بسم الله الرحمن الرحيمالحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده؛استقامة القلب بشيئين:أحدهما: أن تكون محبة الله تعالى تتقدم عنده على جميع المحاب، فإذا تعارض حب الله تعالى وحب غيره سبق حب الله تعالى حب ما سواه، فرتب على ذلك مقتضاه.ما أسهل هذا بالدعوى وما أصعبه بالفعل، فعند الامتحان، يكرم المرء أو يهان، وما أكثر ما يقدم العبد ما يحبه هو ويهواه أو يحبه كبيره وأميره وشيخه وأهله على ما يحبه الله تعالى.فهذا لم تتقدم محبة الله تعالى في قلبه جميع المحاب، ولا كانت هي الملكة المؤمرة عليها، وسنة الله تعالى فيمن هذا شأنه أن ينكد عليه محابه وينغصها عليه ولا ينال شيئاً منها إلا بنكد وتنغيص، جزاء له على إيثار هواه وهوى من يعظمه من الخلق أو يحبه على محبة الله تعالى.وقد قضى الله تعالى قضاء لا يرد ولا يدفع أن من أحب شيئاً سواه عذب به ولا بد، وأن من خاف غيره سلط عليه، وأن من اشتغل بشيء غيره كان شؤماً عليه، ومن آثر غيره عليه لم يبارك فيه، ومن أرضى غيره بسخطه أسخطه عليه ولا بد.الأمر الثاني: الذي يستقيم به القلب تعظيم الأمر والنهى، وهو ناشئ عن تعظيم الآمر الناهي، فإن الله تعالى ذم من لا يعظم أمره ونهيه، قال سبحانه وتعالى: {ما لكم لا ترجون لله وقاراً} قالوا في تفسيرها: ما لكم لا تخافون لله تعالى عظمة، وما أحسن ما قال شيخ الإسلام في تعظيم الأمر والنهي: هو أن لا يعارضا بترخص جاف، ولا يعرضا لتشديد غال، ولا يحملا على علة توهن الانقياد.ومعنى كلامه أن أول مراتب تعظيم الحق عز وجل تعظيم أمره ونهيه، وذلك المؤمن يعرف ربه عز وجل برسالته التي أرسل بها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى كافة الناس ومقتضاها الانقياد لأمره ونهيه، وإنما يكون ذلك بتعظيم أمر الله عز وجل واتباعه، وتعظيم نهيه واجتنابه، فيكون تعظيم المؤمن لأمر الله تعالى ونهيه دالاً على تعظيمه لصاحب الأمر والنهي، ويكون بحسب هذا التعظيم من الأبرار المشهود لهم بالإيمان والتصدق وصحة العقيدة والبراءة من النفاق الأكبر.فإن الرجل قد يتعاطى فعل الأمر لنظر الخلق، وطلب المنزلة والجاه عندهم، وحب ثناء الناس عليه ومدحهم له، ويتقي المناهي خشية سقوطه من أعينهم وذمهم له، وخشية العقوبات الدنيوية من الحدود التي رتبها الشارع صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على المناهي.فهذا ليس فعله وتركه صادراً عن تعظيم الأمر والنهي ولا تعظيم الآمر والناهي، فعلامة التعظيم للأوامر رعاية أوقاتها وحدودها والتفتيش على أركانها وواجباتها وكمالها، والحرص على تحينها في أوقاتها، والمسارعة إليها عند وجوبها ابتغاء رضوان الله تعالى، والحزن والكآبة والأسف عند فوت حق من حقوقها، كمن يحزن على فوت الجماعة ويعلم أنه إن تقبلت منه صلاته منفرداً فإنه قد فاته سبعة وعشرون ضعفاً.ولو أن رجلاً يعاني البيع والشراء تفوته صفقة واحدة في بلده من غير سفر ولا مشقة قيمتها سبعة وعشرون ضعفا لأكل يديه ندماً وأسفاً، فكيف وكل ضعف مما تضاعف به صلاة الجماعة خير من ألف وألف ألف وما شاء الله تعالى.فإذا فوت العبد عليه هذا الربح قطعاً وكثير من العلماء على أنه لا صلاة له، وهو بارد القلب فارغ من هذه المصيبة غير آبه لها ولا مبال، فهذا عدم تعظيم أمر الله تعالى في قلبه، وكذلك إذا فاته أول الوقت والذي فيه رضوان الله تعالى، أو فاته الصف الأول الذي يصلي الله وملائكته على ميامينه، ولو يعلم العبد فضيلته لجالد عليه ولكانت قرعة.وكذلك فوت الجمع الكثير الذي تضاعف الصلاة بكثرته وقلته، كلما كثر الجمع كان أحب إلى الله عز وجل، وكلما بعدت الخطى كانت خطوة تحط خطيئة، وأخرى ترفع درجة.وكذلك فوت الخشوع في الصلاة وحضور القلب فيها بين يدي الرب تبارك وتعالى الذي هو روحها ولبها، فصلاة بلا خشوع ولا حضور كبدن ميت لا روح فيه، أفلا يستحي العبد أن يهدي إلى مخلوق مثله عبداً ميتاً أو جارية ميتة؟ فما ظن هذا العبد أن تقع تلك الهدية ممن قصده بها من ملك أو من أمير أو غيره؟ فهكذا سواء الصلاة الخالية عن الخشوع والحضور وجمع الهمة على الله تعالى فيها بمنزلة هذه الميتة الذي يريد إهداءها إلى بعض الملوك، ولهذا لا يقبلها الله تعالى منه وإن أسقطت الفرض في أحكام الدنيا، ولا يثيبه عليها، فإنه ليس للعبد من صلاته إلا ما عقل منها، كما في السنن ومسند الإمام أحمد وغيره عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "إن العبد ليصلي الصلاة وما كتب له إلا نصفها إلا ثلثها إلا ربعها إلا خمسها حتى بلغ عشرها".وينبغي أن يعلم أن سائر الأعمال تجري هذا المجرى، فتفاضل الأعمال عند الله تعالى بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والإخلاص والمحبة وتوابعها، وهذا العمل الكامل هو الذي يكفر السيئات تكفيراً كاملاً، والناقص بحسبه.والله أعلم وأحكم.وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه.