الأسرة المسلمة والتحديات المعاصرة
للأسرة في كل الأمم شأن عظيم فهي أساس المجتمع الإنساني لا تدانيها في أهميتها ومكانتها ودورها أي مكون آخر من مكونات هذا المجتمع سيظل المجتمع بخير ما دامت الأسرة على الفطرة مُحصَّنة من كل ما يقوض دعائمها ويفسد أساسها دور الدعاةِ والمصلحين في حفظ هوية المجتمع ورعاية جذوره العقدية والاجتماعية لن يتحقق ذلك إلا بمزيد من الحيوية وتجديد آلياتنا الدعوية والتربوية لتكون أكثر نضجًا وعمقًا لا حياة للأسرة إلا في كنف محضنها الشرعي ومرتكزها القيمي الذي يراد أن تُفصل عنه ويُفك ارتباطها به وتُنتزع منها هذه الهوية للأسرة في كل الأمم شأن عظيم، فهي أساس المجتمع الإنساني، لا تدانيها في أهميتها ومكانتها ودورها أي مكون آخر من مكونات هذا المجتمع، ولذلك أحاطتها الشريعة الإسلامية بالتعاليم السامية، فقد اعتنت ببناء هذه المنظومة من خلال إرساء مبادئها العامة، واحتوت كل تفاصيلها بالأحكام الجزئية، وكان للسنة النبوية دور ظاهر في هذه العناية، وإبراز مقاصدها وغاياتها النبيلة في كثير من تشريعاتها، وسيظل المجتمع بخير ما دامت الأسرة على الفطرة محصنة من كل ما يقوض دعائمها ويفسد أساسها، ومن باب الحكمة، أن تنال الأسرة عناية خاصة ومستمرة للحفاظ على كيانها وصيانتها من كل ما قد يؤذيها، ولذلك فهي تحتاج إلى إحكام وتحصين، ومناعة تصد بها التحديات الوافدة التي تحاول تفكيكها والقضاء عليها
وقبل أن نتحدث عن التحديات الداخلية والخارجية التي تهدد كيان الأسرة المسلمة لابد من التعريف بمفهوم الأسرة التي نريد، وبعد ذلك نرصد أهم تلك التحديات، ثم تقديم بعض التوجيهات التي نراها تسهم إسهاما كبيرا في تحصين الأسرة وضمان استمراريتها لأداء المهام المنوطة بها أولا مفهوم الأسرة المسلمة وأهدافها
للأسرة في الإسلام شخصية إيمانية تتصل بقيمه، وتسترشد بأحكامه، وقد جعل الله منطلق تأسيس هذه النواة المجتمعية رابطة الزوجية التي جعلها طريقا واضحا لتكثير النوع الإنساني، قال تعالى وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى سورة النجم، الآية ، وقال سبحانه فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى سورة القيامة، الآية وقال أيضا هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا سورة الأعراف، الآية فلا حياة لهذه الأسرة إلا في كنف محضنها الشرعي، ومرتكزها القيمي الذي يراد أن تُفصل عنه، ويُفك ارتباطها به، وتُنتزع منها هذه الهوية، ومنها تلك المساعي الحثيثة لإعادة صياغة تعريف للأسرة بما يفتح الباب للزواج المثلي، والشذوذ الجنسي، والانحلال الأخلاقي، والخروج عن الفطرة السوية عبر زواج رجل برجل، أو امرأة بامرأة ولذلك لابد من أن نعود إلى التذكير بمفهوم الأسرة المسلمة وأهدافها، التي تعد النواة الصلبة للمجتمع، والحصن الحصين الذي يضمن تماسكه واستقرار نسيجه الاجتماعي والثقافي واستمرارية وجوده؛ إذ إن ضياع الأسرة مؤذن بخراب المجتمع أهداف تكوين الأسرة يمكن إجمال هذه الأهداف في ثلاث نقاط رئيسية الهدف الاجتماعي الذي يتحقق به تماسُك المجتمع وترابطه، وتوثيق عُرى الأُخوَّة بين أفراده وجماعاته وشعوبه، بالمصاهرة والنَّسَب، قال تعالى وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا الفرقان الهدف الخلقي عد الإسلام بناء الأسرة وسيلة فعَّالة لحماية أفرادها شيبًا وشبابًا، ذكورًا وإناثًا من الفساد، ووقاية المجتمع من الفوضى، ومِن ثَم فإن تحقيق هذا الهدف يكون بالإقبال على بناء الأسرة؛ لأن عدم ذلك يحصل به ضرر على النفس باحتمال الانحراف عن طريق الفضيلة والطهر، كما يؤدي إلى ضرر المجتمع بانتشار الفاحشة وذيوع المنكرات، وتَفَشِّي الأمراض الخبيثة الهدف الإيماني إن بناء الأسرة خير وسيلة لتهذيب النفوس وتنمية الفضائل التي تؤدي إلى قيام الحياة على التعاطف والتراحم والإيثار؛ حيث يتعوَّد أفرادها على تحمُّل المسؤوليات، والتعاون في أداء الواجبات إقامة شرع الله وتحقيق مرضاته
ومن خلال تحقيق هذه الأهداف الكبرى، يمكن أن تحقق هناك أهداف أخرى في ظلال الأسرة، مثل إقامة شرع الله، وتحقيق مرضاته؛ لأن البيت المسلم ينبني على تحقيق العبودية لله تعالى، ولذلك ورد تعليل إباحة الطلاق حين تطلبه المرأة بالخوف من عدم إقامة حدود الله، قال تعالى فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ البقرة حفظ النوع الإنساني
كما أن الأسرة تحقق حفظ النوع الإنساني بإنجاب النسل، ثم تتحمل المسؤولية بتربيتهم وتوجيههم، بما يُسهم في بناء شخصيتهم السوية؛ لأن الإسلام جعل الأسرة هي المحضن الطبيعي الذي يقوم على رعاية الطفل، وعدَّ كل انحراف يصيب الناشئة مصدره الأول الأبوان؛ لأنه يولد صافي السريرة، سليم الفطرة، قال عليه الصلاة والسلام ما من مولود إلا يُولد على الفطرة، فأبواه يُهوِّدانه أو يُنصِّرانه أو يُمجِّسانه، كما تُنتج البهيمةُ بهيمةً جمعاءَ، هل تحسون فيها من جدعاء؟ ثانيا التحديات التي تواجه الأسرة المسلمة هناك نوعان من التحديات التي تواجه الأسرة المسلمة أ تحديات داخلية ضعف القدوة أو انعدامها واستبدالها بقدوات مزيفة وبئيسة الخلافات الزوجية، التي منشؤها أساسًا تشوه في الفهم السليم لمفهوم المودة والرحمة والسكن والقوامة وغيرها من القيم الموجهة للحياة الزوجية والأسرية تعدد المتدخلين واختلافهم الذي قد يصل إلى حد التناقض تغير المهام والأدوار التي قد تصل إلى حد المسخ؛ بحيث نجد أن الزوجة تقوم بمهام الزوج، وهو يتحول بحكم الضغط المعيشي والضرورة المزعومة إلى القيام ببعض أدوارها التي لا يمكن أن يقوم بها غيرها الخلل في ترتيب المطالب والأولويات؛ بحيث تتحول الكماليات والتحسينيات إلى ضروريات، وبما أن الدخل قد لا يكفي تبدأ عملية التداين والاقتراض غير الضروري، ونحن نعلم جيدا أن الدين أرق وعذاب نفسي بالليل ومذلة بالنهار ب تحديات خارجية الإعلام الموجه، ومحتويات مواقع التواصل الاجتماعي التي أصبحت توجه الحياة عموما والحياة الأسرية خصوصا نحو النمط الاستهلاكي والاستلاب الفكري والحضاري التغيرات المجتمعية، بحكم مستجدات الحياة في سياق التطور التكنولوجي والتقارب الكوني، والتدافع الثقافي الذي قد يصل إلى مرحلة الذوبان عند بعضهم، ولا سيما على مستوى الانتقال من سكن العائلة الممتدة، إلى سكن الأسرة الزوج والزوجة والأبناء ما داموا صغارا المتحكمات الثقافية والحضارية المخالفة، ودورها في عملية التفكيك والمسخ الذي طال العلاقات الأسرية وأقرت نماذج غريبة عن أصولنا الثقافية وجذورنا الحضارية، وهذا ما يمكن أن نصلح عليه بالتنميط الثقافي والحضاري، وما نلمسه في حياتنا اليومية اللباس، والأكل، والقراءة، وكذا في المناسبات الدينية والاجتماعية التي اندثرت فيها مجموعة من القيم النبيلة تحديات أخرى اجتماعية وثقافية
في كلا مسارَيْ هذه التحديات تتفرع تحديات أخرى اجتماعية وثقافية واقتصادية وسياسية كثيرة، ومن ذلك انحسار دور الأسرة التربوي والاجتماعي في كثير من المجتمعات، في الوقت الذي توسع فيه تأثير الفضائيات والانترنت ونحوها من وسائل الإعلام والاتصال، وأصبحت كثير من الأسر تتخلى، إن لم تكن قد تخلت، عن مسؤوليتها التربوية، المنوطة بها شرعًا وعقلاً، وأخذت تعتني ببعض الشكليات المادية والاستهلاكية؛ بحيث تحولت البيوت إلى فضاءات للأكل والشرب والنوم بدل أن تكون محاضن للتربية بمختلف تجلياتها ثالثًا إعادة التوازن التربوي
من خلال ما سبق وبعد معرفة هذه التحديات التي تواجه الأسرة المسلمة، فإنه من الواجب الحتمي أن يستنفر المصلحون والمهتمون بواقع الأسرة المسلمة، إلى إعادة التوازن التربوي لها، وترسيخ دورها الاجتماعي والتربوي، وأن يجعلوا ذلك من أولى الأولويات التي تسهم في تماسك المجتمع ورقيه، وهذه المهمة التربوية ينبغي أن تأتلف عليها مؤسسات المجتمع، وفي مقدمتها المؤسسات التعليمية، التربوية والاجتماعية والإعلامية، كما أن المسجد والفضاءات الدعوية والتربوية المتعددة هي المحضن العظيم الذي يبني الإطار العلمي، ويرسم السبيل القويم لتربية المجتمع وتوجهه نحو العمل الجاد والبناء الصالح، دون إغفال دور كل مؤسسات التربية والتنشئة وعلى رأسها المدرسة والإعلام وجماعات الأقران الاعتراف بوجود مشكلات مزمنة ولابد أن نعترف بوجود مشكلات مزمنة في المجتمع، نلمس آثارها في ارتفاع نسب الطلاق والاعتداء على الزوجات، وعضل النساء، والعنف ضد الأطفال، وجنوح الأحداث، والانحراف الأخلاقي وغير ذلك، لأن إدراك حجم هذه المشكلات يجعل لدينا رؤية واضحة لمواجهتها، كما أن إدراكنا لهذه المشكلات يجب ألا ينسينا الخير الكثير الذي ينتشر في المجتمع، ومهمةُ أهل العلم والتربية والتعليم، قراءةُ هذا الواقع بمنهج علمي رصين، مع التحلي بالموضوعية والإنصاف دون تهويل أو تهوين، ثم الإسهام والانخراط في بناء الخطط القمينة بحفظ كيان المجتمع والدفع به قدمًا نحو التنمية والتقدم والبناء والانطلاق نحو مستقبل أفضل اجترار الشكوى وجلد الذات
ولابد أن نعلم أنَّ اجترار الشكوى والاستمرار في جلد الذات والإكثار من التوصيف دون خطوات عملية للخروج من هذا الواقع، لن يغير منه شيئًا، كما أن التغاضي عن المشكلات سيجعلها تتجذر وتنمو في المجتمع؛ لذا ينبغي السعي لبلورة الخطط والإسهام في تقوية المؤسسات الاجتماعية المتخصصة التي تتصدى لمشكلات الأسرة بوعي وعلم، كما ينبغي أن تتكاتف الجهود الرسمية والشعبية لتحقيق ذلك، ولعل الفرصة سانحة اليوم أكثر من أي وقت مضى من خلال الأدوار الإصلاحية التي أنيطت بجمعيات وهيئات المجتمع المدني بموجب الدستور الجديد نحن المسلمين أَوْلى من غيرنا في عنصر المبادرة لاستنقاذ الأسرة وحماية كيانها الاجتماعي، ولا يجوز شرعًا ولا عقلاً أن نتهاون في ذلك، أفرادًا وجمعيات وجماعات ومؤسسات، حتى لا نقدم للمنظمات الدولية ذريعة للتدخل في شؤوننا الخاصة، ونَقْضِ سيادتنا السياسية والاجتماعية، والكون لا يؤمن بالفراغ الاستفادة من خبرات الآخرين
ومن المهم أن نستفيد من خبرات الآخرين في المنظمات الدولية خاصة، لكن مع استحضار خصوصيتنا العقدية والثقافية، في إطار الاعتزاز بالذات والانفتاح على مكتسبات الحضارة الإنسانية، من باب الحكمة ضالة المؤمن، أنى وجدها فهو أحق بها، فديننا الحنيف يأمرنا بالعدل والرحمة، وينهانا عن الظلم والاعتداء، لكن مصطلحات المساواة والحرية الفردية والعنف الأسري وغيرها تأخذ أبعادًا مختلفة تمامًا عند بعض المنظمات الأممية، وفي مواثيقها الدولية، ومن المفيد جدا أن نعي أبعاد الواقع الدولي حتى نتعامل معه ببصيرة وحسن فهم، فهو كما أنه ليس خيرا كله فهو ليس شرا كله دور الدعاةِ والمصلحين وها هنا يأتي دور الدعاةِ والمصلحين في حفظ هوية المجتمع، ورعاية ثقافته وجذوره العقدية والاجتماعية، ولن يتحقق ذلك إلا بمزيد من الحيوية والتفاعل مع قضايا المجتمع، وتجديد آلياتنا الدعوية والتربوية، لتكون أكثر نضجاً وعمقاً
اعداد: اللجنة العلمية في الفرقان