قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله فى شرح العقيدة الواسطية
((ومِنَ الإِيمانِ باللهِ : الإِيمانُ بِمَا وَصَفَ بهِ نَفْسَهُ في كِتابِهِ العَزيزِ، وبِمَا وَصَفَهُ بهِ رَسُولُهُ محمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنْ غَيْرِ تَحْريفٍ ولا تَعْطيلٍ، ومِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ ولا تَمْثيلٍ)).
فِي هذِهِ الجملةِ مباحثُ:
المبحثُ الأوَّلُ: أنَّ مِن الإيمانِ باللَّهِ الإيمانَ بمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ
ووجهُ ذلِكَ أنَّ الإيمانَ باللَّهِ –كَمَا سَبَقَ- يتضمنُ الإيمانَ بأسمائِهِ وصفاتِهِ، فإنَّ ذاتَ اللَّهِ تُسمَّى بأسماءٍ وتُوصفُ بأوصافٍ، ووجودُ ذاتٍ مجرَّدةٍ عن الأوصافِ أمرٌ مستحيلٌ، فلاَ يُمكنُ أنْ تُوَجدَ ذاتٌ مجرَّدةً عن الأوصافِ أبداً، وقدْ يَفرِضُ الذِّهْنُ أنَّ هَنَاكَ ذاتًا مجرَّدةً مِن الصِّفاتِ، لكنَّ الفَرْضَ ليْسَ كالأمرِ الواقعِ، أي: أنَّ المفروضَ ليس كالمشهودِ، فلاَ يوجدُ فِي الخارجِ –أيْ: فِي الواقعِ المشاهَدِ- ذاتٌ ليْسَ لَهُا صفاتٌ أبداً.
فالذِّهنُ قدْ يَفْرضُ مثلاً شيئًا لَهُ أَلْفُ عينٍ، فِي كُلِّ ألفِ عَيْنٍ ألفُ سوادٍ وألفُ بياضٍ، ولَهُ ألفُ رِجلٍ، فِي كل رِجلٍ ألفُ أُصبَعٍ، فِي كُلِّ أُصبعٍ ألفُ ظُفْرٍ، ولَهُ ملايينُ الشَّعْرِ، فِي كُلِّ شعرةٍ ملايينُ الشَّعرِ… وهكذا! يفرضُهُ وإنْ لَمْ يكنْ لَهُ واقعٌ، لكنَّ الشَّيءَ الواقِعَ لاَ يمكنُ أنْ يُوجِدَ شيئًا بدونِ صفةٍ.
لِهَذَا، كَانَ الإيمانُ بصفاتِ اللَّهِ مِن الإيمانِ باللَّهِ، لو لَمْ يكنْ مِنْ صفاتِ اللَّهِ إلاَّ أَنَّهُ موجودٌ واجبُ الوجودِ، وَهَذَا باتِّفاقِ الناسِ، وعَلَى هَذَا، فلاَ بدَّ أنْ يكونَ لَهُ صفةٌ.
المبحثُ الثَّاني: أنَّ صِفاتِ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ - مِن الأُمورِ الغَيْبيَّةِ، والواجبُ عَلَى الإنسانِ نحوَ الأمورِ الغيبيَّةِ: أنْ يؤمنَ بها عَلَى مَا جاءتْ، دونَ أنْ يرجعَ إِلَى شيءٍ سوَى النُّصوصِ.
قَالَ الإمامُ أحمدُ: لاَ يُوصفُ اللَّهُ إلاَّ بمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَه، أوْ وَصَفَهُ بِهِ رسولُه، لاَ يُتَجاوَزُ القرآنُ والحديثُ.
يعني أنَّنا لاَ نَصِفُ اللَّهَ إِلاَّ بمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَه فِي كتابِهِ، أوْ عَلَى لسانِ رسولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ويدلُّ لذلِكَ القرآنُ والعقلُ:
ففِي القرآنِ: يقولُ اللَّهُ - عزَّ وجلَّ -: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّىَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَالإِثُمَّ وَالْبَغْىَ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِلْ بِهِ سُلْطَناً، وَأَن تَقوُلُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ) [الأعراف: 33]، فَإِذَا وصفتَ اللَّهَ بصفةٍ لَمْ يَصِف اللَّهُ بها نَفْسَهُ، فقدْ قُلْتَ عَلَيْهِ مَا لاَ تعلمُ، وَهَذَا محرَّمٌ بنصِ القرآنِ.
