قال القرطبي: (المُفْهم) عند شرحه لقول عائشة رضي الله عنها في حديث الإفك: (ولَشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم الله عز وجل فيَّ بأمر يتلى، ولكني كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله بها)...
قال: (في هذا دليلٌ على أن الذي يتعيَّنُ على أهل الفضل والعلم والعبادة والمنزلة احتقارُ أنفُسِهم، وتركُ الالتفات إلى أعمالهم وأحوالهم، وتجريدُ النظر إلى لطفِ الله ومِنَّتِه، وعفوِه ورحمته، وكرمه ومغفرتِه.
وقد اغترّ كثيرٌ من الجهّال بالأعمال فلاحظوا أنفسَهم بعين استحقاق الكرامات، وإجابةِ الدعوات، وزعموا أنهم ممن يُتبَرَّكُ بلقائهم، ويغتنَمُ صالحُ دعائهم، وأنهم يجب احترامُهم وتعظيمُهم، فيُتمَسَّحُ بأثوابهم، وتُقَبَّلُ أيديهم، ويَرَوْنَ أن لهم من المكانة عند الله بحيث ينتقم لهم ممن تنقَّصَهم في الحال، وأن يأخذ مَن أساء الأدبَ عليهم من غير إمهال! وهذه كلُّها نتائجُ الجهلِ العميم، والعقلِ غيرِ المستقيم، فإن ذلك إنما يصدر من جاهلٍ مُعْجَبٍ بنفْسِه، غافِلٍ عن جُرْمه وذنْبِه، مغترٍّ بإمهال الله عز وجل له عن أخْذِه. ولقد غلب أمثالُ هؤلاء الأنذالِ في هذه الأزمان فاستتبعوا العوام، وعظُمَتْ بسببهم على أهل الدِّين المصائبُ والطَّوام. فإنا لله وإنا إليه راجعون. وهذه نَفَثات مَصْدُور، وإلى الله عاقبة الأمور).