عبد الله بن محمد النهيدي
منذ أن قال أهل سبأ: {رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ} [سبأ:19]، وقوله تعالى عنهم: {فَجَعَلْنَاهُم أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُم ْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} [سبأ:19] وهذا هو القدر المحتوم لكل اليمنيين على مر العصور، وهم من الشتات إلى الشتات، ولا يوجد لأهل اليمن من يتبنى جمع شملهم ولم شعثهم، كما تبنى هرتزل جمع اليهود من الشتات، ولا أقارن هنا بين الشعبين، وإنما بين الشتاتين.
وصلت نجداً وتذكرت فيها قول عوف بن ملحم الخزاعي:
أفي كل عام غربة ونزوح *** أما للنوى من ونية فتريح
لقد طلح البين المشت ركائبي *** فهل أرين البين وهو طليح
وأرقني بالري نوح حمامة *** فنحت وذو اللب الحزين ينوح
على أنها ناحت فلم تر عبرة *** ونحت وأسراب الدموع سفوح
وناحت وفرخاها بحيث تراهما *** ومن دون أفراخي مهامه فيح
ألا يا حمام الأيك فرخك حاضر *** وغصنك مياد ففيم تنوح
عسى جود عبد الله أن يعكس النوى *** فتضحي عصا التسيار وهي طريح
فتأملت في حال أبناء اليمن السعيد، فإذا بهم مزقاً في كل وادٍ من الأرض، رجعت إلى دائرةٍ أضيق أصدقائي فإذا هم بين مُشرقٍ في أقصى الأرض ومُغربٍ في أقصاها، راسلت أثنين إلى اندونيسيا, طبعاً بعد أن ترك أحدهم كمبوديا ورحل إلى اندونيسيا، ثم اتصلت بصديق لي إلى مصر، وفتحت الإيميل لأجد رسالةً من أحدهم وهو في الكويت، وفجأة وصلتْ إلى جوالي رسالة من صديقي الذي استقر في الإمارات، وعلى الماسنجر تحادثت مع صديقين الأول في قطر والثاني في السعودية، وبقيت الأصدقاء الذين في السعودية هم فيها شتيت، من أٌقصى الشرق الدمام إلى أٌقصى الغرب جده، ومن الشمال إلى الجنوب، ذرَّت رياح الاغتراب جميع أصدقائي. رجعت إلى دائرة العائلة، فإذا هم ليسوا أحسن حالاً من الأصدقاء، ومنهم من لا أعرف عنه خبراً من سنة ونصف، ونحن أربعة أخوةٍ، لم نجتمع معاً في بيتٍ واحدٍ منذ أربع سنوات. حينها أمسكت الجوال واتصلت بقريب لي في الأردن، وتمنيت لو وجدت خبراً، عن الآخر لأنه في الصين. سألتُ أحدَ من لقيتهم -طبعاً في الغربة- من أين الأخ فقال: من اليمن محافظة البيضاء تحديداً. قلت: له وأين تعمل؟ فقال: في الرياض، فقلت: متى جئت من اليمن؟ فقال: لا، أنا كنت في جمهورية أفريقيا الوسطى، فتحت عيني، واقتربت منه، أين أين؟ فقال: حيث سمعت، قلت له: وما الذي ذهب بكم إلى هناك؟ قال: أصحابنا كانوا في السودان وهاجروا إليها من السودان على الجمال، وعددهم هناك قرابة الثمانين. فقلت: له لكن ربما هم الوحيدون في هذا البلد، فقال: وأزيدك ومثلهم في تايلاند، فقلت له: وماذا يعملون في تايلاند؟ فقال مغتربون هناك. ولقيت شخصاً طيباً آخر لا زلت أذكره بالخير، فكانت خلاصة الحوار معه أنه كان في تنزانيا ثم أنتقل على إثر أزمة اقتصادية إلى كينيا، ولم يعجبهم الوضع فيها فرحل إلى الإمارات، ومنها إلى جاوه الأندونيسية، ففارقته على هذا الحال، ولكني سألت عنه بعد مدة فقالوا إنه في الكويت، فأخذت رقمه واتصلت به إلى الكويت، ولست أدري أين سترمي به الأيام القادمة. من أراد أن يطلع على صورة تجسد له واقع مأساة أهل الشتات، فليتابع برنامج: "نوح الطيور" عندها سيدرك حقاً مدى كبر المأساة وفضاعة الجريمة. أحصيت كم عدد الأسر في أحدى القرى، فلم يتجاوز المائة، وأحصيت عدد المغتربين فيها فزاد العدد على مائتي مغترب، وهذا يعني أكثر من شخصين لكل أسرة. هل عند أهل اليمن فيروس هجرة من بين بقية الشعوب؟! أم هو طبيعة الأرض الطاردة على مر التاريخ، أم أن الدولة غير مكترثة بمواطنيها، فليذهبوا ولو إلى الصومال علماً أنها توجد جالية يمنية في الصومال!! أيترك المرء مراتع الصبا وأشواق الذكريات الجميلة، ويذهب في أرض الله يذرعها طولاً وعرضاً باحثاً عن لقمة العيش، وتغادر الآلاف تلو الآلاف، ولا من يسطر في ذلك كلمة أسى على شعب قدره أن يهان في كل بلدٍ من بلدان العالم المتحضر وغير المتحضر يستجدى الأمم لقمة عيشه. لقد ذكر التاريخ قصة ابن زريق البغدادي حين ترك بلده، وحليلته غضةً طريةً في ريعان شبابها باحثاً عن القوت، وسطر رائعته الخالدة الشاهدة على مأساته إلى يومنا هذا، على أنه ذكر قسوة العيش، ودافع الضرورة، ولم يكتف بهذا بل صاح في قصيدته صيحةً، أوجعت كل من سمعها، وتمنى لو سمع النصح وأنه لم يهاجر:
لا تعذليه فإن العذل يولعه *** قَد قَلتِ حَقاً وَلَكِن لَيسَ يَسمَعُهُ
ما آبَ مِن سَفَرٍ إِلّا وَأَزعَجَهُ *** رَأيُ إِلى سَفَرٍ بِالعَزمِ يَزمَعُهُ
كَأَنَّما هُوَ فِي حِلِّ وَمُرتحلٍ *** مُوَكَّلٍ بِفَضاءِ اللَهِ يَذرَعُهُ
اِستَودِعُ اللَهَ فِي بَغدادَ لِي قَمَراً *** بِالكَرخِ مِن فَلَكِ الأَزرارَ مَطلَعُهُ
وَدَّعتُهُ وَبوُدّي لَو يُوَدِّعُنِي *** صَفوَ الحَياةِ وَأَنّي لا أَودعُهُ
وَكَم تَشبَّثَ بي يَومَ الرَحيلِ ضُحَىً *** وَأَدمُعِي مُستَهِلّاتٍ وَأَدمُعُهُ
لا أَكُذب اللَهَ ثوبُ الصَبرِ مُنخَرقٌ *** عَنّي بِفُرقَتِهِ لَكِن أَرَقِّعُهُ
اِعتَضتُ مِن وَجهِ خِلّي بَعدَ فُرقَتِهِ *** كَأساً أَجَرَّعُ مِنها ما أَجَرَّعُهُ
أَلا أَقمتَ فَكانَ الرُشدُ أَجمَعُهُ *** لَو أَنَّنِي يَومَ بانَ الرُشدُ اتبَعُهُ
إِنّي لَأَقطَعُ أيّامِي وَأنفِقها *** بِحَسرَةٍ مِنهُ فِي قَلبِي تُقَطِّعُهُ
فِي ذِمَّةِ اللَهِ مِن أَصبَحَت مَنزلَهُ *** وَجادَ غَيثٌ عَلى مَغناكَ يُمرِعُهُ
مَن عِندَهُ لِي عَهدُ لا يُضيّعُهُ *** كَما لَهُ عَهدُ صِدقٍ لا أُضَيِّعُهُ
وَمَن يُصَدِّعُ قَلبي ذِكرَهُ وَإِذا *** جَرى عَلى قَلبِهِ ذِكري يُصَدِّعُهُ
وَإِن تُغِلُّ أَحَدَاً مِنّا مَنيَّتَهُ *** فَما الَّذي بِقَضاءِ اللَهِ يَصنَعُهُ