ويقولُ اللَّهُ - عزَّ وجلَّ -: (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ، إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً) [الإسراء: 36]، ولو وَصَفْنا اللَّهَ بمَا لَمْ يَصِفْ بِهِ نَفْسَهُ، لكُنَّا قَفَوْنا مَا ليس لنا بِهِ عِلمٌ، فوقعْنَا فيمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ.
وأمَّا الدَّليلُ العقليُّ، فلأنَّ صفاتِ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ - مِن الأمورِ الغيبيَّةِ، ولاَ يمكنُ فِي الأُمورِ الغَيْبيَّةِ أنْ يُدْرِكَهَا العقلُ، وحينئذٍ لاَ نَصِفُ اللَّهَ بمَا لَمْ يَصِفْ بِهِ نَفْسَه، ولاَ نُكيِّفُ صفاتِه؛ لأنَّ ذلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ.
نَحْنُ الآنَ لاَ نُدْرِكُ مَا وَصَفَ اللَّهُ بِهِ نعيمَ الجنَّةِ مِنْ حَيْثُ الحقيقةِ، مَعَ أَنَّهُ مخلوقٌ، فِي الجنَّةِ فاكهةٌ ونخلٌ، ورُمَّانٌ، وسُرَرٌ، وأكوابٌ وحورٌ، ونَحْنُ لاَ نُدركُ حقيقةَ هذِهِ الأشياءِ، ولو قِيلَ: صِفْها لنا، لاَ نستطيعُ وَصْفَها، لقولِهِ - تَعَالَى -: (فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِىَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءَ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [السجدة: 17]، ولقولِهِ - تَعَالَى - فِي الحديثِ القُدْسيِّ: ((أَعْدَدْتُ لِعَبَادِيَ الصَّالِحينَ مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ، وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ)).
فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي المخلوقِ الَّذِي وُصِفَ بصفاتٍ معلومةِ المَعْنَى ولاَ تُعْلَمُ حقيقتُها، فكَيْفَ بالخالقِ؟!
مثالٌ آخرُ: الإنسانُ فِيهِ روحٌ، لاَ يحيا إلاَّ بِها، لَوْلاَ أنَّ الرُّوحَ فِي بَدنِهِ مَا حَيِيَ، ولاَ يستطيعُ أنْ يَصِفَ الرُّوحَ، لو قِيلَ: لَهُ: مَا هذِهِ الرُّوحُ الَّتِي بكَ؟ مَا هِيَ الَّتِي لو نُزِعَتْ مِنْكَ، صرْتَ جُثَّةً، وإِذَا بَقِيَتْ فأنتَ إنسانٌ تَعقلُ وتَفهمُ وتُدْركُ؟ لجلسَ يَنظرُ ويُفكِّرُ، فلاَ يستطيعُ أنْ يَصِفَها أبداً، مَعَ أَنَّهَا قريبةٌ مِنْهُ، فِي نَفْسِه وبَيْنَ جنبيْهِ، ويَعجِزُ عنْ إدراكِها، مَعَ أَنَّهَا حقيقةٌ، يعنِي: شيءٌ يُرَى، كَمَا أخبرَ النَّبِيُّ - عليْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ - بـ((أَنَّ الرُّوح إِذَا قُبِضَ، تَبِعَهُ البَصَرُ))، فالإنسانُ يَرى نَفْسَه وهِيَ مقبوضةٌ، وَلِهَذَا تبقى العينُ مفتوحةً عندَ الموتِ تُشاهِدُ الرُّوحَ، وهِيَ قدْ خَرَجَتْ، وتُؤخذُ هذِهِ الرُّوحُ، وتُجعلُ فِي كَفنٍ، ويُصعدُ بها إِلَى اللَّهِ، ومعَ ذلِكَ مَا يستطيعُ أنْ يَصِفَها، وهِيَ بَيْنَ جنْبَيْهِ، فكَيْفَ يحاولُ أنْ يَصِفَ الرَّبَّ بأمرٍ لَمْ يَصِفْ بِهِ نَفْسَهُ!
ولاَ بدَّ إذاً من تحقُّقُ ثُبوتِ الصِّفاتِ للَّهِ.
المبحثُ الثَّالثُ: أنَّنا لاَ نَصِفُ اللَّهَ - تَعَالَى - بمَا لَمْ يَصِفْ بِهِ نَفْسَه.
ودليلُ ذلِكَ أيضاً مِن السَّمْعِ والعقلِ:
ذَكَرْنا مِن السَّمْعِ آيَتَيْنِ.
وأمَّا مِنَ العقلِ، فقلْنا: إنَّ هَذَا أمرٌ غَيْبِيٌّ، لاَ يمكنُ إدراكُهُ بالعقلِ، وضَرَبْنا لذَلِكَ مَثَلَيْنِ:
المبحثُ الرَّابعُ: وجوبُ إجراءِ النُّصوصِ الواردةِ فِي الكتابِ والسُّنَّةِ عَلَى ظاهرِها، لاَ نَتعدَّاها.
مثالُ ذلِكَ: لَمَّا وَصَفَ اللَّهُ نَفْسَه بأنَّ لَهُ عَيْناً، هَلْ نقولُ: المرادُ بالعينِ الرُّؤيةُ لاَ حقيقةُ العينِ؟ لو قُلْنا ذلِكَ، مَا وَصَفْنا اللَّهَ بمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ.
ولَمَّا وَصَفَ اللَّهُ نَفْسَهُ بأنَّ لَهُ يَديْنِ: (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ) [المائدة: 64]، لو قُلْنَا: إنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - ليْسَ لَهُ يدٌ حقيقةً، بَل المرادُ باليَدِ مَا يُسْبِغُهُ مِن النِّعَمِ عَلَى عبادِهِ، فهَل وَصَفْنا اللَّهَ بمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ؟ لا.
المبحثُ الخامسُ: عُمومُ كلامِ المؤلِّفِ يشملُ كُلَّ مَا وَصفَ اللَّهُ بِهِ نَفْسَهُ مِن الصِّفاتِ الذَّاتيَّةِ المعنويَّةِ والخبريَّةِ، والصِّفاتِ الفِعليَّةِ.
فالصِّفاتُ الذَّاتيَّةُ هِيَ الَّتِي لَمْ يَزلْ ولاَ يَزالُ متَّصِفاً بها، وهِيَ نَوعانِ: معنويَّةٌ وخبريَّةٌ:
فالمعنويَّةُ، مِثلُ: الحياةِ، والعلمِ، والقُدرةِ، والحِكمةِ… ومَا أشْبَهَ ذلِكَ، وَهَذَا عَلَى سبيلِ التَّمثيلِ لاَ الحَصْرِ.
والخبريَّةُ، مِثلُ: اليدينِ، والوجهِ، والعينينِ… ومَا أشْبَهَ ذلِكَ ممَّا سمَّاهُ، نظيرُهُ أبعاضٌ وأجزاءٌ لَنَا.
