[B]بسم الله الرحمن الرحيم
قال الشيخ محمد العربي التباني في رسالته " تنبيه الباحث السري إلى ما في رسائل وتعاليق الكوثري " ( ص 78-86) :
" كلام ابن خلدون الذي توكأ عليه الكوثري في تحقير المالكية عموماً خاص بمالكية المغرب والأندلس.
قال : ولذا ترى ابن خلدون يقول عن مذهب مالك مالفظه: وأيضاً فالبداوة كانت غالبة على أهل المغرب والأندلس ولم يكونوا يعانون الحضارة التي لأهل العراق ، فكانوا إلى أهل الحجاز أميل لمناسبة البداوة، ولهذا لم يزل المذهب المالكي غضاً عندهم لم يأخذه تنقيح الحضارة وتهذيبها اهـ(مقدمة علم الفقه) .
مؤاخذة حضرته في تجاوزه عما قاله ابن خلدون في حيف المالكية والإلمام بحال ابن خلدون باختصار.زاد حضرته في طنبور ابن خلدون نغمات ، خص ابن خلدون كما يرى القارئ مذهب مالك الذي لم يزل غضاً ولم يأخذه تنقيح الحضارة وتهذيبها بمالكية المغرب والأندلس ولم يتجاوز إلى مذهب مالك المنتشر في مصر والشام والعراق وخليج فارس من بلاد العرب الأحساء والبحرين وعمان إذ ذاك ، ولا زال إلى الآن عليه جل سكان القطر المصري والسودان أجمع وأكثرية سكان الأحساء والبحرين والكويت وساحل عمان وبقايا منه في العراق البصرة وبغداد ، فحكمه وإن كان بغياً خاص بجزء من هذا المذهب ، وحضرته عم المذهب كله فقال : ولذا ترى ابن خلدون (يقول عن مذهب مالك) ويزيد فيقول (مالفظه) وهذا من أقبح التصرف المكشوف لكلام ابن خلدون ، ولا نظنه يجهل اتساع مذهب مالك فيما ذكرناه ولا جهله بمدلول كلام أبي زيد وكلام ابن خلدون هذا في مقدمة تاريخه التي يُعجب بها كثير من أهل العصر وله فيها مجازفات كثيرة ومؤاخذات ، وقد نقدها العلماء : فمنها - وهو ما لا نظن الكوثري لم يطلع عليه - زعمه أن الإمام أبا حنيفة لم يرو من السنة إلا سبعة عشر حديثاً، ومنها طعنه في الأحاديث الكثيرة المروية في المهدي، وزعمه أن ذلك من خرافات الرافضة ، ومنها تخطئته للحسين بن علي، ومدحه ليزيد بن معاوية، وتفنيده لخلافة علي بكلام معسول بزعمه أن بني أمية هم أهل العصبية في قريش، وغير هذه كثير تدل المطلع الممارس على أنه رحمه الله مزجى البضاعة في الرواية والدراية معاً، ويدل لذلك أيضاً عدم لحوقه في جريه في مضمار الطريقة العلمية لأقرانه المشاركين له في المشايخ كالعلامتين الشريف أبي عبدالله ، وأبي عثمان العقباني ، والحافظ المقري الكبير بتلمسان ، والقباب بفاس، والشيخ ابن عرفة بتونس، وقد مالت نفسه إلى خدمة الملوك، فتولى رياسة قلم الإنشاء عند بني مرين وغيرهم من أمراء المغرب، وتنقل في ذلك بينهم ومدحهم، ومع ذلك لم تصف له الحياة، فرحل إلى غرناطة بالأندلس فوجدها مشحونة بجلة العلماء مثل شيخ الشيوخ أبي سعيد بن لب، والعلامة أبي إسحاق الشاطبي، ولم يكن له في صنعة الإنشاء بها نصيب مع وزيرها لسان الدين بن الخطيب، فرجع إلى مسقط رأسه مدينة تونس فلم يقر قراره فيها أيضاً، وبعد برهة نزح عنها إلى مصر القاهرة فاتخذها وطناً ونفق سوقه بها، فولى بها قضاء المالكية وبعض وظائف التدريس إلى أن توفي بها رحمه الله.
بطلان كلام ابن خلدون من عدة أوجه:
وكلام ابن خلدون هذا باطل من عشرة أوجه:
الأول : مذهب مالك شيء واحد ؛ عبارة عن كلية مسائل تلقاها عنه العراقيون والمصريون والمغاربة والأندلسيون مشاعاً بينهم ، فيلزم في كلامه التناقض، وهو أن يقال مذهب مالك لم يأخذه تنقيح الحضارة وتهذيبها، ونقحته الحضارة وهذبته لأن ما رواه المغاربة والأندلسيون لم يأخذه تنقيح الحضارة وتهذيبها، وما رواه العراقيون وغيرهم نقحته الحضارة وهذبته، والمفروض أن المذهب مجموع كلي مشترك بين الجميع.
الثاني : يقال مقصوده ما انفرد بروايته المغاربة والأندلسيون عن العراقيين والمصريين من المسائل هو الذي لم يأخذه تنقيح الحضارة وتهذيبها كما يظهر من كلامه ، وهو فاسد أيضاً لأنه يقال عليه بعض مذهب مالك لم يأخذه تنقيح الحضارة وتهذيبها، ويلزم عليه حينئذ دعوى صعبة المرتقى ، وهي تمييز البعض الذي انفرد به المذكورون مسألة عن البعض الذي هذبته ونقحته حضارة المشارقة كذلك، وهو رحمه الله لم يكن فقيهاً في مذهب مالك فضلاً عن كونه حافظاً لأقوال مذهبه كلها، فضلاً عن إمكانه التمييز بين ما رواه هؤلاء وهؤلاء من الأقوال، فصعوده إلى قمة (افريست) أقرب إليه من هذا، فتحقق أن هذا الكلام من مجازفات كتاب الإنشاء، وهم والشعراء يتوسعون في قذف الكلام بدون مبالاة كما لا يخفى.
الثالث : يبطله أيضاً محور مذهب مالك ؛ فإنه يدور على كبار أصحابه المصريين ابن وهب وابن القاسم وأشهب وابن عبدالحكم وحضارة مصر بيت العلم فيها على يد هؤلاء وتلامذتهم طبقة بعد طبقة وغيرهم، وارتحال أهل العلم من العراق والمشرق والمغرب والأندلس للأخذ عنهم مما سارت به الركبان، وقد ضبط في بطون المجلدات، وأما ازدهار الحضارة المزعومة في مصر في عصر الطولونيين والاخشديين والفاطميين ومزاحمتها لبغداد فيها، وتفوقها عليها في عهد الأيوبيين والمماليك البحرية والجراكسة وهلم جرا إلى اليوم فلا يحتاج إلى دليل.
أصبح الملك بعـــد آل علي
مشرقا بالملوك من آل شـادي
وغداً الشرق يحسد الغرب للقوم
ومصر تزهو على بغـــداد
الرابع : نتيجة هذا الكلام حتماً تجهيل ساداتنا علماء الصحابة رضي الله عنهم، فإنهم كانوا أبعد الناس عن الحضارة المزعومة، وهم قادة الأمة وسادتها في كل علم وخلق ، وقريب من كلام ابن خلدون هذا في سوء تعبيره وقلة أدبه مع سادة السلف وعلمائه قول القائل عصريه في حق الصحابة رضي الله عنهم : إنهم ليسوا ممن يفهم دقائق علم الهيئة بسهولة ! وقد أنكر حضرته في رسالته إحقاق الحق على إمام الحرمين (في مغيث الخلق) كلاماً في حق الصحابة يقرب من كلام ابن خلدون هذا أشد الإنكار، فما باله أحله هنا بكلام ابن خلدون ؟! قال في صفحة 9 من رسالته إحقاق الحق معلقاً على كلام إمام الحرمين (وقال في صفحة 15) (أصول الصحابة لم تكن كافية لعامة الوقائع) ولذا كان المستفتى في عصر الصحابة مخيراً في الأخذ يقول الصديق في مسألة وبقول الفاروق في أخرى بخلاف عهد الأئمة فإن أصولهم كافية) أقول: هذه الفلتة مستغنية عن الإفاضة في التعليق لأن معنى عدم كفاية أصول الصحابة رضي الله عنهم أنه ليس عندهم ما يبنون عليه جواب المسائل، فيستلزم هذا عدم جواز أن يفتوا لا تخيير المستفتى في الأخذ عمن شاء منهم، لأن القول بعدم كفاية أصولهم تجهيل لهم وسوء أدب نحوهم، وقلة معرفة بأحوالهم، وإلى الله نبرأ من ذلك كله اهـ كلام حضرته، وقد وقع فيما تبرأ منه باستسمانه لكلام ابن خلدون مع أنه على أقل تقدير صريح في تحقير وتجهيل أمة عظيمة من علماء المغرب والأندلس، وليس له ولا لغيره أن يقول كلامه خاص بمالكية المغرب والأندلس، فلا يتناول الصحابة وغيرهم. نقول: هو كذلك لفظاً ولكنه عام معنى فيشملهم كما هو ظاهر للمتأمل فيه.
الخامس : العلوم منح إلهية والإنسان ميزه الله على سائر الحيوان بالعقل، فالذكاء والبلادة متساويان في فطرة حضر أو بادية، وقد قال أمير المؤمنين حيدرة رضي الله عنه كما في الصحيح لما سئل : هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء ؟ فقال : ما خصنا بشيء دون الناس إلا ما في هذه الصحيفة أو فهما أوتيه رجل، وهو هو رضي الله عنه باب مدينة العلم من أشد الصحابة تقشفاً وزهداً في الدنيا وخشونة؛ فهو على نظرية ابن خلدون من أعرق الناس في البداوة، بل هذا ابن مسعود رضي الله عنه جراب العلم الذي هو دعائم مذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه أعرق علماء الصحابة في البداوة لأنه من هذيل وهم بادية مكة أمضى شطراً من عمره في رعاية الغنم ثم أسلم وهو كبير ، فمكث مع الرسول عليه الصلاة والسلام تلك المدة الوجيزة يتغذى بمعارف المدرسة الإلهية، فأصبح أحد الأساطين الذين رفعوا قبة الإسلام العظيمة على المعمورة.