بسم الله الرحمن الرحيم
حكم صلاة الجنازة في المقبرة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أمام الموحدين وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثارهم إلى يوم الدين.
وبعد فهذا جمع يسير حول مسألة الصلاة على الجنازة بين القبور أو في المقبرة حيث رأيت أن هذا الحكم يخفى على كثير ممن ينتسبون للتوحيد والسنة !
فأحببت جمع هذه النقول الموجزة من كلام أهل العلم رحمهم الله تعالى سائلاً المولى أن يرشدني وأخوتي للصواب أنه ولي ذلك والقادر عليه .
قال الشيخ الألباني رحمه الله تعالى :" ولا تجوز الصلاة عليها بين القبور" لحديث أنس بن مالك :رضي الله عنه " أن النبي : صلى الله عليه وسلم " نهى أن يصلى على الجنائز بين القبور ".
أخرجه ابن الأعرابي في " معجمه " (ق 235 / 1) والطبراني في " المعجم الأوسط " (1 / 80 / 2) ومن طريقه الضياء المقدسي فـ" الأحاديث المختارة " (79 / 2 - مسند أنس) وقال: الهيثمي في " المجمع " (3 / 36): " وإسناده حسن ".
قلت: وله طريق أخرى عن أنس، عند الضياء يتقوى الحديث بها.
وروى أبو بكر ابن أبي شيبة في " المصنف " (81 65 / 1 - الكواكب) وأبو بكر بن الأثرم كما في " الفتح الباري " للحافظ ابن رجب الحنبلي(65 / 81 / 1 - الكواكب) عن أنس : " كان يكره أن يبنى مسجدا بين القبور"( ) ورجاله ثقات رجال الشيخين ويشهد للحديث ما تواتر عن النبي: صلى الله عليه وسلم من النهي عن اتخاذ القبور مساجد، وقد ذكرت ما ورد في ذلك في أول كتابي " تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد "وسأذكر بعضها في المسألة: (128فقرة 9)( 1).
ثم ذكر رحمه الله تعالى : تحت عنوان" ما يحرم عند القبور"( ص259) من أحكام الجنائز: الفقرة السابعة : " الصلاة إلى القبور للحديث المتقدم آنفا " لا تصلوا إلى القبور.." وفيه دليل على تحريم الصلاة إلى القبر لظاهر النهي، وهو اختيار النووي.
فقال المناوي في (فيض القدير) شارحا للحديث : (أي مستقبلين إليها، لما فيه من التعظيم البالغ، لانه من مرتبة المعبود، فجمع - يعنى الحديث بتمامه - بين النهي عن الاستخفاف بالتعظيم، والتعظيم البليغ).
ثم قال في موضع آخر: ( فإن ذلك مكروه، فإن قصد إنسان التبرك بالصلاة في تلك البقعة فقد ابتدع في الدين ما لم يأذن به الله، والمراد كراهة التنزيه.
قال النووي: كذا قال أصحابنا، ولو قيل بتحريمه لظاهر الحديث لم يبعد .
ويؤخذ من الحديث النهي عن الصلاة في المقبرة، فهو مكروه كراهة تحريم ) .
وينبغي أن يعلم أن التحريم المذكور إنما هو إذا لم يقصد بالاستقبال تعظيم القبور، وإلا فهو شرك.
قال الشيخ علي القاري في (المرقاة) (2 / 372) في شرحه لهذا الحديث: (ولو كان هذا التعظيم حقيقة للقبر ولصاحبه لكفر المعظم، فالتشبه به مكروه،وينبغي أن يكون كراهة تحريم، وفي معناه بل أولى منه: الجنازة الموضوعة.
وهو مما ابتلي به أهل مكة، حيث يضعون الجنازة عند الكعبة ثم يستقبلون إليها).