فاللَّهُ - تَعَالَى - لَمْ يَزَلْ لَهُ يَدانِ ووجهٌ وعَيْنانِ، لَمْ يَحْدُثْ لَهُ شيءٌ مِن ذلِكَ بعدَ أنْ لَمْ يَكُنْ، ولَنْ يَنفَكَّ عن شيءٍ مِنْهُ، كَمَا أنَّ اللَّهَ لَمْ يَزَلْ حيًّا ولاَ يَزالُ حيًّا، لَمْ يَزَلْ عالِماً ولاَ يَزالُ عالِماً، ولَمْ يَزلْ قادِراً ولاَ يَزالُ قادِراً…وهكذا، يَعنِي: ليسَ حياتُهُ تَتجدَّدُ، ولاَ قُدْرتُه تَتجدَّدُ، ولاَ سَمْعُه يتجدَّدُ، بلْ هُوَ موصوفٌ بهَذَا أَزَلاً وأبداً، وتجدُّدُ المسموعِ لاَ يَستلزمُ تجدُّدَ السَّمْعِ، فأَنَا مَثلاً عِنْدَمَا أَسْمعُ الأَذَانَ الآنَ، فهَذَا ليسَ مَعناهُ أنَّهُ حَدَثَ لي سَمعٌ جديدٌ عِنْدَ سَماعِ الأذانِ، بلْ هُوَ مُنذُ خَلَقَهُ اللَّهُ فيَّ، لكنَّ المسموعَ يتجدَّدُ، وَهَذَا لاَ أثرَ لَهُ فِي الصِّفةِ.
واصطَلحَ العلماءُ -رحمهُمْ اللَّهُ- عَلَى أنْ يُسمُّوها الصِّفاتِ الذَّاتِيَّةَ، قالُوا: لأنَّها ملازِمةٌ للذَّاتِ، لاَ تَنفكُّ عَنْها.
والصِّفاتُ الفِعْليةُ هِيَ الصِّفاتُ المتعلِّقةُ بمشيئتِهِ، وهِيَ نوعانِ:
صفاتٌ لَهُا سببٌ معلومٌ، مِثلُ: الرِّضَا، فاللَّهُ - عزَّ وجلَّ - إِذَا وَجَدَ سَبَبَ الرِّضَى رَضِيَ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى -: (إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِىٌّ عَنكُمْ وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ) [الزمر: 7].
وصفاتٌ لَيْسَ لَهُا سببٌ معلومٌ، مثلُ: النُّزولِ إِلَى السَّماءِ الدُّنْيَا حينَ يَبْقَى ثلثُ اللَّيلِ الآخِرِ.
ومِنَ الصِّفاتِ مَا هُوَ صفةٌ ذاتيَّةٌ وفِعليَّةٌ باعتبارَيْنِ، فالكلامُ صفةٌ فِعليَّةٌ باعتبارِ آحادِهِ، لكنْ باعتبارِ أصلِهِ صفة ذاتيَّةٌ؛ لأنَّ اللَّهَ لَمْ يَزلْ ولاَ يَزالُ متكلِّماً، لكنَّهُ يتكلَّمُ بمَا شاءَ متَى شاءَ، كَمَا سيأتِي فِي بحثِ الكلامِ إنْ شاءَ اللَّهُ - تَعَالَى -.
اصطلحَ العلماءُ -رحمَهُم اللَّهُ- أنْ يُسمُّوا هذِهِ الصِّفاتِ الصِّفاتِ الفِعليَّةَ؛ لأنهَّا مِن فِعْلِه سُبْحَانَهُ وَ- تَعَالَى -.
ولَهَا أدلَّةٌ كثيرةٌ مِن القرآنِ، مِثلُ: (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) [الفجر: 22]، (هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ المَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِىَ رَبُّكَ) [الأنعام: 158]، (رَّضِىَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ) [المائدة: 119]، (وَلَكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ) [التوبة: 46]، (أَن سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِى الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ) [المائدة: 80].
ولَيْسَ فِي إثباتهِا لِلَّهِ - تَعَالَى - نقصٌ بوجهٍ مِن الوجوهِ، بَلْ هَذَا مِنْ كَمالِهِ أنْ يكونَ فاعلاً لمَا يُريدُ.
وأُولَئِكَ القومُ المحرِّفُونَ يقولونَ: إثباتُهَا مِن النَّقصِ! وَلِهَذَا يُنكرونُ جميعَ الصِّفاتِ الفِعليَّةِ، يقولونَ: لاَ يجيءُ، ولاَ يَرْضَى، ولاَ يَسْخَطُ، ولاَ يَكْرَهُ، ولاَ يُحِبُّ… يُنكرونَ كُلَّ هذِهِ، بِدَعْوَى أنَّ هذِهِ حادِثةٌ، والحادثُ لاَ يَقومُ إِلاَّ بحادِثٍ، وَهَذَا باطلٌ؛ لأنَّهُ فِي مُقابَلةِ النَّصِّ، وَهُوَ باطلٌ بنَفْسِهِ، فإنَّه لاَ يَلزمُ مِنْ حُدوثِ الفِعلِ حدوثُ الفاعلِ.
