ضعف الإيمان وأثره الخطير في دنو همة المسلم
مسلم بن محمد اليوسف
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله -تعالى- من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا ِِإله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[سورة آل عمران: 102)].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[سورة النساء: 1)].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[سورة الأحزاب: 70، 71)].
أما بعد:
فإن خير الكلام كلام الله تعال ى، وخير الهدى هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وإن شر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
فهذا مبحث مبسط بينت فيه ضعف الإيمان وأثره الخطير في دنو همة المسلم في ضوء القرآن الكريم أتمنى على طلاب العلم وطلاب الهمة الاستفادة منه. والله الموفق..
الإيمان بالنسبة للفرد، والمجتمع صمام الأمان الذي يقي من المهالك، والمخاطر، وإذا خلت الحياة من الإيمان؛ فقد خلت من كل معاني الخير، والفضيلة، والإنسانية، وحلت بها كل دواعي الشر، والفساد؛ والشقاء، فالفرد بغير إيمان إنسانُ ليس له قيمة؛ ولا جذور، إنسان قلق، منهزم، حائر، دنيء الهمة؛ لا يعرف حقيقة نفسه، ولا سر وجوده.
والمجتمع بغير إيمان مجتمع غابة، وإن لمعت فيه بوارق الحضارة، مجتمع منكس الموازين، الحياة؛ والبقاء فيه للأشد؛ والأقوى، لا للأفضل؛ أو الأنقى، مجتمع لا يلتفت إلى المعالي؛ ولا يطلبها؛ لأن غايات أهله لا تتجاوز شهوات البطون؛ والفروج، فكان دنو الهمة لهم رمزاً وصفة، وكما هو معلوم، فإن الإيمان له أثره الواضح الذي لا يُنكر في إعلاء الهمم، وإصلاح الأفراد، والمجتمعات، وليس غير الإيمان يملك أن يغير النفس البشرية تغييراً تاماً، ويُنشئ الإنسانَ، ويجعله خلقاً آخر يمتاز بكل الصفات الحميدة التي تقوده إلى هدفه؛ ومبتغاه.
فالإيمان جذوة تتقدُ في قلب صاحبها، فتقوده إلى كل خير، وتنأى به عن كل شر، فإذا ما ضعُف الإيمان، أو فُقد. فإن صاحبه لن يبال بالكرامات، ولن يسعى للمعالي.
ومن المعلوم يقيناً أن الإيمان حين يتغلل في النفوس، وتخالط بشاشته القلوب يكون أول سلاح يتسلح به الإنسان في مواجهة الحياة، فالإيمان هو المنبع الوحيد للطاقة الإنسانية، فهو الدافع العظيم للمسلم للعمل، و البذل؛ و الرقي إلى معالي الأمور.
إنّ ضعف الإيمان من أهم صفات أصحاب الهمم الدنيئة؛ لأن صاحب الهمة الدنيئة لا يحرص على تقوية إيمانه؛ وزكاة قلبه، ولا يهتم بنفسه، فيقوم عليها بعبودية المجاهدة، والمحاسبة، للتطلع إلى عاليات الأمور في الدنيا، والآخرة.
يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (إنّ الإِيمانَ لَيَخْلَقُ في جَوْفِ أحدِكُمْ كما يَخْلَقُ الثَّوْبُ فاسْأَلُوا اللهَ - تعالى -أن يُجَدِّدَ الإِيمانَ في قُلُوبِكُمْ)[1].
فها هو الرسول –صلى الله عليه وسلم- يُبين لنا أن الإيمان في القلب إنما يزيد؛ وينقص، ويقوى لحظة، ويتغير لحظة أخرى، وصاحب الهمة العالية يسعى دائماً إلى أن يبقى الإيمان قوياً؛ وحياً ينبض في قلبه. أما من دنت همته، فنراه يطفئ شعلة الإيمان في قلبه، حتى يصبح قلبه خاوياً فارغاً خرباً كالبيت الخرب؛ لأنه قد خلا من ذلك الإيمان الذي يصفه صاحب تفسير المنار بقوله: "إن الإيمان نورٌ، نور في القلب، ونور في الجوارح، نور يكشف حقائق الأشياء، والقيم؛ والأحداث؛ وما بينهما من ارتباطات؛ ونسب؛ وأبعاد، فالمؤمن ينظر بهذا النور، نور الله، فيرى الحقائق، ويتعامل معها، ولا يتخبط في طريقه، ولا يتعثر في خطواته"[2].
إن ضعف الإيمان من أهم أسباب دنو الهمة، وأعظمها، ففاقد الإيمان فاقد للهمة العالية، وحينما يُعرض الإنسان عن الإيمان، أو يضعُف إيمانه، فإنه لا شك تضعف همته، وتسوء سريرته، ويَنكبُ على المعاصي، ويُعرض عن الله - تعالى -.
وإن علو همتنا لا تظهر إلا حينما يقوى إيماننا بالله، ويبلغ في نفوسنا مداه، ويشرف على قلوبنا بناه، وتحط في أعماقنا مجراه، وحيث ضعف الإيمان دنت همة المرء، وانحطت عزيمته، فارتباط الإيمان بالهمة ارتباط وثيق؛ و لذلك قال - تعالى -: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى)[3].
فالإعراض عن الله هو ضعف الإيمان، فالإيمان مع معصية الخالق، كالشمس المكسوفة؛ أو كالسراج إذا غطيته بصفحة[4]، فهو موجود، ولكن هذا الوعاء يمنع نوره من الظهور، لذلك يكون هذا الإنسان البعيد عن ذكر الله - تعالى- دنيء الهمة، لا يبحث إلا عن سفاسف الأمور.
قال أبي السعود في تفسير هذه الآية: "إن من أعرض عن ذكر الله -عز وجل- في الدنيا، فإن الله -تعالى- ضيق عليه حياته؛ وذلك؛ لأن مجامع همته، و مطامح نظره مقصورة على أعراض الدنيا، وهو متهالك على ازديادها، وخائف من انتقاصها، بخلاف المؤمن الطالب للآخرة مع أنه قد يضيق الله بشؤم الكفر، ويوسع ببركة الإيمان"[5].
يقول ابن الجوزي -رحمه الله-: "يجب أن تكون همة المؤمن متعلقة بالآخرة، فكل ما في الدنيا يُحركه إلى ذكر الآخرة، و كل من شغله شيء، فهمته شغله، والمؤمن إذا رأى ظلمة ذكر ظلمة القبر، وإن رأى الناس ذكر الناس في القبور"[6].
فمن جعل الآخرة همه، كما قال ابن الجوزي: فقد فاز الفوز العظيم، ولا يكون إلا أصحاب الإيمان القوي الذي قادهم إيمانهم هذا إلى علو الهمة، وطلب الآخرة بدلاً من الدنيا.
ترك الطاعات، وفعل المعاصي:
لما طغى على الإنسان حب الدنيا، وفعل المعاصي أصبح قلبه متعلقاً بها، وغلب عليه نسيان الآخرة، بدأ ينسى ذلك الرابط الذي يربطه بخالقه جل وعلا، فبدأ يبعد رويداً عن تلك الطاعات، والأجواء الإيمانية التي كانت بينه، وبين ربه -عز وجل-.
وللأسف يجد الإنسان نفسه أمام تنازل تلو تنازل، فاليوم يترك طاعة، وغداً يترك طاعة أخرى، حتى يصل إلى مرحلة من قسوة القلب، وضعف الإيمان.
قال - تعالى -: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ)[7] وقد دلت الآية على أن طول البعد عن الطاعات هو مدعاة لضعف الإيمان في القلب.
يقول السعدي -رحمه الله- في تفسيره هذه الآية: "أي: ولا يكونوا كالذين أنزل الله عليهم الكتاب الموجب لخشوع القلب، و الانقياد التام، ثم لم يدوموا، و لا ثبتوا، بل طال عليهم الزمان، و استمرت بهم الغفلة، فاضمحل إيمانهم، وزال إيقانهم، فالقلوب تحتاج في كل وقت إلى أن تذكر بما أنزله الله، وتناطق بالحكمة، ولا ينبغي الغفلة عن ذلك، فإن ذلك سبب لقسوة القلب وجود العين"[8].
إن الذنوب، والمعاصي رأس الفتنة، ومحرك الشر، وقائدة لدنو الهمة، ومما يُبين ذلك قوله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ)[9].
فهؤلاء الذين هزموا، وفروا قد ضعفوا، وتولوا بسبب معصية ارتكبوها، فظلت نفوسهم مزعزعة بسببها، فدخل عليهم الشيطان من ذلك المنفذ، واستذلهم فذلوا وسقطوا، وفي هذا تصوير لحالة النفس البشرية حين ترتكب الخطيئة، فتفقد ثقتها في قوتها، ويضعف ارتباطها بالله، ويختل توازنها، وتماسكها، وتصبح عرضة للوساوس، والهواجس، وقد يسأل سائل لم جاء الحديث عن الربا، والفواحش، أو ظلم النفس وسط الحديث عن غزوة أحد؟.
وما العلاقة بين ذلك كله؟.
وأقول: إن الله أراد أن يبين أنه لا يُضر مع المعصية أيَّاً كان نوعها، ربا أم غيرها من الفواحش، فالذنوب، و المعاصي تعيق النصر، و تمنعه، و القرآن يوجهنا هذه التوجيهات في سياق المعركة الحربية، ليرشدنا إلى خاصية من خصائص العقيدة، و هي خاصية الوحدة، و الشمول، و أن هذا الجمع بين الأعداء، و الاستعداد للمعركة الحربية، و بين تطهير النفوس، و القلوب كل من مقومات النصر، وضروراته"[10].
فانظر كيف كانت المعصية سبباً لضعف همتهم؛ و دنوها، يقول ابن كثير - رحمه الله -: "أي: تولوا بسبب ذنوبهم السابقة، كما قال بعض السلف: إن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها، و إن من جزاء السيئة السيئة بعدها"[11].
إن كل معصية ذكرها الله -عز وجل- في كتابه، و النبي –صلى الله عليه وسلم- في سنته سببها ضعف الإيمان، و تُظهر نظرة القرآن الكريم لظاهرة ضعف الإيمان على أنها سبب في دنو همة العبد، و جعله من العصاة.
يقول السعدي -رحمه الله-: "الطائفة الأخرى الذين قد أهمتهم أنفسهم، فليس لهم هم في غيرها، لنفاقهم؛ أو ضعف إيمانهم، فلهذا لم يصبهم من النعاس ما أصاب غيرهم " يقولون هل لنا من الأمر من شيء " و هذا استفهام إنكاري، أي: ما لنا من الأمر أي: النصر؛ و الظهور شيء، فأساءوا الظن بربهم، و بدينه؛ و نبيه، وظنوا أن الله لا يتم أمر رسوله، و أن هذه الهزيمة هي الفيصلة، و القاضية على دين الله،.... فيخبر - تعالى -عن حال الذين انهزموا يوم " أحد " و ما الذي أوجب لهم الفرار، و أنه من تسويل الشيطان، و أنه تسلط عليهم ببعض ذنوبهم. فهم الذين أدخلوه على أنفسهم، و مكنوه بما فعلوا من المعاصي، لأنها مركبه؛ و مدخله، فلو اعتصموا بطاعة ربهم لما كان له عليهم من سلطان"[12].
فضعف الإيمان في قلب المؤمن يؤدي به لا محالة إلى دنو همته في الأمور كلها، فتموت نفسه، وينطفئ نور عقله، و يكون فريسة للشيطان، و محلاً للانحطاط، وعدم الكمال.
يقول - تعالى -: (إِنَّ المُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلا قَلِيلاً)[13].
فكل من ضعف إيمانه دنت همته، و الدليل في هذه الآية لقيامهم إلى الصلاة بكسل.
قال القرطبي -رحمه الله- في تفسير هذه الآية: "أي يصلون مراءاةً، و هم متكاسلون متثاقلون، لا يرجون ثواباً، و لا يعتقدون على تركها عقاباً"[14].
ويقول السعدي - رحمه الله -: "ومن صفاتهم أنهم إذا قاموا إلى الصلاة التي هي أكبر الطاعات العملية قاموا كسالى متثاقلين لها، متبرمين من فعلها، و الكسل لا يكون إلا من، فقد الرغبة من قلوبهم، فلولا أن قلوبهم فارغة من الرغبة إلى الله، و إلى ما عنده، أو عادمة للإيمان، لم يصدر منهم الكسل"[15].
فهذه الآية تدل على أن من ترك الطاعات بسبب ضعف الإيمان في قلبه كان نتيجة ذلك الكسل، والعجز، وما ذاك إلا بسبب دنو الهمة، وكل من دنت همته، يصبح أداء الطاعات، والعبادات صعباً عليه، و تثقل عليه فعلها.
يقول البقاعي - رحمه الله -: "متقاعيسين متثاقلين عادة، لا ينفكون عنها، بحيث يعرف ذلك منهم كل من تأملهم؛ لأنهم يرون أنه تعب من غير رأي، فالداعي إلى تركها هو الراحة"[16].
ومما يبن لنا أن ضعف الإيمان من الأسباب الركيزة، لدنو الهمة قوله - تعالى -: (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَليَبْكُوا كَثِيراً جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * فَإِنْ رَجَعَكَ اللهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوك َ لِلخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقعُدُوا مَعَ الخَالِفِينَ * وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ * وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ * وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آَمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ * رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ* لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[17].
فقد ذم الله -تعالى- ضعاف الإيمان في هذه الآيات، وهم المنافقين الذين تخلفوا عن صحبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة تبوك، وفرحوا بقعودهم، وكرهوا أن يجاهدوا معه بأموالهم، وأنفسهم في سبيل الله، وقال بعضهم لبعض إغراءاً لهم بالثبات على المنكر، وتثبيطاً لعزائم المؤمنين: لا تخرجوا إلى الجهاد في الحر، فأمر الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- بأن يقول لهم: إن نار جهنم التي سيصيرون إليها هي أشد حراً من قيظ الصحراء الذي فروا منه، ولو أنهم كانوا يدركون، ويعقلون لما تخلفوا وقعدوا، ولما فرحوا بقعودهم"[18].
فانظر كيف كان ذلك التقاعس عن الجهاد في سبيل الله، وما ذلك إلا لضعف الإيمان بالله -تعالى- الذي هو أصل علو همة العبد.
قال الشيخ محمد أبو زهرة في تفسير قوله - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)[19]: "نداء إلى الذين آمنوا يشير بهذا النداء إلى أن الجهاد في سبيل الله - تعالى -ثمرة الإيمان، والتقاعس عن القتال يكون من ضعف الإيمان، أو مرض القلوب"[20].
ويقول السعدي - رحمه الله -: "يقول -تعالى- مبينا تبجح المنافقين بتخلفهم، وعدم مبالاتهم بذلك، الدال على عدم الإيمان، و اختيار الكفر على الإيمان، (فَرِحَ المُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللهِ) وهذا قدر زائد على مجرد التخلف، فإن هذا تخلف محرم، وزيادة رضا بفعل المعصية، وتبجح به، (وَ كَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) وهذا بخلاف المؤمنين الذين إذا تخلفوا ولو لعذر - حزنوا على تخلفهم، وتأسفوا غاية الأسف، ويحبون أن يجاهدوا بأموالهم، وأنفسهم في سبيل الله، لما في قلوبهم من الإيمان"[21].
هؤلاء الذين ضعف إيمانهم، فأدركتهم ثقلة الأرض، ثقلة الحرص على الراحة، والشح بالنفقة، فأصابهم ضعف الهمة، وهزال النخوة، وخواء القلب من الإيمان.
إن هؤلاء لهم نموذج لضعف الهمة، وطراوة الإرادة، وكثيرون هم الذين يُشفقون من المتاعب، وينفرون من الجهد، ويؤثرون الراحة الرخيصة على الكدح الكريم، ويفضلون السلامة الذليلة على الخطر العزيز.
وهم يتساقطون إعياء خلف الصفوة الجادة الزاحفة العارفة بتكاليف الدعوات، و لكن هذه الصفوف تظل في طريقها المملوء بالعقبات، والأشواك؛ لأنها تدرك بفطرتها أن كفاح العقبات، و الأشواك فطرة في الإنسان، و أنه ألذ، وأجمل من القعود، والتخلف، والراحة البليدة التي لا تليق بأصحاب الهمم العالية"[22].
يتبع