ثم قال في الفقرة الثامنة : " الصلاة عندها ولو بدون استقبال، وفيه أحاديث :
الأول : عن أبي سعيد الخدري:رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام) . أخرجه أصحاب السنن الأربعة إلا النسائي - وغيرهم بسند صحيح على شرط الشيخين كما قال الحاكم ووافقه الذهبي، وأعل بالإرسال، وليس بشئ، ولو سلم به فقد جاء من طريق أخرى سالمة من الإرسال وهي على شرط مسلم، وقد فصلت القول في ذلك في (الثمر المستطاب) في المبحث السادس من (الصلاة).
الثاني : عن آنس أن النبي صلى الله عليه وسلم : " نهى عن الصلاة بين القبور".
قال في (المجمع) (2 / 27) (رواه البزار ورجاله رجال الصحيح).
قلت: ورواه ابن الاعرابي في معجمه (235 / 1) والطبراني في (الاوسط) (1 / 280) والضياء المقدسي في (الاحاديث المختارة) (79 / 2)وزادوا: (على الجنائز).
الثالث: عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم من النهي قال : " اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم، ولا تتخذوها قبورا".
أخرجه البخاري (1 / 420) ومسلم (2 / 187) وأحمد (رقم 4511، 4653، 6045).
الرابع: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من النهي: "لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة " .
أخرجه مسلم وقد ترجم البخاري للحديث الثالث بقوله: (باب كراهية الصلاة في المقابر).
وبين وجه ذلك الحافظ في شرحه فقال ما مختصره : (استنبط من قوله في الحديث: (لا تتخذوها قبورا) أن القبور ليست بمحل للعبادة، فتكون الصلاة فيها مكروهة، وقد نازع الاسماعيلي المصنف في هذه الترجمة فقال : الحديث دال على كراهة الصلاة في القبر لا في المقابر: قلت: قد ورد بلفظ المقابر كما رواه مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ (لا تجعلوا بيوتكم مقابر)، وقال ابن التين: تأوله البخاري على كراهة الصلاة في المقابر: وتأوله جماعة على أنه فيه الندب إلى الصلاة في البيوت، إذ الموتى لا يصلون، كأنه قال : لا تكونوا كالموتى الذين لا يصلون في بيوتهم وهي القبور، قال : فأما جواز الصلاة في المقابر أو المنع منه فليس في الحديث ما يؤخذ منه ذلك.
قلت: إن أراد أنه لا يؤخذ منه بطريق المنطوق فمسلم .
وإن أراد نفي ذلك مطلقا فلا، فقد قدمنا وجه استنباطه، وقد نقل ابن المنذر عن أكثر أهل العلم أنهم استدلوا بهذا الحديث على أن المقبرة ليست بموضع للصلاة. وكذا قال البغوي في : (شرح السنة) (والخطابي).
قلت: وهذا هو الأرجح أن الحديث يدل على أن المقبرة ليست موضعا للصلاة، لا سيما بلفظ أبي هريرة فهو أصرح في الدلالة، وقول الاسماعيلي: يدل على كراهة الصلاة في القبر لا في المقابر، مع مخالفته الصريحة لحديث أبي هريرة، فلا يحسن حمل حديث ابن عمر عليه، لان الصلاة في القبر غير ممكنة عادة، فكيف يحمل كلام الشارع عليه!؟ وقول ابن التين: (هو من شراح " صحيح البخاري" واسمه عبد الواحد الموتى لا يصلون).
ليس بصحيح، لأنه لم يرد نص في الشرع بنفي ذلك، وهو من الأمور الغيبية التي لا ينبغي البت فيها إلا بنص، وذلك مفقود، بل قد جاء ما يبطل إطلاق القول به، وهو صلاة موسى عليه الصلاة والسلام في قبره كما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به على ما رواه مسلم في (صحيحه)، وكذلك صلاة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مقتدين به في تلك الليلة كما ثبت في (الصحيح) بل ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الأنبياء أحياء في قبورهم يصلون). أخرجه أبو يعلى بإسناد جيد، وقد خرجته في (الأحاديث الصحيحة) (622).