المبحثُ السَّادسُ: أنَّ العقلَ لاَ مَدْخلَ لَهُ فِي بابِ الأسماءِ والصِّفاتِ:
لأنَّ مَدارَ إثباتِ الأسماءِ والصِّفاتِ أوْ نَفْيِهَا عَلَى السَّمعِ، فعقولُنَا لاَ تَحكُمُ عَلَى اللَّهِ أبداً، فالمدارُ إذاً عَلَى السَّمعِ، خلافاً للأشعريَّةِ والمعتزِلةِ والجهميَّةِ وغيرِهِمْ مِنْ أهلِ التَّعطيلِ، الَّذِينَ جَعلُوا المدارَ فِي إثباتِ الصِّفاتِ أوْ نفيِهَا عَلَى العقلِ، فَقَالَوا: مَا اقتضَى العقلُ إثباتَهُ أثبتْناهُ، سواءٌ أثبَتَهُ اللَّهُ لنَفْسِهِ أمْ لاَ! ومَا اقتضَى نفْيَهُ نفيْناهُ، وإِنْ أثبَتهُ اللَّهُ! ومَا لاَ يقتضِي العقلُ إثباتَهُ ولاَ نَفْيَهُ، فأكثرُهُم نَفَاهُ، وقالَ: إنَّ دلالةَ العقلِ إيجابيةٌ، فإنْ أوجبَ الصِّفةَ أثبتْناهَا، وإنْ لَمْ يُوجِبْها نفيْنَاها! ومِنْهُمْ مَن توقَّفَ فِيهِ، فلاَ يُثبِتُها؛ لأنَّ العقلَ لاَ يُثبِتُها، لكنْ لاَ يُنكرُهَا؛ لأنَّ العقلَ لاَ يَنفِيهَا، ويقولُ: نتوقَّفُ! لأنَّ دلالةَ العقلِ عِنْدَ هَذَا سلبيَّةٌ، إِذَا لَمْ يُوجِبْ، يتوقَّفُ، ولَمْ يَنْفِ!
فصارَ هؤلاءِ يحكِّمونَ العقلَ فيمَا يجبُ أوْ يمتنعُ عَلَى اللَّهِ - عزَّ وجلَّ -.
فيتفرَّعُ عَلَى هَذَا: مَا اقتضى العقلُ وَصْفَ اللَّهِ بِهِ، وُصِفَ اللَّهُ بِهِ، وإنْ لَمْ يكنْ فِي الكتابِ والسُّنَّةِ، ومَا اقتضَى العقلُ نَفْيَه عن اللَّهِ نَفَوْه، وإنْ كَانَ فِي الكتابِ والسُّنَّةِ.
وَلِهَذَا يقولونَ: لَيْسَ لِلَّهِ عينٌ، ولاَ وجهٌ، ولاَ لَهُ يدٌ، ولاَ استوى عَلَى العرشِ، ولاَ ينـزلُ إِلَى السَّماءِ الدنيا… لكنهم يحرِّفونَ، ويُسمُّونَ تحريفَهُم تأويلاً، وَلَوْ أَنْكَرُوا إنكارَ جَحْدٍ لكفروا؛ لأنَّهم كذَّبُوا، لكنَّهُمْ يُنكِرونَ إنكارَ مَا يُسمُّونَهُ تأويلاً، وهُوَ عندَنا تَحريفٌ.
والحاصِلُ أنَّ العقلَ لاَ مجالَ لَهُ فِي بابِ أسماءِ اللَّهِ وصفاتِه.
