لدي دليل جديد. ولكن أولاً، أريد أن أقول شيئاً عن الدليل الذي تقدم ذكره. يقول الطبري في تفسيره:
"حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:(فما آمن لموسى إلا ذرّية من قومه) ، قال، كان ابن عباس يقول: "الذرية": القليل."
وقال أيضاً:"حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله تعالى:(فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه) ، "الذرية"، القليل، كما قال الله تعالى:( كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ ) [سورة الأنعام: 133]".
فإن صح هذا المعنى للذرية، ففي هذه الآية إشارة إلى الأمرين معاً: كون عدد السحرة قليلا، وكونهم من قوم موسى.
الدليل الجديد هو في قوله تعالى في سورة طه:
"فَتَنَازَعُو أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65)".
فالسحرة قالوا "إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا". وموسى وهارون كانا يريدان أن يأخذا بني إسرائيل معهما. فهذا دليل على كون السحرة من بني إسرائيل. وقد قال تعالى في سورة الشعراء:
"فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17)".
وقال تعالى في سورة الأعراف:
"قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110)".
فقوله تعالى "قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ" يشير إلى أن ملأ فرعون كان فيهم رجال من قوم فرعون ورجال من غير قوم فرعون. وبما أن الملأ قالوا "يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ"، فهذا يشير ألى أن النوع الآخر من الملأ هم من بني إسرائيل.
وقال تعالى في سورة الشعراء:
"فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35)".
ففي هذه السورة، فرعون هو الذي يقول هذا القول. بينما في سورة الأعراف يقول الملأ من قوم فرعون قولاً مشابها. قد يكون الذي قال الكلام في الواقع هم الملأ من قوم فرعون، وكان فرعون موافقاً ومؤيداً لهذا الكلام. وبهذا يكون فرعون كأنما قاله. فأمر الإخراج من الأرض له علاقة بإرادة موسى وهارون أن يأخذا بني إسرائيل معهما. ولكن بقي هناك إشكال، وهو أن فرعون يقول "أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى". (طه: 57)
فقد يكون الأمر كما تقدم عن الملأ من قوم فرعون: أن الملأ من بني إسرائيل قالوا هذا الكلام، ولكن كان فرعون موافقاً عليه ومؤيداً له. وبهذا يكون كأنما قال هذا الكلام.
هذا والله أعلم. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.