هذه هي حال كل من ذاق ما ذاق ابن زريق، والمحزن أنه مات في غربته ولم ير حبيبته بعدها، كما يموت في الشتات الآلاف من أبناء بلدي، ولا بواكي لهم. هذا ابن زريق البغدادي، أبى أن يخرج من الدنيا إلا وقد أشرك الناس معه في همه، أخبرهم بقضيته، وأسمع الدنيا كلها أنه مغترب، ومعذب في غربته. وها هو المتنبي يتنقل من بساط ملك إلى بساط ملك آخر، يفد عليهم وفادة الملوك، فينزل محكماً في أموالهم وقصورهم، ورغم هذا فاته العيد مرةً واحدةً فقط بعيداً عن محبيه، فملأ الدنيا ضجيجاً، وأخبر العالم كله أن المتنبي، قضى العيد وهو عنهم بعيد، وسطر في ذلك رائعتين من روائعه، قال في الأولى:
عيدٌ بأيّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ *** بمَا مَضَى أمْ لأمْرٍ فيكَ تجْديدُ
أما الأحبة فالبيداء دونهم *** فليت دونك بيداً دونها بيدُ
لم يَترُكِ الدّهْرُ مِنْ قَلبي وَلا كبدي *** شيئاً تتيمه عين ولا جيدُ
ثم أردف بأخرى وكأن هذه لم تف بالغرض، مما في قلبه من لوعة الفراق، وضنى الاغتراب فقال:
بِمَ التّعَلّلُ لا أهْلٌ وَلا وَطَنُ *** وَلا نَديمٌ وَلا كأسٌ وَلا سَكَنُ
أُريدُ مِنْ زَمَني ذا أنْ يُبَلّغَني *** مَا لَيسَ يبْلُغُهُ من نَفسِهِ الزّمَنُ
مَا كلُّ ما يَتَمَنّى المَرْءُ يُدْرِكُهُ *** تجرِي الرّياحُ بمَا لا تَشتَهي السّفُنُ
وَلا أُقيمُ على مَالٍ أذِلُّ بِهِ *** وَلا ألَذُّ بِمَا عِرْضِي بِهِ دَرِنُ
يتداول الناس قصةً لا أعلم بصحتها، أن ابن ملك من ملوك العرب المعاصرين، زار بلداً عربياً، فأستقبله مواطنوه بالمكانس، كنايةً عن أنهم هناك عمال بلدية، فقطع زيارته ورجع إلى بلده، وأقال أباه، وأخذ الحكم، وحول دولته ومواطنيه، من عمال بلدية إلى ذوي مستوى دخل يقارن بالدول الصناعية المتقدمة، فهل لمشتتي اليمن من مخلص، ولا يشترط أن يكون ابن الزعيم، فما في النار للظمآن ماءُ. هذا شيء والآثار المدمرة للغربة على مستوى الفرد أو المجتمع شيء آخر، كيف يتربى أولاد المغتربين، وماذا عن "الجرائم الأخلاقية" عندما يضعف الوازع عند الرجل المغترب، أو عند المرأة المنتظرة طوال السنين، وماذا عن نسيان الذات وتبدل العادات، والإهانات التي يتناولها المغتربون مع كل وجبة من المضيفين بحسبهم غرباء.

فهل لأبناء مذحج وحمير وهمدان وكِندة، من يرد لهم شيئاً من كرامة العرب، وعزة الإسلام، ويعيدهم، إلى بلادهم، يأكلون أحراراً، يعيشون كما تعيش الأمم، أم أن دعوة الحمقى القدماء الذين قالوا: {رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ} [سبأ:19] تحتاج إلى دعوة أخرى من الأبناء الفطناء، فلا ملجأ من الله إلا إليه، وليرفعِ الجميعُ أيديَهم ولنقل جميعاً بصدقٍ، ونلحقُ القولَ الفعلَ "اللهم لم شعثنا.. واجمع شملنا".
المصدر: صفحة الشيخ على الفيس بوك

موقع منبر علماء اليمن: http://olamaa-yemen.net/main/article...ticle_no=13515