فإنْ قُلْتَ: قولُكَ هَذَا يناقضُ القرآنَ؛ لأنَّ اللَّهَ يقولُ: (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا) [المائدة: 50]، والتفضيلُ بَيْنَ شيءٍ وآخَرَ مرجعُهُ إِلَى العقلِ، وقَالَ - عزَّ وجلَّ -: (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى) [النحل: 60]، وقالَ: (أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَ يَخْلُقُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ) [النحل: 17]… وأَشباهُ ذلِكَ ممَّا يُحيلُ اللَّهُ بِهِ عَلَى العقلِ، فيمَا يُثْبِتُه لنَفْسِه ومَا يَنفِيهِ عن الآلِهَةِ المدَّعاةِ؟
فالجوابُ أنْ نَقولَ: إنَّ العقلَ يُدْرِكُ مَا يَجِبُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَ- تَعَالَى -، ويَمتنعُ عَلَيْهِ، عَلَى سبيلِ الإجمالِ، لاَ عَلَى سَبيلِ التَّفصيلِ، فمثلاً: العقلُ يُدْرِكُ بأنَّ الرَّبَّ لاَ بُدَّ أنْ يكونَ كامِلَ الصِّفاتِ، لكنْ هَذَا لاَ يَعني أنَّ العقلَ يُثبِتُ كُلَّ صفةٍ بعيْنِهَا أوْ يَنفِيهَا، لكنْ يُثبِتُ أوْ يَنفِي عَلَى سبيلِ العمومِ أنَّ الرَّبّ لاَ بدَّ أنْ يكونَ كامِلَ الصِّفاتِ، سالِماً مِن النَّقصِ.
فمثلاً: يدركُ بأنَّهُ لاَ بدَّ أن يكونَ الرَّبُّ سميعاً بصيراً، قَالَ إبراهِيَمُ لأبيهِ: (يَأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ) [مريم: 42].
ولاَ بدَّ أنْ يكونَ خالِقاً؛ لأنَّ اللَّهَ قالَ: (أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ) [النحل: 17]، (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً) [النحل: 20].
يدركُ هَذَا، ويدركُ بأنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَ- تَعَالَى - يَمتنعُ أنْ يكونَ حادِثاً بعدَ العدمِ؛ لأنَّهُ نقصٌ؛ ولقولِهِ تَعَالَى - محتجًّا عَلَى هؤلاءِ الذينَ يَعبدونَ الأصنامَ -: (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) [النحل: 20]، إذاً يَمتنعُ أنْ يكونَ الخالقُ حادِثاً بالعقل.
العقلُ أيضاً يُدْرِكُ بأنَّ كُلَّ صفةِ نقصٍ فهِيَ ممتنعةٌ عَلَى اللَّهِ؛ لأنَّ الرَّبَّ لاَ بدَّ أنْ يكونَ كاملاً، فيُدركُ بأنَّ اللَّهَ - عزَّ وجلَّ - مسلوبٌ عَنْهُ العَجزُ؛ لأنَّهُ صفةُ نَقْصٍ، إِذَا كَانَ الرَّبُّ عاجزاً وعُصِيَ، وأرادَ أنْ يُعاقبَ الَّذِي عصَاهُ وَهُوَ عاجِزٌ، فلاَ يُمكِنُ!
إذاً، العقلُ يُدركُ بأنَّ العَجْزَ لاَ يمكنُ أنْ يُوصَفَ اللَّهُ بِهِ، والعَمَى كذلِكَ، والصَّممَ كذلِكَ، والجهلَ كذلِكَ… وَهَكَذَا عَلَى سبيلِ العمومِ نُدركُ ذلِكَ، لكنْ عَلَى سبيل التَّفصيلِ… لاَ يمكنُ أنْ نُدركَهُ، فنتوقَّفَ فِيهِ عَلَى السَمْعِ...
هذِهِ ستَّةُ مباحثَ تحتَ قولِهِ: ((مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَه))، وكلُّها مباحثُ هامَّةٌ، وقدَّمْناهَا بَيْنَ يَدَيِ العقيدةِ؛ لأنَّهُ سيَنبنِي عَلَيْها مَا يأتِي إنْ شاءَ اللَّهُ تَعَالَى .