بالقرآن نحيا : سورة التغابن
إيمان الخولي
سورة مدنية بينت آثار عظمة الله وقدرته كما تحدثت عن أعظم غبن يلحق بالانسان عندما يبيع الآخرة بدنيا فانية وما هى أسباب الغبن أو الخسارة وكيفية الوقاية منها
فى السورة الدعوة إلى الإيمان بالله ورسوله والحث على العمل الصالح والاستعداد ليوم الحساب
مناسبة السورة لما قبلها : فى سورة المنافقين ذكر حال المنافقين إذ يقول تعالى :"
{إِذَا جَآءَكَ ٱلۡمُنَٰفِقُونَ قَالُواْ نَشۡهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ يَعۡلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُۥ وَٱللَّهُ يَشۡهَدُ إِنَّ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ لَكَٰذِبُونَ (1 } أما فى هذه السورة ذكر الكفار إذ يقول تعالى : {" زَعَمَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَن لَّن يُبۡعَثُواْۚ قُلۡ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتُبۡعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلۡتُمۡۚ وَذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٞ(7)}
نهى فى السورة السابقة عن الاشتغال بالأولاد عن ذكر الله، إذ يقول تعالى : {" يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُلۡهِكُمۡ أَمۡوَٰلُكُمۡ وَلَآ أَوۡلَٰدُكُمۡ عَن ذِكۡرِ ٱللَّهِۚ وَمَن يَفۡعَلۡ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡخَٰسِرُونَ " (9)}
وهنا ذكر أن الأموال والأولاد فتنة إذ يقول تعالى : {" يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّ مِنۡ أَزۡوَٰجِكُمۡ وَأَوۡلَٰدِكُمۡ عَدُوّٗا لَّكُمۡ فَٱحۡذَرُوهُمۡۚ وَإِن تَعۡفُواْ وَتَصۡفَحُواْ وَتَغۡفِرُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ (14) إِنَّمَآ أَمۡوَٰلُكُمۡ وَأَوۡلَٰدُكُمۡ فِتۡنَةٞۚ وَٱللَّهُ عِندَهُۥٓ أَجۡرٌ عَظِيمٞ "}
في السورة السابقة حث على الإنفاق في سبيل الله إذ يقول تعالى :" { وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقۡنَٰكُم مِّن قَبۡلِ أَن يَأۡتِيَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوۡلَآ أَخَّرۡتَنِيٓ إِلَىٰٓ أَجَلٖ قَرِيبٖ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ ٱلصَّٰلِحِينَ} " وفى هذه السورة أيضا حث على الانفاق أيضا إذ يقول تعالى :" {إِن تُقۡرِضُواْ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنٗا يُضَٰعِفۡهُ لَكُمۡ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡۚ وَٱللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} "
فى سورة المنافقون بين معصية المنافقين لرسول الله وتوليهم عنه { وَإِذَا قِيلَ لَهُمۡ تَعَالَوۡاْ يَسۡتَغۡفِرۡ لَكُمۡ رَسُولُ ٱللَّهِ لَوَّوۡاْ رُءُوسَهُمۡ وَرَأَيۡتَهُمۡ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسۡتَكۡبِرُون َ}
وفى هذه السورة حث على طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم «وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَۚ فَإِن تَوَلَّيۡتُمۡ فَإِنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا ٱلۡبَلَٰغُ ٱلۡمُبِينُ"»
بين يدى السورة :
قال تعالى :"
{يسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤) }
تبدأ الآيات بتنزيه الله عن كل عيب ونقص فهو وحده المتفرد بالملك وهو المتصرف فى جميع الكائنات فهو خالقها ومالكها المستحق للحمد يحمد على كل أقداره وهو القادر على كل شىء لا يعجزه شىء فى الأرض ولا فى السماء
