حقيقة ما اختص الله به إنما هو طلاقة العلم والقدرة
وقد أقدر الله بعض خلقه على أشياء فصار الفعل ينسب لهم حقيقة ويطلب منهم ، وهذا لا ينافي أن الله هو واهب خلقه هذه القدرة وهو خالق أفعالهم .
ولما كانت قدرة هؤلاء الخلق إنما هي عطاء لهم ، وهي سبب في حصول المطلوب لم يجز التوكل عليها أو تعلق القلب بها ، وإن جاز مباشرتها كسبب شرعي ( بحكم الله الشرعي أو بحكمه القدري الذي اقتضى حصول العادة)
ومتى حصل التوكل على السبب حصل الشرك بالله تعالى ، ومهما كان القلب متعلقا بالسبب كانت المعصية مالم يصل إلى حد التوكل .
فإن التوكل من أفعال العبيد التي خص بها سبحانه نفسه ، إذ هو فعل من العبد تجاه من له القدرة المطلقة وبيده تصريف الأمور ، ولا يكون من العبد إلا لمن كان على هذه الصفة ، فمتى صرف العبد توكله على غير الله كان مسويا بالله غيره ، مشركا بهذا الغير مع اللله فيما استحقه سبحانه من التوكل عليه وحده لما اتصف به من طلاقة العلم والقدرة .
وبيان ذلك :
أن الله خلق للإنسان قدرة وإرادة تقع بهما أفعال الإنسان .
هذه القدرة مقيدة في نفسها غير مطلقة ، ناقصة بما يناسب إفراد الله وحده بالكمال المطلق ، ثم هي مشروطة بعطاء الله إعداداً وإمداداً فمن شاء الله أقدره إعداداً وعلى ماشاء سبحانه أقدره توفيقاً إمداداً ، توفيقاً لما أراده الله له بإرادته – أي العبد – إياه ، وإمداداً بتهيئ الأسباب لحصول ذلك الفعل بعينه .
فمن حيث أن الفعل وقع بقدرة الإنسان الطبيعية ، وإرادته نُسب الفعل إلى الإنسان حقيقةً واستحق عليه الثواب والعقاب والمدح والذم ، وهذا أمر محسوس ملموس .
ومن حيث أن قدرته وإرادته مخلوقتان لله إعداداً بالأصل وإمداداً للفرع كان ما يحصل من الإنسان من أفعال هو إرادة الله وتقديره ( خلقه ) ، وهو فعل الإنسان حقيقة .
أما من وقع منه فعل بغير إرادة منه ، فإنما هو منفعل أو مفعول به وليس بفاعل ولا ينسب إليه الفعل إلا مجازاً كقوله تعالى (( ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال )) وكقولنا النعناع يشفي آلام البطن ، فهذه نسبة مجازية لا حقيقية ، إذ فعل به ولا فعل له ، ومثل تلك النسبة كرهها العلماء إلا إذا أتبعت بإذن الله ، قَالَ الشافعي فِي " الْأُمّ " : مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا عَلَى مَا كَانَ بَعْض أَهْلالشِّرْك يَعْنُونَ مِنْ إِضَافَة الْمَطَر إِلَى أَنَّهُ مَطَر نَوْء كَذَا فَذَلِكَ كُفْر كَمَا قَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ النَّوْء وَقْت وَالْوَقْت مَخْلُوق لَا يَمْلِك لِنَفْسِهِ وَلَا لِغَيْرِهِ شَيْئًا ، وَمَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِنَوْءِكَذَا عَلَى مَعْنَى مُطِرْنَا فِي وَقْت كَذَا فَلَا يَكُون كُفْرًا ،وَغَيْره مِنْ الْكَلَام أَحَبّ إِلَيَّ مِنْهُ ، يَعْنِي حَسْمًالِلْمَاد َّةِ "
ومن هذا الباب يدخل فعل الملائكة عليهم السلام الذين يدبر الله بهم أمور الكون من إحياء وإماتة وتوزيع رزق وغير ذلك مما هو فعل الله عزوجل حقيقة وينسب للملائكة مجازاً إذ لا يقع منهم عليهم السلام بإرادتهم وإنما فعل بهم ما أراده الله ، قال تعالى واصفاً حال ملائكته (( بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون )) وقال تعالى (( فالمدبرات أمراً )) قال القرطبي (وعلى أن المراد بالمدبرات الملائكة , فتدبيرها نزولها بالحلال والحرام وتفصيله ; قاله ابن عباس وقتادة وغيرهما
وهو إلى الله جل ثناؤه , ولكن لما نزلت الملائكة به سميت بذلك ; كما قال عز وجل : " نزل به الروح الأمين "
وكما قال تعالى : " فإنه نزله على قلبك "
يعني جبريل نزله على قلب محمد صلى الله عليه وسلم , والله عز وجل هو الذي أنزله وروى عطاء عن ابن عباس : " فالمدبرات أمرا " : الملائكة وكلت بتدبير أحوال الأرض في الرياح والأمطار وغير ذلك )
قال القرطبي ((وكان تسوية الطين والنفخ من عيسى والخلق من الله، كما أن النفخ من جبريل والخلق من الله ))
وقال في الوسيط (وقوله : ( فالمدبرات أَمْراً ) المقصود به طائفة خامسة من الملائكة ، من وظائفهم تدبير شأن الخلائق وتنظيم أحوالهم بالطريقة التي يأمرهم سبحانه بها ، فنسبة التدبير إليهم ، إنما هى على سبيل المجاز ، لأن كل شئ فى هذا الكون إنما هو بقضاء الله وتقديره وتدبيره ) ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أنس بن مالك الذي في الصحيح (( إن اللّه عز وجل وكل بالرحم ملكا فيقول: أي رب نطفة، أي رب علقة، أي رب مضغة، فإذا أراد اللّه أن يقضي خلقها قال الملك: أي رب، ذكر أم أنثى ؟ شقي أو سعيد ؟ فما الرزق فما الأجل؟ فيكتب كذلك في بطن أمه )) فالملك هنا منفذ لأمر الله تعالى ، وقضاء الخلق من الله .
ومن حديث حذيفة بن أسيد، وهو من أفراد مسلم، ولفظه: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة، بعث اللّه إليها ملكًا، فصورها، وخلق سمعها وبصرها، وجلدها ولحمها وعظامها. ثم يقول: يا رب، أذكر أم أنثى ؟ فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يقول: يارب، رزقه؟ فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك؛ ثم يقول: يا رب، أجله؟ فيقضي ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده، فلا يزيد على ما أمر ولا ينقص )) ومع ذلك فلا يسوغ سؤال ذلك الملك بتحسين تصوير الجنين ، لأن المصور حقيقة هو الله جل وعلا كما قال تعالى (( هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء )) لا كما يشاء الملك ، فتوجب إفراده سبحانه بشؤال ذلك ، إذ لا معنى لسؤال الملك ذلك إلا عاتقاد أنه يصور الخلق في الأرحام كيف يشاء لا الله!!
فالملائكة عباد لله يرسلهم تعالى في تدبير شئون مملكته جل وعلا ، فالتدبير له جل وعلا حقيقة ولهم ينسب مجازاً كمن يتولى من الخدم مباشرة صرف زكاة صاحب المال لمستحقيها ممن أمره صاحب المال بإيصالها له ، فلا يوصف هذا الخادم بأنه معط الزكاة إلا مجازاً حيث جرى الفعل على يديه ، فصار مفعولا به من قبل المعطي الحقيقي ، وهو صاحب المال الذي استحق المدح على إعطائه الزكاة والثواب عليها .
وإلا فلا يقدر هذا الخادم أن يعطي زكاة من ماله هو ، كما لا يقدر على إعطاء المال لغير من أمره صاحب المال بإيصاله له ، ولذلك لم يكن هذا الفعل من الخادم – إعطاء الزكاة – منوطا بإراته بحيث إذا شاء أعطى وإذا شاء لم يعطي ومن شاء أعطى ومن لم يشأ لم عطي ، ومن ثم لا ينسب إليه فعل الإعطاء إلا مجازا .
وبالتالي فلا قدرة حقيقة لمثل هذا المفعول به ، إذ لا يوصف بقدرة حقيقية عليه إلا إذا كانت قدرته هذه منوطة بإرادة منه وطالما أن ذلك الفعل الذي حصل منه إنما يحصل بغير إرادته هو ، فلا قدرة له حقيقية على إيقاعه ، ليس هو الفاعل حقيقة ، وإنما ينسب إليه الفعل مجازاً والقدرة كذلك ، والفاعل الحقيقي لذلك هو من فعَل به ، وأراد مافعله به ، ولذلك لا يقال أن الإنسان يقدر على أن يحلُم بكذا وكذا ، إذ لا إرادة له في حصول ذلك وبالتالي فلا قدرة قدرة حقيقية له عليه ..
وكذلك قد يقال هذه الأريكة تقدر على حمل 4 أشخاص ، وهذه النسبة نسبة مجازية لا حقيقية وإنما القادر الحقيقي هو الذي حمل ال4 أشخاص بخشب هذه الأريكة (( إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا )) فالرجل يسأل نجارا صُنع أريكة تحمل 4 أشخاص أو خمسة أو ما شاء والنجار يلتمس من الخشب الذي يحمل الله به هذه العدد المطلوب ، فهنا فعلان حقيقيان وفعل واحد مجازي .
أما الفعلان الحقيقيان : فصنع النجار الأريكة ، حيث يحصل هذا من النجار بإرادة وقدرة عليه عطائيتين ، فصح نسبة صنع الأريكة إلى النجار فعلا حقيقياً ، وترتب على ذلك جواز سؤال النجار ذلك الفعل ،ومدحه على جيد صنعه لها ، وذمه إذا أساء ومن ثم مجازاته على كل حال ، ووجب على النجار شكر الله على ما أعطاه له ، وسؤاله سبحانه العون والمدد .
والفعل الثاني الحقيقي : ففعل الله بالخشب ( الحمل ) فالله سبحانه حمل ال4 أشخاص بخلقه هذا الخشب على تلك الهيئة والطبيعة ، فاستحق سبحانه الشكر على ماخلق والحمد والثناء .
وأما الفعل المجازي فهو المنسوب إلى الخشب ( الحمل ) فلا ينسب له حقيقة إذ لا إرادة له فيه وبالتالي لا قدرة حقيقية له عليه ، وإذا قيل هذا الخشب أحسن من هذا فليس ذلك ثناء على الخشب لذاته إذ لا يستحق الخشب المدح ولا الذم وإنما هو إخبار عن الأنسب لأن يُفعل به ، وكذلك ذمه فليس إلا إخبار عن أنه لا يناسب أن يفعل به ، وإلا فعلى كل حال فإن خالقه سبحانه ( الفاعل به جل جلاله ) محمود على بديع خلقه له .
فالحاصل أن ما لاقدرة للشئ عليه هو ما لا يتوقف على إرادته ، وإنما على إرادة شئ آخر ، فيكون هذا الآخر هو القادر حقيقة ، ولذلك نسأله إرادة حصول الفعل فإن أراد حصول الفعل أقدر المفعول به عليه قدرة مجازية يقع معها الفعل من الفاعل الحقيقي الذي ارتبط وقوع الفعل بإرادته .
وبالتالي فلا ينسب إلى هذا المفعول به هذا الفعل إلا مجازاً ، ولا يترتب عليه سؤاله منه بل ليس إلا دالٌّ على أنه من الفاعل الحقيقي كما أن الخشب بهذه القدرة المجازية على الحمل دال على أنه من القادر الحقيقي على ذلك .
يتبع إن شاء الله