إعداد:
قسم الإرشاد بهيئة التزكية والإرشاد والحسبة بجامعة الإيمان .
الخطبة الأولى:
الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
فان خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها المسلمون! روى الإمام البخاري وروى كذلك الإمام الترمذي والإمام النسائي والإمام أبو داود والإمام أحمد وغيرهم عن الحسن البصري رحمه الله أنه قال: استقبل الحسن -أي: الحسن بن علي رضي الله عنهما- استقبل معاوية بكتائب أمثال الجبال فقال عمرو بن العاص رضي الله عنه: إني لأرى كتائب لا ترجع حتى تقتل أقرانها، فقال معاوية: وكان خير الرجلين أي: كان خيراً من عمرو بن العاص وكلاهما على خير؛ لأنهما صحابيان.
قال: إن قَتَلَ هؤلاء هؤلاء، وهؤلاء هؤلاء من لي بأمور الناس؟ من لي بنسائهم؟ من لي بِضَيْعَتِهم؟ ثم إن معاوية رضي الله عنه انتدب رجلين من قريش لكي يذهبا إلى الحسن بن علي رضي الله عنهما، وكانت النتيجة أن قبل الحسن رضي الله عنه أن يتنازل بالخلافة لمعاوية رضي الله عنه.
قال الحسن البصري رضي الله عنه: سمعت أبا بكرة رضي الله عنه يقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر وإلى جنبه الحسن -أي إلى جنبه الحسن بن علي رضي الله عنهما- وهو ينظر إلى الناس نظرة ويُقْبِل على الحسن مرة ويقول: «إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين».
وفي رواية: «بين فئتين عظيمتين من المسلمين».
هذا الحديث الشريف أيها المسلمون فيه بيان مزية عظيمة للحسن حفيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي هو مع أخيه الحسين سيدا شباب أهل الجنة.
الحسن رضي الله عنه له فضائل كثيرة، ويكفي أن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث المتفق عليه قال: قال عن الحسن: «اللهم إني أُحِبُّهُ فأحبَّهُ وأَحبَّ من يُحِبّهُ» أي: أن الرسول عليه الصلاة والسلام ذَكَرَ بأنه يحب الحسن، ودعا الله تبارك وتعالى بأن يحبه أي: بأن يحب الحسن وبأن يحب كل من يحب الحسن.
لذلك من أحب الحسن فتلك علامة -إن شاء الله- على حب الله له، إذا كان هذا الحب حباً شرعياً بدون غلو كما يفعل بعض العوام.
ذكر الحسن البصري وهو راوي هذا الحديث بأن الحسن بن علي رضي الله عنهما كان قد استقبل معاوية بكتائب أمثال الجبال، أي كان عنده جيش ضخم، وكان القتال ربما استمر على ما كان عليه من قبل بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، وقال عمرو بن العاص رضي الله عنه لما رأى هذه الكتائب قال: بأنه يرى أن الكتيبة منها لا يمكن أن ترجع حتى تَقْتُلَ أقرانها.
بمعنى أنه لو انفجرت الحرب بين جيش الحسن وجيش معاوية لحصلت مقتلة عظيمة، فقال معاوية رضي الله عنه: إذا قتل هؤلاء هؤلاء وهؤلاء هؤلاء أي: إذا قتل كل فريق الفريق الآخر فَمَنْ لي بأمور الناس، بمعنى: إنني سوف أرث تركة ثقيلة، بمعنى: أنه سيضيع الناس، من لي بأمور الناس؟ من لي بنسائهم؟
ستكثر الأرامل، من لي بضيعتهم؟ سيضيع أبناؤهم ويكونون يتامى.
ثم إن معاوية رضي الله عنه اختار رجلين لكي يذهبا ليكلما الحسن في الصلح، فذهب هذان الرجلان وكانا سبب خير للمسلمين، فقبل الحسن رضي الله عنه الصلح.
وقال الحسن البصري بهذه المناسبة-مناسبة قبول الحسن بن علي رضي الله عنهما للصلح- قال: بأنه سمع أبا بكرة-وأبو بكرة أحد خيار الصحابة- قال: بأنه سمع أبا بكرة يقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر وإلى جنبه الحسن -حفيده - وكان من حب الرسول صلى الله عليه وسلم له؛ أنه يصطحبه معه في صلاته ويصطحبه معه على المنبر.
