المحبوب من الله تعالى
د. محي الدين كحالةقال الإمام ابن القيم رحمه الله عن المحبة: «المنزلة التي فيها تنافس المتنافسون، وإليها شخص العاملون، وإلى عملها شمَّر السابقون، وعليها تفانى المحبون، وبروح نسيمها تروح العابدون، وهي قوت القلوب، وغذاء الأرواح، وقرة العين، وهي الحياة التي من حرمها فهو من جملة الأموات، والنور الذي من فقده فهو في بحار الظلمات، والشفاء الذي من عدمه حلَّت بقلبه جميع الأسقام، واللذة التي لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام، تالله لقد ذهب أهلها بشرف الدنيا والآخرة، إذ لهم من معية محبوبهم أوفر النصيب».
فإلى من أراد أن يرقى من منزلة المحب لله إلى منزلة المحبوب من الله، أقدم هذه الأسباب العشرة التي ذكرها الإمام ابن القيم في كتابه مدارج السالكين، مع شرح مختصر لها:
السبب الأول: قراءة القرآن بتدبر والتفهم لمعانيه وما أريد به، كتدبر الكتاب الذي يحفظه العبد ويشرحه ليتفهم مراد صاحبه منه.
قال الحسن بن علي: «إن من كان قبلكم رأوا القرآن رسائل من ربهم، فكانوا يتدبرونها بالليل، ويتفقدونها في النهار».
وقال الإمام النووي: «أول ما يجب على القارئ أن يستحضر في نفسه أنه يناجي الله تعالى».
السبب الثاني: التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض، فإنها موصلة إلى درجة المحبوب بعد المحبة.
يقول ابن رجب الحنبلي رحمه الله: «أولياء الله المقربون قسمان: ذكر الأول، ثم قال: الثاني: من تقرب إلى الله تعالى بعد أداء الفرائض بالنوافل، وهم أهل درجة السابقين المقربين، لأنهم تقربوا إلى الله بعد الفرائض بالاجتهاد في نوافل الطاعات، والانكفاف عن دقائق المكروهات بالورع، وذلك يوجب للعبد محبة الله كما قال تعالى في الحديث القدسي: «لا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه». فمن أحبه الله رزقه محبته وطاعته والحظوة عنده».
السبب الثالث: دوام ذكره على كل حال، باللسان والقلب والعمل والحال، فنصيبه من المحبة على قدر نصيبه من الذكر.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل يقول: أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت به شفتاه». وقال: «قد سبق المفردون. قالوا: ومن المفردون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات». وجاءه رجل فقال: يا رسول الله، إن شرائع الإسلام قد كثرت علينا، فباب نتمسك به جامع. فقال: «لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله».
السبب الرابع: إيثار محابه على محابك عند غلبات الهوى، والتنسم إلى محابه وإن صعب المرتقى.
يقول ابن القيم في شرح هذه العبارة: «إيثار رضا الله على رضا غيره، وإن عظمت فيه المحن، وثقلت فيه المؤن، وضعف عنه الطول والبدن».
وقال رحمه الله: «إيثار رضا الله عز وجل على غيره، وهو يريد أن يفعل ما فيه مرضاته، ولو أغضب الخلق، وهي درجة الإيثار، وأعلاها للرسل عليهم صلوات الله وسلامه، وأعلاها لأولي العزم منهم، وأعلاها لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم. وذا كله لا يكون إلا لثلاثة أمور: قهر هوى النفس، ومخالفة هوى النفس، ومجاهدة الشيطان وأوليائه».
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «يحتاج المسلم إلى أن يخاف الله وينهى النفس عن الهوى، ونفس الهوى والشهوة لا يعاقب عليه، بل على اتباعه والعمل به، فإذا كانت النفس تهوى وهو ينهاها، كان نهيه عبادة لله وعملاً صالحاً».
السبب الخامس: مطالعة القلب لأسمائه وصفاته، ومشاهدتها ومعرفتها، وتقلبه في رياض هذه المعرفة، فمن عرف الله بأسمائه وصفاته وأفعاله، أحبه لا محالة.
قال ابن القيم رحمه الله: «لا يوصف بالمعرفة إلا من كان عالماً بالله وبالطريق الموصل إلى الله، وبآفاتها وقواطعها، وله حال مع الله تشهد له بالمعرفة، فالعارف هو من عرف الله بأسمائه وصفاته وأفعاله، ثم صدق الله في معاملته، ثم أخلص له في قصده ونيته».
السبب السادس: مشاهدة بره وإحسانه، وآلائه ونعمه الباطنة والظاهرة، فإنها داعية إلى محبته.
العبد أسير الإحسان، فالإنعام والبر واللطف معاني تسترق مشاعره، وتستولي على أحاسيسه، وتدفعه إلى محبة من يسدي إليه النعمة، ويهدي إليه المعروف. ولا منعم على الحقيقة ولا محسن إلا الله، فلا محبوب في الحقيقة عند ذوي البصائر إلا الله تعالى، ولا مستحق للمحبة كلها سواه.
السبب السابع - وهو من أعجبها -: انكسار القلب بكليته بين يدي الله تعالى.
والانكسار بمعنى الخشوع، وهو الذل والسكون. وقد كان للسلف في الخشوع بين يدي الله أحوال عجيبة، تدل على ما كانت عليه قلوبهم من صفاء ونقاء.
قال ابن القيم: «الحق أن الخشوع معنى يلتئم من التعظيم والمحبة والذل والانكسار».
السبب الثامن: الخلوة به وقت النزول الإلهي لمناجاته وتلاوة كلامه، والوقوف بالقلب والتادب بأدب العبودبة بين يديه، ثم ختم ذلك بالاستغفار والتوبة.
إن أصحاب الليل هم بلا شك من أهل المحبة، بل هم من أشرف أهل المحبة، لأن قيامهم في الليل بين يدي الله تعالى يجمع لهم جل أسباب المحبة التي سبق ذكرها.
السبب التاسع: مجالسة المحبين الصادقين، والتقاط أطايب ثمرات كلامهم كما ينتقى أطايب الثمر، ولا تتكلم إلا إذا ترجحت مصلحة الكلام وعلمت أن فيه مزيداً لحالك ومنفعة لغيرك.
السبب العاشر: مباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله عز وجل.
فالقلب إذا فسد فلن يجد المرء فائدة فيما يصلحه من شؤون دنياه، ولن يجد نفعاً أو كسباً في أخراه