2]) .قال ابن عبد البر – رحمه الله - :" طلب العلم درجات ومناقل ورتب لا ينبغي تعديها ومن تعداها جملة فقد تعدى سبيل السلف رحمهم الله ومن تعدى سبيلهم عامدا ضل، ومن تعداه مجتهدا زل، فأول العلم حفظ كتاب الله عز وجل ... " ([3]) .وقال النووي – رحمه الله - :" وكان السلف لا يعلِّمون الحديث والفقه إلا لمن حفظ القرآن " ([4]) .وقال ابن خلدون – رحمه الله - :" اعلم أن تعليم الولدان للقرآن شعار من شعائر الدين، أخذ به أهل الملة ودرجوا عليه في جميع أمصارهم " ([5]) .وهذا المنهج السلفي هو منهج شرعي ويمكن الاستدلال له بهدي النبي ^ في التعليم، فكثيرًا ما تسمع الصحابي إذا روى حديثًا عن النبي ^ في تعليمه لهم شيئًا من العلم قال : كان يعلمنا كذا كما يعلمنا السورة من القرآن ([6]) . ومما يستدل به – أيضًا – ما جاء في حديث حذيفة بن اليمان t أن النبي ^ قال :" إن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ثم علموا من القرآن ثم علموا من السنة ..." ([7]) .قال الحافظ بن حجر – رحمه الله - :" قوله : " ثم علموا من القرآن ثم علموا من السنة " كذا في هذه الرواية بإعادة ( ثم )، وفيه إشارة إلى أنهم كانوا يتعلمون القرآن قبل أن يتعلموا السنن، والمراد بالسنن ما يتلقونه عن النبي ^واجبًا كان أو مندوبًا " ([8]).بل إن من مهمة النبي ^ التي بعثه الله به تعليم الكتاب والسنة جاء ذلك في غير ما موضع من كتاب الله قال تعالى :ﭼ ﭽ ﭾ [الجمعة : 2 ] .ومن تتبع وصايا السلف في طلب العلم يجدها متوافرة متوافقة على هذا الأصل وإليك جملة من أقوالهم في هذا :قال ابن جريج – رحمه الله - :" أتيت عطاء وأنا أريد هذا الشأن – لعله يقصد الحديث - ، وعنده عبد الله بن عبيد بن عمير، فقال لي عبد الله بن عبيد: قرأت القرآن؟ قلت: لا، قال: فاذهب فاقرأ القرآن ثم اطلب العلم، قال: فذهبت فغبرت زمانا حتى قرأت القرآن، ثم جئت إلى عطاء وعنده عبد الله بن عبيد، فقال: تعلمت القرآن، أو قرأت القرآن؟ قلت: نعم، قال: تعلمت الفريضة؟ قلت: لا، قال: فتعلم الفريضة ثم اطلب العلم، قال: فطلبت الفريضة ثم جئت. فقال: تعلمت الفريضة؟ قلت: نعم، قال: الآن فاطلب العلم، قال: فلزمت عطاء سبع عشرة سنة " ([9]) .قال محمد بن فضل – رحمه الله - :" سمعت جدي يقول : استأذنت أبي في الخروج إلى قتيبة فقال: اقرأ القرآن أولا حتى آذن لك؛ فاستظهرت القرآن، فقال لي: امكث حتى تصلي بالختمة؛ ففعلت، فلما عيدنا أذن لي فخرجت إلى مرو " ([10]) .وقال الميموني – رحمه الله - : " سألت أبا عبد الله أيهما أحب إليك أبدأ ابني بالقرآن أو بالحديث ؟ قال: لا ، بالقرآن . قلت: أعلمه كله قال: إلا أن يعسر فتعلمه منه. ثم قال لي : إذا قرأ أولا تعود القراءة ثم لزمها "، قال ابن مفلح : " وعلى هذا أتباع الإمام أحمد إلى زمننا هذا " ([11]) .ومن استقرأ كتب آداب الطلب وطرائق التحصيل وسبل التلقي وما في هذا الباب من تصانيف يجد ذلك جليًّا وأمرا متتابَعًا عليه، ولعلي أن أعرّج على شيء من أقوالهم في هذا الباب :قال الخطيب البغدادي – رحمه الله – مبوبًا على كتاب الجامع :" ذكر ما يجب تقديم حفظه على الحديث - ثم قال - ينبغي للطالب أن يبدأ بحفظ كتاب الله عز وجل، إذ كان أجل العلوم وأولاها بالسبق والتقديم " ([12]) . وقال النووي – رحمه الله - :" وينبغي أن يبدأ من دروسه على المشايخ: وفي الحفظ والتكرار والمطالعة بالأهم فالأهم: وأول ما يبتدئ به حفظ القرآن العزيز فهو أهم العلوم " ([13]) .وقال أبو شامة المقدسي – رحمه الله – :" وعليك يا أخي بالأهم منها : فالأهم وهو حفظ القرآن، وشيء من السنة الصحيحة، والتفقه فيهما، والعمل بما تتعلمه منهما من علمي الظاهر والباطن، ومهما زدت على ذلك زاد فضلك وعلا محلك " ([14]) .وقال ابن جماعة – رحمه الله – وهو يبين منهاج طالب العلم :" أن يبتدئ أولاً بكتاب الله العزيز فيتقنه حفظًا ..." ([15]) .وقال الشيخ حافظ الحكمي – رحمه الله – ([16]) :
وبالمهم المهم ابدأ لتدركه

وقدم النص والآراء فاتهم

ومن تتبع هذا في مظانه من كتب الطلب وفضائل القرآن ووصايا السلف لبنيهم وطلابهم وغيرها يجد الشيء الكثير والمقام يضيق عن تتبعها واستقصائها .ولقد صار ذلك المنهج السلفي أصلا يجري عليه المسلمون في تربية أولادهم وتعليمهم فصار من الطبعي والعادة الغالبة أن يُلحِق الأب ابنه في الكتاتيب وحلق تحفيظ القرآن في سن مبكرة جدًا ، كما جرت عادة تلك الكتاتيب ألا يبدأ الصبي بتعلُّم شيء قبل القرآن .وهذا المنهج الأصيل من الأهمية بمكان وتظهر أهمية البدء بالكتاب والسنة في الطلب من جهات كثيرة :منها : أن النشء إذا يتربى منذ الصغر على الكتاب والسنة، ويكون أول طارق لسمعه ونافذ لعينه عند التلقي والتحصيل كلام الله تعالى وكلام رسوله ^، ولا تخفى أهمية ذلك من استقرار الوحي في قلب النشء وتأثره به ، خاصة في تلك السن التي تكون الحواس يقظة ملتقطة والحافظة قوية صافية ، وما يحدث للنشء من التحصين الشرعي بنصوص الكتاب والسنة منذ سن مبكرة وتكوين قاعدة معلومات وأساس علمي قوامه نصوص الوحييين .قال ابن القيم – رحمه الله - :" فهذا العلم الصافي، المتلقى من مشكاة الوحي والنبوة : يهذب صاحبه لسلوك طريق العبودية " ([17]) .وقال ابن خلدون – رحمه الله - :" اعلم أن تعليم الولدان للقرآن شعار من شعائر الدين، أخذ به أهل الملة ودرجوا عليه في جميع أمصارهم، لما يسبق فيه إلى القلوب من رسوخ الإيمان وعقائده من آيات القرآن وبعض متون الأحاديث. وصار القرآن أصل التعليم الذي ينبني عليه ما يحصل بعده من الملكات. وسبب ذلك أن تعليم الصغر أشد رسوخاً وهو أصل لما بعده، لأن السابق الأول للقلوب كالأساس للملكات " ([18]) .ومنها : أن مصدر العلم هو الكتاب والسنة وما سواه تبع له ، فإذا بدأ الإنسان بأصل العلم ومصدره كأن أثبت في العلم وأرسخ .قال ابن القيم – رحمه الله – ([19]) :
فتدبر القرآن إن رمت الهدى

فالعلم تحت تدبر القرآن

وقال الشيخ حافظ الحكمي – رحمه الله – ([20]) :
ما العلم إلا كتاب الله أو أثر
ما ثم علم سوى الحي المبين وما


يجلو بنور هداه كل منبهم
منه استمد ألا طوبى لمغتنم

ومنها : أن العلم النافع هو العلم بالكتاب والسنة .قال ابن رجب – رحمه الله - :" فالعلم النافع من هذه العلوم كلها ضبط نصوص الكتاب والسنة وفهم معانيها والتقيد في ذلك بالمأثور عن الصحابة والتابعين وتابعيهم في معاني القرآن والحديث " ([21]) .ومنها : أن العلم الذي وردت النصوص بفضله ومدح أهله والحث عليه هو علم الكتاب والسنة . ومنها : أن العلم بنصوص الكتاب والسنة حصانة للعقل من الضلال، وحماية له من الانحرافقال أبو سليمان الداراني : " إنه لتمر بقلبي النكتة من نكت القوم. فلا أقبلها إلا بشاهدي عدل، من الكتاب والسنة " ([22]) .فقل لي بالله ما الحل مع من يقنن اليوم مناهج غربية أو شرقية على أبناء المسلمين في سن مبكرة ؟! وقل لي بالله ما الحل مع من يفرض على أبناء المسلمين دراسة لغات أجنبية وعلوم دخيلة منذ نعومة أظفارهم ناهيك ما تحويه من انحراف عقدي وضلال خلقي ؟!! فعلى القائمين بالتعليم من أولياء أمور ومسؤولين الاعتناء بمنهج السلف في البدء بالكتاب والسنة في التحصيل ، وهو منهج شرعي نابع من تعظيم نصوص الكتاب والسنة، ولقد أدرك أهل العلم خطورة توجيه النشء إلى غير هذا المنهج والاستهانة بتعليم الكتاب والسنة .قال ابن تيمية – رحمه الله - :" وأما طلب حفظ القرآن : فهو مقدم على كثير مما تسميه الناس علما: وهو إما باطل أو قليل النفع. وهو أيضا مقدم في التعلم في حق من يريد أن يتعلم علم الدين من الأصول والفروع فإن المشروع في حق مثل هذا في هذه الأوقات أن يبدأ بحفظ القرآن فإنه أصل علوم الدين بخلاف ما يفعله كثير من أهل البدع من الأعاجم وغيرهم حيث يشتغل أحدهم بشيء من فضول العلم من الكلام أو الجدال والخلاف أو الفروع النادرة أو التقليد الذي لا يحتاج إليه أو غرائب الحديث التي لا تثبت ولا ينتفع بها وكثير من الرياضيات التي لا تقوم عليها حجة ويترك حفظ القرآن الذي هو أهم من ذلك كله " ([23]) .وتأمل كلام أبي الفضل الرازي – رحمه الله - متحسِّرًا على أهل زمانه قائلًا :" وعلى الحفظ والتحفظ كان الصدر الأول ومن بعدهم، فربما قرأ الأكبر منهم على الأصغر منه سنا وسابقة، فلم يكن الفقهاء منهم ولا المحدثون والوعاظ يتخلفون عن حفظ القرآن والاجتهاد على استظهاره، ولا المقربون منهم عن العلم بما لم يسعهم جهله منه، غير أنهم نسبوا إلى ما غلب عليهم من المعرفة بحروفه أو العلم بغيرها، إلى أن خلفهم الخلف الذين مضى ذكرهم، فاتهم في طراتهم وحداثتهم طلب حفظ القرآن وفي أوانه، ولحقهم العجز والبلادة على سنهم، من غير أن كان لهم أنس بتلاوة كتاب من ربهم، ولا بلطيف خطابه وشريف عتابه، فعوقبوا لحرمانه وإيثار الجدل والنطاح اللذين يؤديان إلى تفريق الأمة، وتمقيت بعضهم إلى بعض، وصار ذلك أروج لهم في مجالس الظلمة والمسلطين الفجرة فمضوا بذلك وأسند بجوابه، والله زين لهم ذلك فقال عز وجل: ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ[الأنعام: 108] ، ومع ذلك فإنهم لا يدخلون حفرهم إلا تحسرا وتكمدا وتأسفا على ما فاتهم من بركة حفظ كتاب الله الكريم، ولا يظهر ذلك عليهم إلا عند الطعن في السن، أو الإشراف على الفوت، أو التغرغر بالموت، لكنهم في الحال يستنزرون حفظ القرآن، ويزرون بأهله ويلقبونهم بما تقدم من النبز" ([24]) .قلت – كما يقول غير واحد من السلف إذا سمعوا متقدميهم يحكون متأسفين على حال أهل زمانهم - : رحمه الله هذا في زمانه كيف لو رأى زماننا :" وكان هذا القرآن مع توجيهات الرسول المستمدة كذلك من القرآن هو مادة التوجيه والتعليم. وكان مسجد رسول الله ^ الذي يتلى فيه القرآن والتوجيهات المستمدة من القرآن- هو الجامعة الكبرى التي تخرج فيها ذلك الجيل الذي قاد البشرية تلك القيادة الحكيمة الراشدة: القيادة التي لم تعرف لها البشرية نظيراً من قبل ولا من بعد في تاريخ البشرية الطويل . وما يزال هذا المنهج الذي خرّج ذلك الجيل وتلك القيادة على استعداد لتخريج أجيال وقيادات على مدار الزمان، لو رجعت الأمة المسلمة إلى هذا المعين، ولو آمنت حقا بهذا القرآن، ولو جعلته منهجاً للحياة لا كلمات تغنى باللسان لتطريب الآذان ! " ([25]) .

[1] . هو عبد الرحمن بن أحمد بن الحسن بن بندار، المعروف بأبي الفضل الرازي العجلي، المقرىء ثقة ورع ، له تصانيف جلها في علوم القرآن كـ"جامع الوقوف" , " ,فضائل القرآن" وغيرها . قرأ القرآن على أناس كثيرين، وروى عنه القراءات جماعة، ارتحل في العلم وعُرف بالإقراء، توفي : 454 ه . انظر : غاية النهاية (1/361-363) ، ومعجم المؤلفين (5/116) .
[2] . فضائل القرآن و تلاوته ( ص : 33 ) .

[3] . جامع بيان العلم وفضله ( 2/1129) .

[4] . المجموع ( 1/38) .

[5] . مقدمة ابن خلدون ( ص : 364) .

[6] . انظر على سبيل المثال : حديث جابر في الاستخارة رواه البخاري برقم : (6382)، حديث ابن عباس في التعوذ آخر التشهد رواه مسلم برقم : (403)، حديث ابن مسعود في التشهد رواه مسلم برقم : (409)،

[7] . رواه البخاري برقم : (6497)، ومسلم برقم : (143) .

[8] . فتح الباري ( 13/39) .

[9] . تاريخ بغداد ( 12 / 142 ) .

[10] . تذكرة الحفاظ ( 2 / 209) .

[11] . الآداب الشرعية (2/33) .

[12] . الجامع (1/106) .

[13] . المجموع (1/38) .

[14] . خطبة الكتاب المرقوم في جملة العلوم من مقدمة المحقق لخطبة الكتاب المؤمل ( ص : 33-34) .

[15] . تذكرة السامع والمتكلم ( ص : 51) .

[16] . المنظومة الميمية في الوصايا والآداب العلمية ( ص : 16 ) .

[17] . مدارج السالكين (3/137) .

[18] . مقدمة ابن خلدون ( ص : 364) .

[19] . القصيدة النونية ( الكافية الشافية ) .

[20] . المنظومة الميمية في الوصايا والآداب العلمية ( ص : 16-17 ) .

[21] . بيان فضل علم السلف على الخلف .

[22] . مدارج السالكين (3/137) .

[23] . مجموع الفتاوى ( 23/ 54 – 55 ) .

[24] . فضائل القرآن وتلاوته ( ص : 33- 34 ) .