بل قد جاء عنه: صلى الله عليه وسلم ما هو أعم مما ذكرنا، وذلك في حديث أبي هريرة في سؤال الملكين للمؤمن في القبر: (فيقال له اجلس، فيجلس قد مثلت له الشمس وقد آذنت للغروب، فيقال له : أرأيتك هذا الذي كان فيكم ما تقول فيه؟ وماذا تشهد عليه؟ فيقول: دعوني حتى أصلي، فيقولان: إنك ستفعل).
أخرجه ابن حبان في (صحيحه) (781) والحاكم (1 / 379 - 380) وقال (صحيح على شرط مسلم) ووافقه الذهبي! وإنما هو حسن فقط، لان فيه محمد بن عمرو ولم يحتج به مسلم وإنما روى له مقرونا أو متابعة.
فهذا الحديث صريح في أن المؤمن أيضا يصلي في قبره، فبطل بذلك القول بأن الموتى لا يصلون، وترجح أن المراد بحديث ابن عمر أن المقبرة ليست موضعا للصلاة، والله أعلم.
وقد دل الحديث وما ذكر معه على كراهة الصلاة في المقبرة، وهي للتحريم لظاهر النهي في بعضها.
وذهب بعض العلماء إلى بطلان الصلاة فيها لان النهي يدل على فساد المنهي عنه، وهو قول ابن حزم، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، والشوكاني في : (نيل الاوطار) (2 / 112)، وروى ابن حزم (4 / 27 - 28) عن الإمام أحمد أنه قال : (من صلى في مقبرة أو إلى قبر أعاد أبدا)
ثم إن كراهة الصلاة في المقبرة تشمل كل مكان منها سواء كان القبر أمام المصلي أو خلفه أو عن يمينه، أو عن يساره، لان النهي مطلق، ومن المقرر في علم الأصول أن المطلق يجرى على إطلاقه حتى يأتي ما يقيده، ولم يرد هنا شيء من ذلك، وقد صرح بما ذكرنا بعض فقهاء الحنفية وغيرهم كما يأتي، فقال شيخ الإسلام ابن تيمية في : " الاختيارات العلمية" (ص 25) " ولا تصح الصلاة في المقبرة ولا إليها، والنهي عن ذلك إنما هو سد لذريعة الشرك وذكر طائفة من أصحابنا أن القبر والقبرين لا يمنع من الصلاة، لأنه لا يتناوله اسم المقبرة، وإنما المقبرة ثلاثة قبور فصاعدا .
وليس في كلام أحمد وعامة أصحابه هذا الفرق، بل عموم كلامهم وتعليلهم واستدلالهم يوجب منع الصلاة عند قبر واحد من القبور، وهو الصواب، والمقبرة كل ما قبر فيه، لا أنه جمع قبر.
وقال أصحابنا: وكل ما دخل في اسم المقبرة مما حول القبور لا يصلى فيه " ( 2) .
فهذا يعين أن المنع يكون متناولا لحرمة القبر المنفرد وفنائه المضاف إليه.
وذكر الآمدي وغيره : أنه لا تجوز الصلاة فيه أي المسجد الذي قبلته إلى القبر حتى يكون بين الحائط وبين المقبرة حائل آخر . وذكر بعضهم : هذا منصوص أحمد.
وفي كلام الشيخ رحمه الله التصريح بأن علة النهي عن الصلاة في المقبرة إنما هي سد الذريعة، وهذا أحد قولي العلماء في ذلك، والقول الأخر أن العلة إنما هي نجاسة أرض المقبرة! وهما قولان في مذهب الحنفية، وقد نظر ابن عابدين في (الحاشية) (1 / 352) في الثاني منهما، وذلك لان الاستحالة مطهرة عندهم، فكيف تكون هذه العلة صحيحة!؟
ولا شك عندنا أن القول الأول هو الصحيح، وقد بين ذلك شيخ الإسلام في كتبه، واستدل له بما لا تجده عند غيره، فراجع مثلا كتابه " اقتضاء الصراط المستقيم " (152، 193)، وعليه مشى في (الحانية) من كتب الحنيفة، وأشار إليه الطحاوي في حاشيته على " مراقي الفلاح " فقال: عند قول الشارح (وتكره الصلاة في المقبرة) (1 / 208) (بتثليث الباء، لأنه تشبه باليهود والنصارى، قال صلى الله عليه وسلم :" لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" وسواء كانت فوقه أو خلفه أو تحت ما هو واقف عليه.
ويستثنى مقابر الأنبياء عليهم السلام فلا تكره الصلاة فيها مطلقا منبوشة أو لا، بعد أن لا يكون القبر في جهة القبلة، لأنهم أحياء في قبورهم !
قلت: وهذا الاستثناء باطل ظاهر البطلان، كيف وهو يناقض العلة التي ذكرها والحديث الذي استدل به عليها، وكيف يصح مثل هذا الاستثناء والأحاديث مستفيضة في لعن أهل الكتاب لاتخاذ قبور أنبيائهم مساجد ثم صح أن النبي صلى الله عليه وسلمنهانا عن ذلك .
فالنهي منصب على اتخاذ قبور الأنبياء مباشرة، وغيرهم يلحق بهم، فكيف يعقل استثناؤهم !؟
والحق أن مثل هذا الاستثناء إنما يتمشى مع القول الثاني أن العلة النجاسة وقبور الأنبياء بلا شك طاهرة لأنهم كما قال عليه السلام : " إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء"، ولكن هذه العلة باطلة وما بني على باطل فهو باطل.(3 )
يتبع...........
____________________
(1 ) وهو في مصنف ابن أبي شيبة بلفظ"حدثنا وكيع حدثنا همام ، عن قتادة ، عن أنس ، قال : كان يكره أن يبنى مسجد بين القبور"برقم(7662) وقال: أيضاً"حدثنا وكيع ، أخبرنا سفيان عن منصور عن إبراهيم قال : كانوا إذا خرجوا مع جنازة فحضرت الصلاة تنحوا عن القبور"برقم(7663).
وأورد فيه تحت (ما تكره الصلاة إليه وفيه)
حدثنا وكيع انا سفيان عن مغيرة عن إبراهيم قال:" كانوا يكرهون ثلاث أبيات للقبلة الحش والمقبرة والحمام".
حدثنا وكيع ثنا سفيان عن بكر بن قيس عن ابن سيرين "أنه كره الصلاة إلى القبور وقال بيت نار".
حدثنا حفص بن غياث عن أشعث عن الحسن:" أن النبي كره الصلاة بين القبور".
حدثنا عبد الأعلى عن يونس عن الحسن:" في الرجل تدركه الصلاة في المقابر قال يصلي وقال ابن سيرين يكره ذلك ".
حدثنا حاتم بن وردان عن برد عن مكحول:" أنه كان يكره الصلاة في المقابر" .
حدثنا سفيان عن عاصم عن ابن سيرين عن أنس:" أنه كره أن يصلي على الجنازة في المقبرة" .
(2 ) أحكام الجنائز"ص138" ط مكتبة المعارف الرياض.
(3 ) ومن باب أولى المصلى الذي يبنى في المقبرة .
(4 ) المصدر السابق (ص275)
(5 ) وعمل الناس ليس دليلاً شرعيا خصوصا إذا خالف بعض النصوص! كحديث أنس المتقدم فقدم نوزع الإمام بكونه جعل عمل أهل المدينة حجة فكيف بعمل الناس.
( 6) الشرح الممتع(ج2_ص241)
( ) الشرح الممتع(ج5_ص344)
( 7) المغني (ج2_ص385)
(8 ) (ج2_ص414)
( 9) في شرحه على زاد المستقنع .
(10 ) أضف إليها الأحاديث الخاصة التي أوردها الشيخ الألباني في أحكام الجنائز وتقدم ذكرها أعلاه وكذاك الآثار عند أبن أبي شيبة.
( 11) المصدر السابق