نيران العرب .. من "نهاية الأرب في فنون الأدب" شهاب الدين أحمد بن عبد الوهاب النويري

نيران العرب أربعة عشر نارا:
1- نار المزدلفة: توقد حتى يراها من دفع من عرفة. وأول من أوقدها قصي بن كلاب.
2- نار الاستسقاء: كانت الجاهلية الأولى إذا تتابعت عليهم الأزمات، واشتد الجدب، واحتاجوا إلى الأمطار. يجمعون لها بقراً في أذنابها وعراقيبها السلع والعشر، ويصعدون بها إلى جبل وعر، ويشعلون فيها النار، ويضجون بالدعاء والتضرع. وكانوا يرون ذلك من الأسباب المتوصل بها إلى نزول الغيث. وفي ذاك يقول الوديك الطائي:
لا درَّ درُّ رجالٍ خاب سعيهم* يستمطرون لدى الأزمات بالعشر
أجاعل أنت بيقوراً مسلعة* ذريعة لك بين الله والمطر
وقال أمية بن أبي الصلت:
ويسوقون باقر السهل للطو* د مهازيل خشية أن تبورا
عاقدين النيران في بكر الأذ* ناب منها، لكي تهيج النحورا
سلع ما ومثله عشر ما* عائل وما وعالت البيقورا
3- نار الزائر والمسافر، ويسمونها نار الطرد: وذلك أنهم كانوا إذا لم يحبوا رجوع شخص أوقدوا خلفه نارا ودعوا عليه. ويقولون في الدعاء: أبعد الله وأسحقه وأوقدوا نار إثره. قال الشاعر:
وجمة قوم قد أتوك ولم تكن* لتوقد ناراً خلفها للتندم
والجمة: الجماعة يمشون في الدم وفي الصلح. ومعنى هذا البيت: لم تندم على ما أعطيت في الحمالة عند كلام الجماعة، فتوقد خلفهم نارا كي لا يعودوا.
4- نار التحاليف: كانوا لا يعقدون حلفهم إلا عليها، فيذكرون منافعها، ويدعون الله بالحرمان والمنع من منافعها على الذي ينقض العهد، ويطرحون فيها الكبريت والملح فإذا فرقعت هول على الحالف. قال الكميت:
همو خوفوني بالعمى هوة الردى* كما شب نار الحالفين المهول
وقال أوس بن حجر:
إذا استقبلته الشمس صد بوجهه* كما صد عن نار المهول حالف
5- نار الغدر: كانت العرب إذا غدر الرحل بجاره أوقدوا له نارا بمنى أيام الحج على الأخشب "وهو الجبل المطل على منى". ثم صاحوا: هذه غدرة فلان. قالت امرأة من هاشم:
فإن نهلك فلم نعرف عقوقا* ولم توقد لنا بالغدر نار
6- نار السلامة: وهي نار توقد للقادم من سفره إذا قدم بالسلامة والغنيمة، قال الشاعر:
يا سليمى أوقدي النارا* إن من تهوين قد زارا
7- نار الحرب، وتسمى نار الأهبة والإنذار: توقد على يفاعٍ، فتكون إعلاما لمن بعد. قال ابن الرومي:
له ناران نار قرى وحرب* ترى كلتيهما ذات التهاب
8- نار الصيد: يوقدونها لصيد الظباء؛ لتعشى أبصارها.
9- نار الأسد: كانت العرب توقدها إذا خافوه؛ فإن الأسد إذا عاين النار حدق إليها وتأملها.
10- نار السليم: توقد للملدوغ والمجروح ومن عضه الكلب حتى لا يناموا فيشتد بهم الألم، قال النابغة:
يسهد من ليل التمام سليمها* لحلى النساء في يديه قعاقع
وذلك لأنهم يعلقون عليه حلى النساء ويتركونه سبع أيام.
11- نار الفداء: وذلك أن ملوكهم كانوا إذا سبوا قبيلة وخرجت إليهم السادات في الفداء وفي الاستيهاب كرهوا أن يعرضوا النساء نهارا فيفتضحن، وأما في الظلمة فيخفى قدر ما يحسبون من الصفي لأنفسهم، وقدر ما يجودون به وما يأخذون عليه الفداء- فيوقدون لذلك النار. قال الشاعر:
نساء بني شيبان يوم أوارة* على النار إذ تجلى له فتيانها
12- نار الوسم: كانوا يقولون للرجل: ما نارك ؟ في الاستخبار عن الإبل. أو ما سمتك ؟ فيقول: حياط، أو علاط، أو حلقة، أو كذا، أوكذا. حكي أن بعض اللصوص قرب إبلا كان قد أغار عليها وسلبها من قبائل شتى إلى بعض الأسواق، فقال له بعض: ما نارك ؟ وإنما سأله عن ذلك؛ لأنهم كانوا يعرفون ميسم كل قوم وكرم إبلهم من لؤمها، فقال:
تسألني الباعة ما نجارها * إذ زعزعوها فسمت أبصارها
وكل دار لأناس دارها* وكل نار العالمين نارها
13- نار القرى: وهي من أعظم مفاخر العرب. كانوا يوقدونها في ليالي الشتاء، ويرفعونها لمن يلتمس القرى. فكلما كانت أضخم وموضعها أرفع كان أفخر، وهم يتمادحون بها، قال الشاعر:
له نار تشب بكل وادٍ* إذا النيران ألبست القناعا
وقال إبراهيم بن هرمة:
إذا ضل عنهم ضيفهم رفعوا له* من النار في الظلماء ألوية حمرا
14- نار الحرتين: وكانت للعرب نار عظمى تسمى نار الحرتين، وهي التي أطفأها الله تعالى بخالد بن سنان العبسي. وكانت حرة ببلاد عبس، وتسمى حرة الحدثان. روي عن ابن الكلبي أنه قال: كان يخرج منها عنق فيسيح مسافة ثلاثة أو أربعة أميال، لا تمر بشيء إلا أحرقته. وأن خالد بن سنان أخذ من كل بطن من بني عبس رجلاً فخرج بهم نحوها، ومعه درة حتى انتهى إلى طرفها، وقد خرج منها عنق كأنها عنق بعير فأحاط بهم، فقالوا له: هلكت والله أشياخ بني عبس آخر الدهر! فقال خالد: كلا. وجعل يضرب ذلك العنق بالدرة، ويقول: بداً بداً، كل هدى الله يؤدى. أنا عبد الله خالد بن سنان فما زال يضربه حتى رجع، وهو يتبعه والقوم معه كأنه ثعبان يتملك حجارة الحرة حتى انتهى إلى قليب، فانساب فيه وتقدم عليه، فمكث طويلاً. فقال ابن عم لخالد يقال له: عروة بن شب: لا أرى خالدا يخرج إليكم أبدا، فخرج ينطف عرقا، وهو يقول: زعم ابن راعية المعزى أني لا أخرج. فقيل لهم: بنو راعية المعزى إلى الآن.
وفي هذه النار يقول الشاعر:
كنار الحرتين لها زفير* تصم مسامع الرجل السميع
***
ذكر النيران المجازية
ومن النيران نيران مجازية لا حقيقة، فمنها:
1- نار البرق. وقد وصفها بعض الأعراب فقال:
نار تجدد للعيدان نظرتها* والنار تشعل عيدان فتحترق
إشارة إلى أن النار تحرق العيدان، إلا نار البرق فإنها تجيء بالغيث.
2- نار المعدة: وهي التي تهضم الطعام وهي كنار الحياة، ونار الغريزة. وقوتها مادة للصحة، كما أن ضعفها سبب للعلة.
3- نار الحمى: وقد قيل: النيران ثلاثة: نار لا تأكل ولا تشرب، وهي نار الآخرة. ونار تأكل وتشرب، وهي نار الحمى، تأكل اللحم وتشرب الدم. ونار تأكل ولا تشرب، وهي نار الدنيا.
4-7: نار الشوق، نار الشره، نار الشباب، نار الشراب.
قال شاعر يمدح بعض الملوك:
وقيت نار الجحيم يا ملك* أربع نيرانه له نسق
نار شباب تروق نظرتها* ونار راح كأنه شفق
ونار سلطانه، تقارنها* نار قرى لا تزال تأتلق
***
ذكر النيران التي يضرب المثل بها
1- نار الحباحب: وهي نار لبخيل كان يوقدها. فإذا استضاء بها إنسان أطفأها. وقيل: إنها النار التي توريها الخيل بسنابكها من الحجارة. قال الله تعالى: "فالموريات قدحا". وقال النابغة: ويوقدن بالصفاح نار الحباحب.
وهذا المثل يضرب لما لا منفعة فيه ولا حاصل له.
2- نار الغضى: يضرب بها المثل في الحرارة. وهي جمر أبيض لا يصلح إلا للوقود.
3- نار العرفج: وهي نار تتقد سريعاً. قال قتيبة بن مسلم لعمرو بن عباد بن الحصين: للسؤدد أسرع إليك من النار في يبس العرفج. إذا التهبت فيه النار انتشرت وتسمى نار الزحفتين، لأن العرفج إذا انتشرت فيه النار عظمت واستفاضت. فمن كان بالقرب منها زحف عنها، ثم لا تلبث أن تنطفئ من ساعتها. فيحتاج الذي زحف عنها أن يزحف إليها. فلا يزال المصطلي بها كذلك، فلذلك سميت نار الزحفتين.
4- نار الحلفاء: يضرب بها المثل في سرعة الاتقاد، كما قيل:
فما ظنك بالحلفا* ء أدنيت له نارا
وفي سرعة الانطفاء، كما قيل: نار الحلفاء سريعة الانطفاء.