منْ شاءَ بعدَكِ فَليَمُتْ

بقلم / ربيع بن المدني السّملالي

http://im24.gulfup.com/2012-05-25/1337942321331.jpg

أمّي :
كلّمَا رَأيتُ أترَابِي برفقةِ أمهاتِهنّ أمامَ بابِ الْمَدْرَسِة أكادُ أختَنِقُ بُكاءً ، أتمزّقُ ألَماً ، وَوَحْشَةً ...أتيهُ في غَاباتٍ من التّناقضاتِ ، وَ التّساؤلاتِ الّتي ترتَطمُ بقَلبي الصّغيرِ الْكَسير ، لاَ أستطيعُ لها تفسيراً ....كلّ واحدٍ منهم ماسكٌ بيدِ أمّه الدّافئة ، مُتشبّثٌ بهَا ، يُخيّلُ إليّ أنّهم يخافُون أن أنتزِعَهَا منهُم ..أحسُّ بالإهمالِ الضّارب بأطْنابِه على رُبُوعِ فُؤادِي يَنْهَشُنِي .. أشعرُ بالْهَوان كَوَحْشٍ كَسِيرٍ ، يَتسلّقُ جُدرانَ أعماقِي لِيَفْتَرِسَنِي ..
الضّياعُ يَحْتَلُّنِي ، يُسَرْبِلُنِي بالْغُمُوضِ ، يترُكُني لِلْعَوَاصِفِ تُعذّبُني ، لِلأَنْواءِ تَخْتَرِقُنِي ..وللقَلقِ يُخْمِدُ شهيّتي ..
لِمَ تَرَكْتِنِي أمّاهُ فِي هذا الْعَالَمِ الْغَارِقِ فِي بُحُورِ الأزَماتِ ، الضّائعِ في صَحَارِي الْمُلمّاتِ ، أتنفّسُ الألمَ الأليمَ ، أشربُ الزّفراتِ الْحرّى ، وأتغَذَى الأوجاعَ الْمُضْنية ..
تزوّجَ أبي من بَعْدِك فَأهْمَلَني ..
زَوجتهُ تنهَرُني ، تزجُرُني ، تضرِبُني ، وتَشْتُمُني ...
لقَدْ ذَهَبتِ يا أمّي ، وبِذَهَابِكِ ذَهبَ الّذينَ يُعَاشُ في أكْنَافِهم ، في رعايَتِم ، في أحْضَانِهِم ..
بعدَ رحِيلِكَ عَرفتُ قِيمَةَ الْمَأوى وعُذوبتَها ، وَدِفْءَ الاسْتقرارِ ..
الدّنيا بِدُونِك الآن لاَ تُسَاوي قُلاَمَةَ ظُفْرٍ..
عِفْتُ أيّامِي الرّتيبةَ بِفقدِك .. تعفّنتْ رُوحِي مُذْ أُغْلِقَتْ نَوافِذُ حيَاتِي عن شُعَاعِ شَمْسِك .. وكلّما جنّ عليّ ليلُ الْوحدةِ الْبَهيمُ ، تركتُ العنانَ لعَبراتِي تنسَكِبُ مِدْراراً ...
وها أنذا الآنَ أجلسُ القُرْفُصَاءَ بِجانبِ قَبْرِك ..هذه الحُفرَةُ الضّاحِكَةُ من تزاحمِ الأضْدادِ ، السّاخِرة من غُرورِ بَنِي الْبَشَر ، وَالْمُتَرَبّصَ ةِ بِنَا عَلَى الدّوام ..
الزَّمنُ مُوحِشٌ ، مُقْفِرٌ في نَاظِريّ ، وَالأرْضُ خَالِيَةُ الْجَوَانِبِ بَلْقَعُ ..فلاَ عُصفورٌ يُغرِّدُ ، ولا غُصنٌ يَتَحَرّكُ ..ولا هواءٌ نقِيٌّ يُسْتَنْشَقُ ...
( أفكارٌ شَائِكةٌ في عَقْلِي الْمحدودِ ، تتفرّع ، تتشعّب ، تنأى بعيداً ، تُوغِلُ في البحثِ عنْ تفسيرٍ ، ..لتعودَ وتَصُبَّ فِي الْوِعَاءِ الْقَاسِي للحَقِيقة الْقَاهِرة : الموتُ !! )
ليسَ فِي الْحَيَاةِ مَا يُغْرِيني بِها ، ولا ما يُرغّبُني في بَهْرَجِها ...فقدْ أصْبَحتُ أتجنّبُهَا كمَا لَو كانتْ رِجْساً ..
أدْعُو اللهَ أن يأخذنِي إلى جِوَارِك ...فَشتّانَ بَيْنَ جِوَارِكِ وَجِوَارِي !
أمّي :
منْ شاءَ بعدَكِ فَليَمُتْ ...فعليكِ كُنتُ أحَاذِرُ