إيّاك والتلوّن فإنّ دين الله واحد || عبدالله بن عبدالعزيز العنقري

الحمد لله وصلى الله وسلم على رسول الله وعلى آله وصحبه ... أما بعد .
لما قدم أبو مسعود البدري على حذيفة رضي الله عنهما طلب منه أن يوصيه فقال له فيما رواه اللالكائي (120) : "ألم يأتك اليقين ؟
فقال: بلى وعزة ربي فقال: اعلم أن الضلالة حق الضلالة أن تَعْرِف ما كنت تُنكِر , وأن تُنْكِر ما كنت تَعْرِف , وإياك والتلوُّن في دين الله تعالى , فإن دين الله واحد "
هذه الوصية الجليلة يراد بها أمر محدد هو أن انقلاب مفاهيم المرء , بحيث يستنكر ويستقبح ما كان يعرفه من الحق , ويستحسن ويرتضي ما كان يأباه من الباطل هو أظهر شيء على وقوعه في الضلال المبين .
وذلك أن دين الله واحد , فالحق فيه لا يمكن أن ينقلب باطلا ومنكرا , وكذا يقال في الباطل , لا يمكن أن ينقلب حقًّا ومعروفا .
فمن أنكر ماعرفه من الحق , وعرف ما أنكر من الباطل فقد وقع في التلون الذي حذر منه هذا الصحابي الجليل

والمراد بهذه الوصية :
الثبات على المبدأ الحق , وعدم الرضا بغيره بديلا , كائناَ ما كان , فإن من استيقن أن ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الحق الذي لا مِرية فيه , فإن المتعين عليه أن يثبت ولا يحيد , لأن الحيدة عن الحق لا معنى لها إلا اتباع الهوى, كما قال تعالى ( فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ) [القصص:50]
قال ابن القيم رحمه الله في (إعلام الموقعين 1/47) مبيناً معنى الآية :
"فقسم الأمر إلى أمرين لا ثالث لهما , إما الاستجابة لله والرسول وما جاء به , وإما اتباع الهوى , فكل ما لم يأت به الرسول فهو من الهوى "

وقد تكاثرت النصوص مؤكدة على أمر الثبات على الحق ولزومه حتى الممات كما في قول الله تعالى ( ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) ( آل عمران : 102)
وقوله سبحانه (فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم ) ( الزخرف : 43)
وهو ما ذكره الله تعالى عن سحرة فرعون بعد أن هُدُوا إلى الحق الذي جاء به موسى صلى الله عليه وسلم , فقالوا لفرعون في عتوّه وتجبره : ( لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا ) (طه : 72) ودَعَوُا الله أن يثبتهم عليه عند تهديد فرعون لهم بالعذاب : ( ربنا أفرغ علينا صبراً وتوفنا مسلمين ) (الأعراف : 126)
ولما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن وصية لا يحتاج من أُوصِي بها أن يسأل أحداً بعدها قال : ( قل آمنت بالله ثم استقم ) (رواه مسلم : 62)
فالثبات على الحق وعدم التنازل عنه ـ ولاسيما إذا وقع الزهد فيه من قبل المنتكسين ـ هو ما يجب أن ننشره في المسلمين اليوم , ونحييه في شبانهم وشيبهم من الذكور والإناث أجمعين .
ولقد بلغت منزلة الثبات على المبدأ الحق درجة عظيمة تقصر أكثر الأعمال عن بلوغها , حيث قال صلى الله عليه وسلم ( العبادة في الهَرْج كهجرة إلي ) (رواه مسلم 2948)
فهل من عمل أعجب في منزلته من عمل يُجعل كالهجرة للنبي صلى الله عليه وسلم , التي انقطعت بموته ولم يعد لأحد سبيل إلى التشرف بها إلى قيام الساعة ؟
وإنما بلغ المتعبد في الهرج هذه الدرجة , لأن الحال السائد في أكثر الناس عند الهرج هو الانتكاس والتحول عن المبدأ الحق , وركوب السبل المخالفة لما أوجبه الله في تلك الحال العصيبة .
بينما انفرد المتعبد في تلك الحال بلزوم المبدأ الذي أُمِر به في النصوص , رغم زهد الأكثرين فيه , ولا يخفى أن من علم الحق ثم تنكبه فقد عرّض نفسه لأعظم هلكة يمكن أن يقع فيها العبد , إذْ تولى عن الحق بعد علمه به , وذلك أفظع نوع من التولي , لأنه وقع بعد علم بالحق ووصول إليه , بخلاف من كان زائغا من أول أمره , فإن ضلاله ـ مع قبحه ـ لم يكن بعد وقوف على الحق ودراية به , فمن هنا قال الحسن فيما رواه ابن أبي شيبة 7/187 (35199) : " ما رأيت أحداً أشد تولّياً من قارئ إذا تولَّى "
وذلك أن القارئ قد تولى بعد أن علم الحق وتبيَّنه , ثم تنكَّبه متعمداً , والعياذ بالله , فاللهم ثبتنا على ما مننت به علينا من نعمة الإسلام التي ابتدأتنا بالتفضل للهداية لها , ولا تزغنا عنها , فإنه لا ثبات لنا إلا بتثبيتك , وأنت القائل لنبيك صلى الله عليه وسلم ( ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا ) (الإسراء : 74)
اللهم يا من يعلم شدة ضعفنا وانعدام حولنا وقوتنا إلا به ثبتنا بالقول الثابت , وإن أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين , وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه