القصة الشعرية في العصر الجاهلي
د. إبراهيم عوض
والآن إلى شواهد من القصص الجاهلي الذي أوردته لنا كتب الأدب ودواوين الشعر: ونبدأ بقصيدتي تأبط شرًّا في لقائه بالغول؛ حيث يتحدث عن ذلك الوحش الخرافي حديث المصدق بوجوده؛ إذ كان الإيمان بالغول واحدًا من الاعتقادات الجاهلية، وقد يكون تأبط شرًّا توهم رؤية الغول فعلًا، ثم أضاف إلى وهمه بعض التفاصيل والتحابيش، أو يكون قد اخترع القصة كلها اختراعًا، وقد...، وقد... إلا أن الأبيات مع ذلك تصور اعتقادًا كان سائدًا بين الجاهليين كما ذكرنا، أو فلنقل: إنها تصور خرافة من خرافاتهم، ومعروف أن أهل الريف في بلادنا إلى وقت قريب كانوا هم أيضًا يؤمنون بالغول، وأذكر أنني كنت في طفولتي أرتعب من ذكر تلك الغول؛ إذ كان اعتقادنا أنها تنبش القبور وتأكل جثث الموتى، فكنت أتخيلني وقد مت ووسدت الثرى في القبر وتركني أهلي ومضوا إلى بيوتهم لتنفرد بي الغول في الظلام تأكل لحمي أكلًا وتنهش عظامي نهشًا، وأنا من العجز في حالة تامة! وبطبيعة الحال فإن مثل هذا الاعتقاد قد تقلص إلى حد بعيد ولم أعد أسمع بشيء من ذلك مع انتشار التعليم ودخول الكهرباء القرية، وربما كان تكرُّر حديث شاعرنا في قصيدتين على الأقل عن الغول راجعًا إلى أنه كان كثيرًا ما يجوب الصحراء في الظلام الدامس وحيدًا؛ إذ كان صعلوكًا متمردًا لا يأوي إلى المجتمعات، بل كان يشكل، مع أمثاله من الصعاليك المتمردين، عصابات لقطع الطريق، فكانت حياتهم قلقًا وخوفًا وتشرُّدًا مستمرًّا، فإذا أضفنا الجهل الذي كان سائدًا آنذاك في المجتمع العربي تبين لنا أن انتشار مثل تلك الخرافة بين الجاهليين أمر طبيعي تمامًا، وبخاصة في ظروف شخص كتأبط شرًّا.
وقد تكرر ذكر "الغول" في شعر العرب قبل الإسلام بما يدل على أن هذه الخرافة كانت تسكن عقول الجاهليين كما قلنا؛ فمن ذلك قول طارقة الشاعرة الجاهلية، حين اقترن زوجها بامرأة أخرى، إنه قد اتخذ بدلًا منها "هوجاء مقاء كشبه الغول"، ومنه قول امرئ القيس تهكمًا بغريم له كان يهدده بالقتل:
أيقتُلني، والمَشرفيُّ مُضاجعي ♦♦♦ ومسنونةٌ زرقٌ كأنيابِ أغوالِ؟
وقول زهير بن أبي سلمى يصف ناقته:
تُبادر أغوالَ العشيِّ وتتَّقي ♦♦♦ عُلالةَ مَلويٍّ مِن القدِّ مُحْصَدِ
والآن إلى القصيدتين اللتين قص فيهما تأبط شرًّا حكايته مع الغول، وفيهما يتبدى قصَّاصًا بارع التصوير والتشويق والفكاهة والمقدرة على إجراء الحوار، والتحول من السرد إلى الحديث بين بطلي قصته في اقتدار ومهارة، إلى جانب انتقاله في القصيدة الأولى من الفعل الماضي إلى التعبير بالفعل المضارع عما مضى من وقائع بينه وبين الغول بما يجعلنا نشعر أننا نشاهد حوادث تقع الآن تحت أعيننا، لا أمورًا مضت وانقضت، كما في قوله:
"فشدت... فأهوى لها كفي... فأضربها... فخرت:
ألا مَن مبلِغ فتيانَ فهمٍ
بما لاقيتُ عند رحى بطان
بأني قد لقيتُ الغولَ تهوي
بشُهب كالصحيفةِ صَحْصحان
فقلتُ لها: كلانا نضوُ أينٍ
أخو سفرٍ فخلِّي لي مكاني
فشدَّت شدة نحوي فأهوى
لها كفِّي بمصقولٍ يماني
فأضربها بلا دهَشٍ فخرت
صريعًا لليدينِ وللجِرَان
فقالت: عُد، فقلت لها: رويدًا
مكانكِ إنني ثَبْتُ الجَنان
فلم أنفَكَّ متكئًا عليها
لأنظرَ مُصبِحًا ماذا أتاني
إذا عينانِ في رأسٍ قبيحٍ
كرأس الهِرِّ مشقوقِ اللسان
وساقا مُخْدجٍ وشَواةُ كلبٍ
وثوبٌ مِن عَباءٍ أو شِنان؟
• • •
وأدهمَ قد جُبت جلبابه
كما اجتابتِ الكاعبُ الخيعلا