فكان عليه الصلاة والسلام وهو على المنبر ينظر إلى الناس مرة ويُقْبِل على الحسن مرة ويقول: «إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين».
يستشهد الحسن البصري رحمه الله في هذا الحديث الصحيح على ما حدث من الحسن بن علي رضي الله عنهما من الصلح بينه وبين معاوية رضي الله عنه في ذلك العام الذي سماه المسلمون عام الجماعة؛ لأن كلمة المسلمين اجتمعت بعد فُرقة، وتوحد أمر المسلمين بعد قتال طويل، أُزهِقت فيه كثير من الأرواح، فكان هذا الحدث معلماً بارزاً في تاريخ الإسلام، وكان سيد هذا الحدث الحسن بن علي رضي الله عنهما بشهادة جده صلى الله عليه وسلم.
وكان هذا كذلك علماً من أعلام نبوة النبي عليه الصلاة والسلام، أن يتحدَّث الرسول عليه الصلاة والسلام عن هذا الأمر قبل أن يحدث بعشرات السنين، تحدَّث عنه الرسول عليه الصلاة والسلام والحسن لازال صبياً صغيراً، فكان أن وقع ما أخبر به الرسول عليه الصلاة والسلام تماماً كما أخبر، وأصلح الله بين فئتين عظيمتين من المسلمين، الفئة التي كانت في جانب عليّ ثم في جانب الحسن رضي الله عنهما، وبين الفئة الأخرى التي كانت مع معاوية رضي الله عنه.
لقد تم هذا الصلح بين هاتين الفئتين العظيمتين لَمَّا تنازل الحسن رضي الله عنه.
قال ابن حجر رحمه الله: "لم يتنازل الحسن لقلة؛ فإنه قد كانت عنده كتائب أمثال الجبال، ولا لذلة فقد كان قوياً، ووصف عمرو بن العاص وكان في الطرف الآخر، وصف كتائب الحسن بأنها لا يمكن أن ترجع حتى تقتل أقرانها، فهي كتائب شجاعة، فلم يتنازل الحسن لقلة ولا لذلة، ولا لرغبة في الدنيا، وإنما تنازل إيثاراً لما عند الله تبارك وتعالى حتى ينال تلك الدرجة، ذلك الوسام الذي وضعه عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو وسام السيادة، «إن ابني هذا سيد» وحُقَّ له أن ينال هذه المرتبة وهذا الشرف بعد هذا العمل وأمثاله من الفضائل الكثيرة المعروفة له رضي الله عنه.
لقد أصلح الله به بين هاتين الفئتين العظيمتين من المسلمين، وذكر الحافظ ابن حجر كذلك أن هذا الحديث فيه رد على المبتدعة كالخوارج والشيعة.
فالخوارج يكفرون علياً رضي الله عنه ومن معه، وكذلك يكفرون معاوية رضي الله عنه ومن معه، ولذلك أرادوا أن يخرجوا على الجميع فتآمروا لقتل علي ومعاوية وعمرو بن العاص رضي الله عنهم، وتمكنوا من قتل علي رضي الله عنه فرجع إلى ربه شهيداً بشهادة الرسول عليه الصلاة والسلام، فهذا الحديث يرد عليهم؛ لأنهم يكفرون الجميع والحديث يقول: «بين فئتين من المسلمين».
فالفئتان من المسلمين وإن حدث قتال بينهما؛ لأن هذا القتال لا يخرجهما عن الإسلام، والله تبارك وتعالى يقول: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:9].
فالآية تدل على أنه يمكن أن يحدث قتال بين المؤمنين، وأن هذا القتال إذا كان باجتهاد فإنه لا يخرج الطائفتين المقتتلتين من الإيمان، كذلك فإن الحديث فيه رد على الشيعة الذين يسبون معاوية رضي الله عنه وبعضهم يبلغ به الأمر إلى حد تكفير معاوية رضي الله عنه.
هذا الحديث يرد عليهم كذلك؛ لأنه شهد للفئتين معاً بالإسلام، ففئة معاوية أيضاً فئة مسلمة، كذلك فإن الحسن رضي الله عنه وهو مَن هو في المكانة تنازل لمعاوية رضي الله عنه، وهل يمكن للحسن أن يتنازل بالخلافة وعنده ذلكم الجيش الضخم؟ هل يمكن أن يتنازل بالخلافة لفاسق أو لفاجر؟ كلا والله.
إن تنازل الحسن لمعاوية معناه شهادة لمعاوية بأنه أهلٌ لأن يُتنازل له، وبأنه أهل بأن يتولى الخلافة فضلاً عن أنه مسلم وصحابي، ولمعاوية رضي الله عنه فضائل كثيرة مدونة في كتب السنة، ويكفي أنه كان كاتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويكفي أنه كان من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس معنى هذا أنه معصوم، إنه يمكن أن يقع في أخطاء ولكن هذه الأخطاء هي طبيعة البشر، والصحابة من البشر ولكن لا يجوز بحال من الأحوال أن يُسَبَّ هذا الصحابي، ولقد قال تبارك وتعالى في الصحابة بشكل عام ومعاوية منهم: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} [الحديد:10].
في هذا بيان تفضيل الصحابة السابقين الذين أسلموا قبل الفتح على الصحابة اللاحقين الذين أسلموا بعد الفتح فلا يستوي هؤلاء وهؤلاء، فالسابقون درجتهم أعلى ولكن ماذا قال ربنا بعد ذلك؟ قال الله: {وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [النساء:95].
فالسابقون واللاحقون من الصحابة كلهم وَعَدَهم الله تبارك وتعالى الحسنى، وَعَدَهم الخاتمة الحسنى، وعَدَهَم الجنة، فكلهم من أهل الجنة فلا يجوز أن يُسَبَّ أبداً أحدٌ من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا معاوية ولا غيره، ويكفي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم: «لا تسبوا أصحابي»، وفي الحديث الذي رواه الطبراني وهو في صحيح الجامع الصحيح يقول عليه الصلاة والسلام: «من سبَّ أصحابي فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين».
أيها المسلمون! ما جرى بين الصحابة نعتقد أنه كان على اجتهاد ولم يكن تبعاً لأهواء أو طمعاً في دنيا، وإنما كان نتيجة لاجتهادات فمن هذه الاجتهادات ما يؤجر صاحبه عليه أجرين؛ لأنه أصاب، ومن هذه الاجتهادات ما يؤجر صاحبه عليه أجراً واحداً؛ لأنه اجتهد فأخطأ.
فما جرى بينهم لا يخرج عن دائرة الاجتهاد ولا نخوض فيه، فقد رجعوا إلى ربهم جل وعلا وهو أحكم الحاكمين.
نقول هذا الكلام لكل من يبسط لسانه أو يبسط قلمه في التدخل بين صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لكي يَسُبَّ هذا أو يَسُبَّ ذاك لكي يُفَسِّق هذا أو ذاك.
نقول لهؤلاء: اتقوا الله ربكم؛ فإن الله قد مدح الصحابة في آيات كثيرة، ويكفي أن الله وعدهم الحسنى، ويكفي أن الله قال: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَ ا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر:10].
أقول ما سمعتم وأستغفر الله
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر:18-20].
أيها المسلمون! إن كثيراً ممن يزعم التشيع يسب معاوية رضي الله عنه، ونقول لهم: ألا تتقون الله؟ من أعلم أنتم أم الحسن الذي تزعمون أنكم تتشيعون له ولأهل بيته؟
إن الحسن رضي الله عنه تنازل لمعاوية فأين أنتم من الحسن؟ وبأي حق تسبون هذا الرجل الذي ولاه الحسن على رقاب المسلمين، إذا كنتم فعلاً تحبون الحسن، وتحترمونه.
إن محبة الحسن واحترامه يقضيان بمحبة واحترام وجهة نظره وعمله واختياره.
لقد اختار الصلح والتنازل لمعاوية، وهذا الاختيار رضيه الله؛ لأن رسول الله عليه الصلاة والسلام إنما مدحه في الحديث عليه؛ لأن الله رضيه.. فهذا الصلح رضيه الله ورضيه رسوله، وطبّقه الحسن ونال عليه ذلك الوسام النبوي.
أفلا ترضون إن كنتم مؤمنين بالله بما رضيه الله ورضيه رسوله ورضيه الحسن لنفسه وطبّقه؟
إن النتيجة شهادةٌ لمعاوية بأنه أهلٌ للولاية ولاجتماع كلمة المسلمين عليه.
اللهم إنا قد رضينا بما رضيت وإن تسخط من تسخط فلا قيمة لسخطه في ميزان الإسلام، بل سُخْطه وبالٌ عليه والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
هذا وصلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه..
موقع منبر علماء اليمن: