موضع اليدين أثناء القيام في الصلاة !!
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
اختلف العلماء في هذه المسالة على أربعة أقوال:
القول الاول: انهما توضعان تحت السرة، وهو مذهب أبو حنيفة، ورواية عن أحمد، وغيرهما. بدائع الصنائع ٣٤/٢، و المغني ٤٧٣/١
القول الثاني: انهما توضعان تحت الصدر و فوق السرة، وهو مذهب الشافعي. العزيز شرح الوجيز للرافعي ٤٧٨/١،والمجموع للنووي ٢٦٩/٣
القول الثالث: التخيير بين وضعهما تحت السرة، أو فوقها، وهو مذهب الامام احمد، وغيره. المغني ٤٧٣/١
قال الترمذي: و رأى بعضهم أن يضعهما فوق السرة، و رأى بعضهم أن يضعهما تحت السرة، و كل ذلك واسع عندهم.
وهذه الأقوال الثلاثة هي المشهورة عند أئمة السلف، من الأئمة الاربعة، وغيرهم ممن كان في زمانهم.
القول الرابع: انهما توضعان فوق الصدر، وهو مذهب جماعة من المتأخرين.
احتج من ذهب الى أنهما توضعان تحت السرة بما أخرجه ابو داود (٧٥٦) عن علي رضي الله عنه انه قال: السنة وضع الكف في الصلاة تحت السرة.
وبما اخرجه ابو داود أيضا (٧٥٨) عن أبي هريرة رضي الله عنه انه قال: أخذ الأكف على الأكف في الصلاة تحت السرة. وقال ابو داود: ليس بالقوي.
وبحديث: ثلاث من سنن المرسلين، ومنها وضع اليمين على الشمال تحت السرة في الصلاة.
وكل هذه الأحاديث لا تخلوا من ضعف.
و احتج من ذهب الى انهما توضعان فوق الصدر بحديث وائل بن حجر رضي الله عنه، قال النووي: ودليل وضعهما فوق السرة حديث وائل بن حجر قال صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضع يده اليمنى على يده اليسرى على صدره. شرح مسلم ١١٥/٤
وكذلك بأثرين أخرج أحدهما البيهقي في السنن الكبرى ٣١/٢ عن سعيد بن جبير انه سئل: أين تكون اليدان في الصلاة، فوق السرة أو أسفل من السرة؟ فقال: فوق السرة.
قال البيهقي: وكذلك قاله ابو مجلز لاحق بن حميد؛ و اصح اثر روي في هذا الباب أثر سعيد بن جبير، وأبي مجلز.
ولفظ حديث وائل بن حجر قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضع يده اليمنى على كف اليسرى على صدره. اخرجه ابن خزيمة من طريق مؤمل بن اسماعيل عن الثوري عن عاصم ابن كليب عن أبيه عن وائل. ٢٤٣/١
قلت: وقد خُلِف مؤمل بن إسماعيل في متن هذا الحديث.
فرواه محمد بن يوسف الفريابي، وعبد الله بن الوليد، عن الثوري بهذا الإسناد ولم يذكرا هذه الزيادة؛ والفريابي أوثق من مؤمل بن إسماعيل، فيقدم عليه، ناهيك عن موافقة عبدالله بن الوليد للفريابي.
يضاف لذلك أن هذا الحديث قد رواه جماعة من الثقات، منهم شعبة بن الحجاج، و زهير بن معاوية، و بشر بن المفضل، وعبد الواحد، و زائدة، وأبو الأحوص، وغيرهم بهذا الإسناد أيضا، ولم يذكروا زيادة وضع اليدين على الصدر.
ومؤمل بن اسماعيل مختلف في توثيقه، مع اتفاق الأئمة على انه كثير الخطأ.
بل قال عنه البخاري: منكر الحديث.
ومن وثقه فإنما ذلك لشدة تمسك مؤمل بالسنة، لا من جهة حفظه.
قال المروزي: اذا انفرد بحديث يجب ان يتوقف ويتثبت فيه؛ لانه سيء الحفظ كثير الغلط. تهذيب التهذيب ٥٨٦/٥
وزيادته وضع اليدين على الصدر في هذا الحديث مما يدل على انها خطأ من مؤمل بن إسماعيل؛ وهي زيادة منكرة.
قال ابن القيم: لم يقل على صدره غير مؤمل ابن اسماعيل. اعلام الموقعين ٢٨٥/٤
و أخرجه البزار ٣٥٦/١٠ والبيهقي ٣٠/٢ من طريق سعيد بن عبد الجبار بن وائل عن ابيه عن أمه عن وائل بن حجر مرفوعا بلفظ طويل جدا، وفيه: ثم وضع يمينه على يساره عند صدره.
و عبد الجبار بن وائل لم يصح له سماع من أبيه، كما نص عليه ابن معين والبخاري.
و سعيد بن عبد الجبار ليس بالقوي، كما قاله النسائي؛ والراوي عنه محمد بن حجر الحضرمي وهو ضعيف جدا.
وقد روى هذا الحديث جماعة من الثقات منهم أبو اسحاق السبيعي، ومحمد بن جحادة، عن عبد الجبار بن وائل عن أبيه؛ ولم يذكروا أمه، ولا أنه وضع يديه على الصدر.
فجتمع في حديث سعيد بن عبد الجبار عدة علل، فهو حديث منكر.
واحتجوا أيضاً بما اخرجه الامام احمد في مسنده عن يحي بن سعيد عن الثوري عن سماك عن قبيصة بن هلب الطائي عن أبيه قال: رايت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينصرف عن يمينه وعن يساره، ورايته يضع هذه على صدره.
ورواه وكيع عن الثوري ولم يذكر هذه الزيادة، بل قال: رايت رسول الله صلى الله عليه وسلم واضعا يمينه على شماله في الصلاة.
وهكذا رواه محمد بن كثير بدون هذه الزيادة.
ووكيع مقدم على يحي في سفيان الثوري، فتكون روايته هي الصحيحة، ورواية يحي بن سعيد خطا.
ومما يدل على خطائها موافقة محمد بن كثير لوكيع في عدم ذكر هذه الزيادة.
بل لم يذكرها احد مما روى هذا الحديث عن سماك، ومنهم ابو الأحوص، وشريك، وأسباط بن نصر وحفص بن جميع.
ناهيك ان مدار الحديث على سماك بن حرب عن قبيصة، وهما ضعيفان.
واحتجوا أيضاً بما اخرجه البيهقي ٣٠/٢ من طريق شيبان بن فروخ عن حماد بن سلمة عن عاصم عن ابيه عن عقبة بن ظهير وقيل بن صهبان عن علي رضي الله عنه قال في هذه الآية (فصلّ لربك وانحر) قال وضْعُ يدِه اليمنى على وسط يده اليسرى، ثم وضعهما على صدره.
ورواه موسى بن اسماعيل، وابو الوليد الطيالسي عن حماد، ولم يقولوا فيه على صدره.
ورواه وكيع، وحميد بن عبد الرحمن، عن يزيد بن زياد بن ابي الجعد عن عاصم عن عقبة عن علي به ولم يذكروا هذه الزيادة، بل قالوا: (فصلّ لربك وانحر) وضع يمينك على شمالك في الصلاة.
وبهذا يتضح خطا شيبان بن فروخ في قوله: ثم وضعهما على صدره.
واحتجوا أيضاً بما اخرجه ابو داود في المراسيل والبيهقي في معرفة السنن والاثار ٤٩٩/١ عن سليمان بن موسى عن طاووس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع يده اليمنى على يده اليسرى ويشدهما على صدره وهو في الصلاة.
وهذا المرسل تفرد به سليمان بن موسى الأشدق، وفي اختلف في توثيقه.
والأقرب أنه ثقة في الزهري كما قال ابن معين، وأما في غير الزهري فليس بالقوي، خاصة اذا تفرد بالرواية، وهذا معنى قول البخاري عنده مناكير، وأشار لذلك ابن عدي.
وقد روي عن طاووس جماعة من الثقات ممن هم أوثق منه، كسليمان التيمي، وسليمان الأحول، والزهري، وعمرو بن دينار، ومجاهد، فأين هم عن مثل هذا الحديث!!
فهو اذا حديث منكر، وهو من مناكيره التي أشار اليها البخاري وغيره.
مما تقدم يتضح ان زيادة وضع اليدين على الصدر في الصلاة لا تصح.
فهي إما زيادة خاطئة كرواية يحي بن سعيد، وشيبان بن فروخ.
و إما زيادة منكرة كبقية الروايات.
والرواية الخاطئة والمنكرة من الروايات التي لا تنجبر بمجيئها من طرق اخرى؛ لتحقق الخطأ فيها.
وكمال قال الامام احمد: المنكر منكرا.
و تبْقى احاديث وضع اليدين تحت السرة او فوقها على ضعفها من جهة احد رواتها.
والراوي الضعيف هو من وجد في حديثه الصحيح و الضعيف، ولكن الضعيف هو الاكثر.
فلا ترد أحاديثه كلها؛ وانما ترد احاديث الراوي كلها اذا كان كذابا ونحوه.
ولذا عمل جمهور السلف من الأئمة الاربعة أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، واحمد، وغيرهم بالحديث الضعيف.
وذكر الامام احمد ثلاثة شروط للعمل بالحديث الضعيف وهي باختصار:
الاول: ان لا يوجد في الباب حديث صحيح.
الثاني: ان لا يوجد حديث صحيح يخالفه.
الثالث: ان لا يكون ضعفه شديدا، كالموضوع، والمنكر، والخطأ.
وقد توفرت هذه الشروط في احاديث من ذهب الى ان اليدين توضع تحت السرة، او فوقها؛ وبالله التوفيق، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
جمعه وحرره أبو عبد الله فؤاد الحاتم
الخميس 5/6/1433هـ