حقوق الإنسان في الشريعة الإسلامية (6)
أســس حقــوق الإنســان في الإسلام
لقد كان الإسلام سباقًا إلى تقرير حقوق الإنسان، وشرع تشريعات تعلي من قيمة الإنسان وحقوقه المتمثلة في المساواة والحرية والعدل؛ لذلك نستعرض في هذه السلسلة حقوق الإنسان التي أقرتها الشريعة الإسلامية، وسبقت بها الأمم كافة، وكنا قد تكلمنا في المقال السابق عن أبرز ضمانات حقوق الإنسان في الفقه الإسلامي، واليوم نتكلم عن خصائص حقوق الإنسان في الفقه الإسلامي ومميزاته.
وتقوم حقوق الإنسان في الإسلام على أربعة أسس نذكرها فيما يلي:
الأساس الأول: وحدانية الله -تعالى
إن الإيمان بالله -سبحانه وتعالى- هو الأصل الأول من أصول الإيمان، بل هو الأصل الأصيل الذي من أجله خلق الله السماوات والأرض، وخلق الجنة والنار، ونصب الميزان وضرب الصراط، وخلق لذلك كل الناس كما قال -سبحانه-: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات: ٥٦)، كما أنها هي القاعدة التي تقوم عليها المسؤولية الفردية وهو أصل كل القيم والعلاقات الإنسانية. إن الإيمان بذلك المفهوم للأخلاقيات -باعتبارهما منبثقة من مصدر إلهي وسوف تلقي جزاءها ثواباً وعقاباً يَرْسَخُ- مفهوم هذه الأخلاقيات.
الله -تعالى- مصدر كل السلطات
والحق-سبحانه- وتعالى- مصدر كل السلطات، والكون كله خلقاً وتدبيراً يشهد بوحدانية الله، فالناس كلهم وجدوا من خالق واحد هو الله –سبحانه وتعالى-، فمبدؤهم منه خلقاً، ونهايتهم إليه بعثاً وحساباً، قال -تعالى-: {اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (الروم: ١١)، وقال كذلك: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (الأعراف: ٥٤)، وعلى هذا فإن مصدر التشريع ابتداء من الله -تعالى-، ويستطيع الإنسان أن يضع القوانين بشرط أن يكون موافقاً مع أصول التشريع الإسلامي الرباني ومصادره ، قال -تعالى-: {مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (يوسف: ٤٠).
بهذا المفهوم يكون إثراء الحقوق في الإسلام، ولتكون مستوعبة لكل ما يجدُّ حول هذه الحقوق، فوحدانية الله-سبحانه وتعالى- هي أساس التفكير الإسلامي؛ لأن التوحيد عظيم الفائدة للبشرية جمعاء؛ فهو يجمع البشر حول عقيدة واحدة، وفي هذا جمع لشمل البشرية جمعاء، والمحافظة على كرامتهم؛ وبذلك يتحرر الفكر الإنساني من الخضوع لغير الله.
الأساس الثاني: الوحدة الإنسانية
البشر جميعاً ينحدرون من أصل، واحد كما دل على ذلك الكتاب والسنة، ومن يستعرض آيات القرآن الكريم في ذلك الصدد يجد أن الناس في الأصل أمة واحدة، خُلِقُوا من نفس واحدة هو التراب قال -تعالى-: لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا} (نوح: ١٧)، فمنها نشؤوا وانتشروا في أرجائها، وحينما اختلف الناس عبر التاريخ البشري أرسل الله إلى كل أمة رسولاً، يدلهم على طريق الله المستقيم، قال -تعالى-: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ } (النحل:٣٦ ).
وقد قرر الإسلام أن الناس كلهم ولدوا من أب واحد هو آدم -عليه السلام- وأمهم حواء -عليها السلام-، قال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (النساء:١)، وقال -تعالى-: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} (الأعراف: ١٨٩)، وقال -تعالى-: {خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِّن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} (الزمر: ٦)، وفي السنة، قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله -عزوجل- قد أذهب عنكم عبية الجاهلية، وفخرها بالآباء، مؤمن تقي، وفاجر شقي، والناس بنو آدم، وآدم من تراب».
الناس في الأصل أمة واحدة
فالأدلة السابقة تدل على أن الناس في الأصل أمة واحدة، أبوهم واحد وهو آدم -عليه السلام-، وأمهم واحدة وهي زوج آدم حواء -عليها السلام-، وكل البشر خُلِقُوا من ذكر وأنثى ليتعارفوا فيما بينهم، قال -تعالى-:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} ( الحجرات: ١٣)، وفي دين الإسلام، كلنا في الإنسانية متساوون، لا فضل لعربي على عجمي، ولا لأسود على أبيض، إلا بالتقوى، هذا ما قاله الرسول - صلى الله عليه وسلم - في خطبة الوداع : «يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد وإن أباكم واحد، لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى».
وهذه المساواة في القيمة الإنسانية المشتركة التي تعتمد على الأصل الواحد، والنسب الواحد لا يتصور في أحد من بني الإنسان أن يولد مميزاً على غيره، كما يقضي على أسباب التعصب والتعالي على الآخر، ومن خلال هذه الرؤية يُنتقص من حقوق الآخرين، وهكذا تنشأ الكراهية، والصراعات بين الناس، وتنحدر الإنسانية من المستوى الرفيع الذي أراده الله -تعالى- لها إلى شريعة الغاب.
الأساس الثالث: الدعوة إلى مكارم الأخلاق
مَن تأمَّلَ آيات القرآن، وأَمعَن فيها النظر، ظهر له أمور ومجالات مِن دعوة القرآن، فمِن ذلك: دعوة القرآن إلى مكارم الأخلاق ومعاليها، ووجوب التحلِّي بها، ونهيه للمخالفين للفضائل وأصولها، وما ذلك إلا لكون الأخلاق ميزانًا شرعيًّا يُهَذِّب الإنسان، ويرقى به إلى مدارج الإنسانيَّة الفاضلة، فالدعوة إلى مكارم الأخلاق في الإسلام دعوة أصيلة في عقيدة التوحيد، بل إنها نابعة من تلك العقيدة، فعدم الاستجابة لدعوة التوحيد يعني التولي عن مكارم الأخلاق والإفساد في الأرض، قال -تعالى-: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} (محمد: ٢٢).
مكارم الأخلاق هي دعوة النبيين
ومكارم الأخلاق هي دعوة النبيين أجمعين، وكل نبي ساهم في بناء هذا الصرح الأخلاقي الشامخ، ولذلك حق للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن يقول «بُعِثتُ لأُتَمِّمَ صالِحَ الأخْلاقِ»، وتتعدى مكارم الأخلاق لبني الإنسان لتشمل غير البشر من الكائنات الحية يقول - صلى الله عليه وسلم -: «فِي كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ» ، هذا هو معنى الإحسان الذي جاء به الإسلام، والدعوة إلى مكارم الأخلاق توجد مجتمعاً فاضلاً منظماً يحكم بقواعد إسلامية منضبطة نابعة من أصل هذا الدين القيم، وهذه القواعد تبدو في الأسرة وفي الجماعات، وفي الدول، وفي العلاقات الإنسانية بين الناس مهما اختلفت ألوانهم وأجناسهم وأديانهم.
المحافظة على كرامة الإنسان
وتتلخص هذه القواعد في المحافظة على كرامة الإنسان والعدالة والتعاون العام والمودة والرحمة والإنسانية والمصلحة ودفع الفساد في الأرض، ومكارم الأخلاق وما ينبثق عنها من سلوكيات ترتبط بالحقوق، يجعلها ديننا الحنيف ميثاقاً مع الله -سبحانه وتعالى- يجب الوفاء بها، ولا يجوز انتهاكها بأي حال من الأحوال تحت أي ظرف مهما كانت الذرائع.
وقد امتدح الله -تعالى- رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم - بحسن الخلق فقال -تعالى-: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (القلم:4)، وعندما سئلت السيدة عائشة - رضي الله عنها- عن خلقه - صلى الله عليه وسلم - قالت: «كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ» فكان - صلى الله عليه وسلم - مطبقاً للقرآن في واقع الحياة، وهو بذلك كان أحسن الناس خلقاً؛ لأنه أكملهم إيماناً، وهو القائل عندما سئل من قبل الأعرابي أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟ قَالَ:» أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا».
والإيمان هو أقوى محرك للأخلاق الكريمة والسلوك الصحيح القويم؛ فالرحمة، والمودة، والمروءة، والنجدة، والصدق، والعفة والتسامح، والتكافل، والوفاء، والتواضع، والصبر كل ذلك عنوان على صدق الإيمان في النفس الإنسانية، ودون صدق الإيمان تصبح الأخلاق لفظاً لا مفهوم له.
الأساس الرابع: الإنسان في هذا الدين مكرم أعظم تكريم
إن أبرز شيء في هذا الدين العظيم أنه إنساني الطابع، وأن الإنسان في هذا الدين مكرم أعظم تكريم، فالإنسان في نظر الإسلام مخلوق متميز، مكرم ميزه الله وكرمه، وفضله على كثير من خلقه، قال -تعالى-: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُم ْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} (الإسراء: ٧٠) والتكريم الإلهي للإنسان، سبق ذكر بعضها، فالشريعة الإسلامية لا تقرر للفرد المسلم حقوقا أكثر من غيره بمقتضى إنسانيته، بل لأمر آخر لإسلامه أو إيمانه أو تقواه، قال -تعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات: ١٣).
محمد مالك درامي