ثم تبين الآيات دلائل قدرة الله فى الخلق فهو الذى خلق الإنسان فى أحسن تقويم وكرمه بالعقل ومنحه حرية الاختيار فإذا بالناس تنقسم قسمين صنف اختار الكفر برغم من أنه غارق فى نعم الله وصنف قادته فطرته السوية للإيمان بالله والتصديق بأنه الواحد الأحد الخالق المستحق للعبادة وهو المطلع على أعمالكم لا يخفى عليه شىء فى الأرض ولا فى السماء
يقول الطبرى : وقدم الكافر على المؤمن لكثرة الكفار وقلة المؤمنين "
وتتوالى آثار قدرته فى هذه السورة فيبين كيف خلق السموات والأرض بالعدل والحكمة البالغة لتحقق للناس النفع فى الدين والدنيا
إذ يقول تعالى :"
{خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ بِٱلۡحَقِّ وَصَوَّرَكُمۡ فَأَحۡسَنَ صُوَرَكُمۡۖ وَإِلَيۡهِ ٱلۡمَصِيرُ" }
ثم تحدثت عن خلق الإنسان فى أجمل صورة وأحسن هيئة ترى فيها تناسب الأعضاء واعتدال القامة الذى ذكره الله فى موضع أخر فى القرآن:إذ يقول تعالى :" { يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ، الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ، فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار ٨٢/ ٦- ٨] وقال عز وجل أيضا : {"لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } [التين ٩٥/ ٤]"
{وَإِلَيۡهِ ٱلۡمَصِيرُ} "أى إليه المرجع والمآل ليحاسب الناس على ما فعلوه فى الدنيا
ثم يبين دليلا جديدا من أدلة قدرته سبحانه وتعالى وهو إحاطة علمه بكل المخلوقات
إذ يقول تعالى :" { يَعۡلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَيَعۡلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعۡلِنُونَۚ وَٱللَّهُ عَلِيمُۢ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ} "
بداية من العلم الذى يشمل السموات والأرض جميعا ثم عطف بعلمه لما يخفيه الناس وما يظهرونه ثم عطف بما هو أخص الخواص وهو علمه بما يضمره كل إنسان فى صدره من النوايا وخفايا الأعمال التى لا يعلمها إلا الله لا يخفى عليه شىء فى الأرض ولا فى السماء فليحذر كل إنسان أن يسر غير ما يعلن وأن يضمر غير ما يبدى للآخرين
يقول أبو حيان فى البحر المحيط : "ونبه تعالى بعلمه بما في السموات والأرض ، ثم بعلمه بما يسر العباد وما يعلنونه ، ثم بعلمه بما أكنته الصدور على أنه تعالى لا يغيب عن علمه شيء ، لا من الكليات ولا من الجزئيات ، فابتدأ بالعلم الشامل للعالم كله ، ثم بخاص العباد من سرّهم وإعلانهم ، ثم ما خص منه ، وهو ما تنطوي عليه صدورهم من خفي الأشياء وكامنها "
وبعد أن بين أدلة قدرة الله وآثاره فى الكون التى لا يجحدها إلا معاند ومكابر حذر المشركين من عاقبة الكفر والتكذيب برسالة محمد صلى الله عليه وسلم حتى لا ينالهم ما نال الأمم السابقة إذ يقول تعالى :
{أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٥) ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٦) }
الاستفهام للفت الأنظار إلى عاقبة تكذيب الأمم السابقة لرسلها فقد تجرعوا مرارة التكذيب فى الدنيا ومرجعهم فى الآخرة إلى النار
ثم بين سبب الكفر والتكذيب بالرسل هو الاعتراض على بشريتهم فهم مستكبرون على قبول الحق من بشر مثلهم وكأنها سنه فى إرسال الرسل أن تكون نفس الحجة التى يرفضوا بها الحق برغم مما رأوه من المعجزات والآيات البينات وهو جهل بطبيعة الرسالة وأنها موجهة لبشر فكيف إذا جاءهم ملك لقالوا لولا أنزل إلينا بشرإذ يقول تعالى :" قُل لَّوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَّسُولًا" وهكذا الرفض لمجرد الرفض وليس لاسباب مقبولة
إنه العناد والكبر الذى ملأ قلوبهم والذى جعلهم يكفرون ويتولون معرضين عن الرسل واستغى الله عن إيمانهم فليس لله حاجة فيهم وفى طاعتهم ولا لغيرهم فهو الغنى عن العالمين المستحق للحمد على ما أنعم به على عباده من نعم كثيره
بعد تقرير عقيدة الإيمان بالله تنتقل الآيات لمناقشة مزاعم الكفار وبيان سوء عاقبتهم وخسارتهم فى الآخرة
{زَعَمَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ أَن لَّن يُبۡعَثُواْۚ قُلۡ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتُبۡعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلۡتُمۡۚ وَذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٞ (7) فَـَٔامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ وَٱلنُّورِ ٱلَّذِيٓ أَنزَلۡنَاۚ وَٱللَّهُ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِيرٞ }
ادعى الكفار أنه لا بعث ولا حساب ولا جزاء فيرد المولى عزوجل عليهم أن أخبرهم يا محمد أنهم سيخرجون من قبورهم يوم القيامة وليخبرهم بما عملوا فى الدنيا لينالوا جزاءهم فى الآخرة وأن هذا الأمر هين على الله
وبعد أن بين الحجج التى أتخذها الكفار ستارا حتى لا يؤمنوا بالله دعاهم للإيمان بالله وبرسوله وكتابه الذى أنزله إلى الناس لينير لهم الطريق ويهتدوا به فى ظلمات الفتن والشبهات فهو نور لأنه من عند الله ونور لأ نه ينير القلب بالإيمان فيبصر حقيقة الدنيا
ثم يذكر باليوم الذى يجمع الله فيه الناس منذ خلق آدم فى صعيد واحد وعبر عنه بيوم التغابن يوم يجمعهم الله عزوجل فى صعيد واحد
إذ يقول تعالى : {"وۡيومَ يَجۡمَعُكُمۡ لِيَوۡمِ ٱلۡجَمۡعِۖ ذَٰلِكَ يَوۡمُ ٱلتَّغَابُنِۗ وَمَن يُؤۡمِنۢ بِٱللَّهِ وَيَعۡمَلۡ صَٰلِحٗا يُكَفِّرۡ عَنۡهُ سَيِّـَٔاتِهِۦ وَيُدۡخِلۡهُ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدٗاۚ ذَٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ (9) وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَآ أُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِ خَٰلِدِينَ فِيهَاۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمَصِيرُ}
يقول الشوكانى عن يوم التغابن : وذلك أنه يغبن فيه بعض أهل المحشر بعضاً، فيغبن فيه أهل الحق أهل الباطل، ويغبن فيه أهل الإيمان أهل الكفر، وأهل الطاعة أهل المعصية، ولا غبن أعظم من غبن أهل الجنة أهل النار عند دخول هؤلاء الجنة وهؤلاء النار، فنزلوا منازلهم التي كانوا سينزلونها لو لم يفعلوا ما يوجب النار، فكأن أهل النار استبدلوا الخير بالشرّ، والجيد بالرديء، والنعيم بالعذاب، وأهل الجنة على العكس من ذلك. يقال: غبنت فلاناً إذا بايعته، أو شاريته فكان النقص عليه والغلبة، كذا قال المفسرون، فالمغبون من غبن أهله ومنازله في الجنة
ومنه فذلك اليوم الذى يغبن فيه الكافر لتفضيله الكفر على الإيمان فى الدنيا فقد سكن مساكن أهل النار فى الآخرة كم فوت من الطاعات وانشغوا باللهو واللعب وعلى الجانب الآخر يرث المؤمن مكان الكافر فى النار ومع ذلك يشعر بتقصيره فى الأعمال الصالحة وود لوقدم أكثر من ذلك
ثم يبين حال السعداء والأشقياء فى ذلك اليوم ومالهم فمن صدق بالله وما جاء به الرسل واليوم الآخر فيمحو الله سيئاته ويدخله جنات النعيم وأنه للظفر والفوز الحقيقى أما من مات على الكفر فجزاؤه النار خالدا فيها وبئس المصير
ثم يبين طرق الوقاية من الخسارة فى الدنيا والآخرة
الإيمان بالقدر خيره وشره
{مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۗ وَمَن يُؤۡمِنۢ بِٱللَّهِ يَهۡدِ قَلۡبَهُۥۚ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ (11 } إذ يقول تعالى :"
فعليه أن يؤمن بالقدر خيره وشره ويسلم لله عند المصيبة ويعلم أن ما يصيبه لم يكن ليخطئه فيصبر على البلاء ويحمد الله فى كل الأحوال فيكون سببا فى تكفير لذنوبه ورفع لدرجاته فى الجنة وينال أجر الصابرين فمن رضى بقضاء الله يهد قلبه فإن الله عليم بما يصلح حال العباد فمن عباده فقير لو أغناه لأفسد عليه دينه ومن عباده مريض لو أصححه لأفسد عليه دينه فهو المدبر لأمر عباده بحكمته وعلمه ولكن لا يعلم الحكمة كثير من الناس فعلينا أن نسلم بقضائه أولا
من رضى بقضاء الله يهد قلبه فإذا أُعطى شكر وإن ابتلى صبر
ومن طرق الوقاية من الغبن
طاعة الله ورسوله والتوكل على الله
إذ يقول تعالى :" {وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَۚ فَإِن تَوَلَّيۡتُمۡ فَإِنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا ٱلۡبَلَٰغُ ٱلۡمُبِينُ} "
أمرهم بطاعته وطاعة رسوله فى كل ما جاء به من الوحى وتكرار لفظ الطاعة دليل على أهمية ووجوب طاعته فإن تولوا عن طاعته فإن النبى أدى الأمانة وأقام عليهم الحجة وما بقى إلا أن ينتظروا مصيرهم بعد توليهم وعصيانهم لأمر الله ورسوله
ثم دعاهم لتوحيد الله وإخلاص العمل له وعدم الشرك به
{ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۚ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلۡيَتَوَكَّلِ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ} إذ يقول تعالى :"
فإذا تحقق الإخلاص له فعليه الاعتماد على الله وطلب العون الدائم منه بعد الأخذ بالأسباب
فعلى المؤمن الانشغال بطاعة الله والعمل بكتابه وطاعة رسوله وحسن الظن بالله إن كان مؤمنا حقا
لما أمر الله عزوجل المؤمنين بطاعته والتوكل عليه حذرهم من المعوقات عن الطاعة والتقصير فى حق الله بالركون إلى الزوجة والولد فقد يدفعه حرصه على إرضاء الزوجة والأولاد إلى التباطىء فى فعل الخيرات والتوانى عن الدعوة والجهاد وقد يتعدى الأمر اكثر من ذلك إلى ارتكاب المحرمات بدعوى تأمين مستقبل الأولاد وإرضاء للزوجة
الفتنة بالزوج والولد
{{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِنَّ مِنۡ أَزۡوَٰجِكُمۡ وَأَوۡلَٰدِكُمۡ عَدُوّٗا لَّكُمۡ فَٱحۡذَرُوهُمۡۚ وَإِن تَعۡفُواْ وَتَصۡفَحُواْ وَتَغۡفِرُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ} } فى نزول هذه الأية
عن ابن عباس - وسأله رجل عن هذه الآية : {( يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم )} - قال : فهؤلاء رجال أسلموا من مكة فأرادوا أن يأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم ، فلما أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأوا الناس قد فقهوا في الدين ، فهموا أن يعاقبوهم ، فأنزل الله هذه الآية : ( { وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم} )
إنه تحذير من عدواة الزوج والولد وكيف يصبح الأهل والولد أعداء؟ نعم عندما ينشغل بهم الإنسان عن طاعة الله وينسى ذكر الله فهو يضحى من أجلهم ويجاهد من أجلهم ويقبل فى نفسه ما لا يقبله فى أولاده فيجبن ويبخل حتى يوفر لهم الأمن والمتاع فيكونوا بذلك أعداء له والعداوات متفاوته فمنهم من يصده أهله عن طريق الخير والحق والغاية التى خلق من أجلها خوفا أن يصيبهم سوء من جراء ذلك أو أنهم يكونون فى طريق غير طريقه .... ليسوا على صلاح وهدى فيصعب عليه أن يتجرد لله فى علاقته بهم فيتسلطوا عليه ليكونوا له ابتلاء وفتنة فليحذر المؤمن عن كل ما يثبطته عن طاعة الله مع عدم التقصير فى حقهم
ثم دعاهم للصفح عن الأزواج والأولاد إذ يقول تعالى
{وَإِن تَعۡفُواْ وَتَصۡفَحُواْ وَتَغۡفِرُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ } يقول وهبة الزحيلى : وإن تعفوا عن ذنوب أزواجكم وأولادكم التي ارتكبوها بترك المعاقبة، وتصفحوا بترك اللوم والتثريب عليها، وتستروا الأخطاء تمهيدا لمعذرتهم فيها، فالله غفور لذنوب عباده، رحيم بهم، يعامل الناس بأحسن مما عملوا.
ثم بين حقيقة هذه العلاقة أنها اختبار من المولى عزوجل إذ يقول تعالى :" {ما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ، وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} "
فقد يحملون الرجل على الكسب الحرام وعدم إخراج حق الله من الأموال أو قطع صلة أرحام أو ارتكاب المعاصى بصفة عامة ولذلك جعل الله الثواب العظيم لمن نجح فى الاختبار وآثر طاعة الله ولم يفتن بالولد أوالمال
وأخرج أحمد وأبو بكر البزار عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ««الولد ثمرة القلوب، وإنه مجبنة مبخلة محزنة»
إن حب الولد عاطفة وغريزة فطرية عند الإنسان جاء الإسلام ليسمو بها فوق الأهواء ويوجهها إلى ما فيه طاعة الله وعدم الافتتان بهم عن طريق تحقيق التوازن بين الحقوق والواجبات ونداء العقل ونداء العاطفة فلا يبالغ فى الحب حتى يقع فى معصية الله وإن كان من باب أولى ان يتقى الله فيهم شكرا لله على نعمته عليه بان جعل له زوجة وولد
ولأن الله يعلم مدى تعلق الوالدين بولدهم وأنه أمر فطرى قل من يطيع الله فى أولاده وأمواله فامرهم أن يتقوا الله قدر الاستطاعة لعلمه بمدى طافتهم ولطفه بهم إذ يقول تعالى {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا، وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ}
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ««إذا أمرتكم بأمر، فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه»
ثم دعاهم للسمع والطاعة يسمعوا ما يؤمرون به ويطيعوا ولا يكونوا مثل أهل الكتاب الذين قالوا سمعنا وعصينا
وليروا الله من أنفسهم خير وليجتهدوا فى الصدقات والإنفاق فى سبيل الله وما انفقوه فهو لأنفسهم وسيعود بالخير عليهم
إذ يقول تعالى :" {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ}
والوقاية منه فضل من الله ونعمة فمن سلم منهم فذلك هو الفلاح فى الدنيا وفى نفس الوقت هو وقاية من البخل بالمال والشح
ثم أكد على أمر الإنفاق فى سبيل الله مرة أخرى إذ يقول تعالى"
{ ِإن تُقۡرِضُواْ ٱللَّهَ قَرۡضًا حَسَنٗا يُضَٰعِفۡهُ لَكُمۡ وَيَغۡفِرۡ لَكُمۡۚ وَٱللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ } فإذا انفقتم من أموالكم عن طيب نفس يضاعف لكم الأجر ويتجاوز عن سيئاتكم ويشكر للمحسن إحسانه ولا يعجل بالعقوبة يعلم ما فى النفس من شح فيمهلهم حتى يعودوا إلى صوابهم ويتوبوا من ذنوبهم
يقول وهبه الزحيلى : وفي الآية إيماء إلى أن الشقي من لا يقدم لنفسه شيئا يستقرضه منه رازقه، مع شدة حاجته إليه بعد مماته
"عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ "
يعلم ما غاب عنكم وما حضر وهو الغالب على أمره يضع الأمور فى موضعها وهو واهب الارزاق وهو دليل لى كمال لمه وقدرته
سورة التغابن سورة تهدف إلى بناء العقيدة فى نفوس المؤمنين عن طريق التأمل فى الكون وإثبات الوحدانية لله والإيمان بيوم البعث وشواهده فى مواجهة المنكرين الجاحدين كما تربى عقيد الإيمان بالقدر خيره وشره و تحذر من الإنشغال بالمال والأهل وتقديمهم على طاعة الله ورسوله وتبين أهمية الإنفاق فى سبيل الله فى مواجهة هذه الفتنة