*عقد النكاح في المسجد الحرام*
المجيب د. هاني بن عبدالله الجبير*
قاضي بمحكمة مكة المكرمةالتاريخا لاربعاء*25*ربيع الأول 1426الموافق*04*مايو *2005

*السؤال*

السلام عليكم
ما حكم إجراء عقد النكاح في المسجد الحرام؟.

*الجواب*

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.*
فإجراء عقد النكاح في المسجد الحرام شائع بكثرة عند أهالي مكة وجدة؛ لقرب الحرم منهم، ويحصل السؤال من بعض الغيورين الحريصين على اتباع السنة والسلامة من البدعة، والجواب عن حكم إجراء العقد المذكور يتضح من خلال النقاط الآتية:*
أولاًً: ورد في جامع الترمذي (1089)، والبيهقي (7/290) من طريق عيسى بن ميمون عن القاسم بن محمد عن عائشة – رضي الله عنها- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "أعلنوا هذا النكاح واجعلوه في المساجد واضربوا عليه بالدفوف".
وهو ضعيف الإسناد، قال البيهقي بعد إخراجه: (عيسى بن ميمون ضعيف)، قال الترمذي: (هذا حديث غريب حسن في هذا الباب، وعيسى بن ميمون الأنصاري يُضَعَّف في الحديث)، وفي ميزان الاعتدال (3/326): قال البخاري: (عيسى بن ميمون الذي يروي "أعلنوا النكاح" ضعيف ليس بشيء، وقال عبد الرحمن بن مهدي: استعديت عليه، وقلت: ما هذه الأحاديث التي تروى عن القاسم عن عائشة – رضي الله عنها- فقال: لا أعود!). وقد ضعفه الألباني في الإرواء (1993) (7/50)، وفي السلسلة الضعيفة (978).
ولا أعلم أنه ورد في السنة القولية أمر، ولا نهي عن إجراء عقد النكاح في المساجد حسب بحثي القاصر، ووجدت الشيخ محمد بن عثيمين في شرحه للزاد عند تناوله لاستحباب العقد يوم الجمعة مساء قال: (وذكر ابن القيم أنه ينبغي أن يكون في المسجد أيضاً لشرف الزمان والمكان، وهذا فيه نظر في المسألتين جميعاً إلا لو ثبتت السنة بذلك، فبها ونعمت، لكني لا أعلم في هذا سنة) (5/132)، طبعة مركز فجر للطباعة ودار الآثار للنشر- مصر-.*
*أما السنة الفعلية* فقد ورد في حديث الواهبة الذي أخرجه البخاري(5149)، ومسلم (1425) عن سهل بن سعد الساعدي إني لفي القوم عند رسول الله – صلى الله عليه وسلم- إذا قامت امرأة فقالت يا رسول الله: إنها قد وهبت نفسها لك فلم يجبها، فقام رجل فقال: يا رسول الله أنكحنيها، قال صلى الله عليه وسلم: هل عندك من شيء؟ قال: لا، قال صلى الله عليه وسلم: اذهب فاطلب ولو خاتماً من حديد، فذهب ثم جاء، فقال: ما وجدت شيئاً ولا خاتماً من حديد، قال: هل معك من القرآن شيء؟ قال: معي سورة كذا وسورة كذا، قال: اذهب فقد أنكحتها بما معك من القرآن").
قال الحافظ في الفتح (9/113): (وفي رواية سفيان الثوري عند الأصيلي(جاءت امرأة إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- وهو في المسجد)، فأفاد تعيين المكان الذي وقعت فيه القصة). ففي هذا أن النبي –صلى الله عليه وسلم- أجرى عقد النكاح في المسجد، وإن كان السياق يفهم منه وقوعه دون تقصد لذلك كما هو ظاهر.*
*ثانياً: اتفق فقهاء المذاهب الأربعة على سنية عقد النكاح في المسجد.* انظر مثلاً فتح القدير لابن الهمام (3/184)، حاشية الروض المربع لابن قاسم (6/243)، ففي مختصر خليل: ( وجاز بمسجد..عقد نكاح) انظر جواهر الإكليل(2/302)، التاج والإكليل(6/12)، وفي مجموع الفتاوى لشيح الإسلام ابن تيمية (32/18): (ويستحب عقده في المساجد)، وفي الروض مع حاشيته: (ويسن بالمسجد ذكره ابن القيم – رحمه الله- وهو إمام ثقة لا يذكر ما يسن إلا بأصل شرعي للسنية).*
ثالثاً: المقصد من جعل العقد في المسجد أنه رجاء الحصول على بركة المكان، وقد صرح بذلك في تحفة الأحوذي (4/210)، إذ قال: (واجعلوه في المساجد وهو إما لأنه أدعى للإعلان أو لحصول بركة المكان).
ولا شك أن هناك أمكنة جعل الله فيها بركة عظيمة ومنها المساجد.
وفي صحيح مسلم أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "أحب البلاد إلى الله تعالى مساجدها". والمسجد الحرام حظه من ذلك أوفر؛ وقد قال تعالى: "سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله" [الإسراء: 1].
وقد قال النبي –صلى الله عليه وسلم- عن مكة: "إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله" رواه أحمد (4/305)، والحاكم (3/7)، بسند صحيح، ولكن يبقى النظر في طريقة استمداد هذه البركة من المكان.*
وفي صحيح مسلم (1423)، عن عائشة –رضي الله عنها- قالت: تزوجني رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في شوال وبنى بي في شوال، فأي نساء النبي –صلى الله عليه وسلم- كان أحظى عنده مني؟).
قال عروة: (وكانت عائشة – رضي الله عنها- تستحب أن تدخل نساءها في شوال). وفي هذا الحديث أمران: أحدهما: نبذ ما كان عليه أهل الجاهلية من كراهية التزويج والدخول في شوال.
والثاني: متابعة الفعل المجرد للنبي –صلى الله عليه وسلم- الذي لم يظهر تقصده له؛ إذ لو تقصده لصرحت بذلك، إذ إن استدلالها به أبلغ من استدلالها بمجرد فعله.*
وإذا ثبت أن النبي – صلى الله عليه وسلم- عقد زواجاً بالمسجد كما سبق في حديث الواهبة، كان فعله المجرد مانعاً من اعتبار تقصد عقد النكاح في المسجد محدثاً إذ الزمان الفاضل كالمكان الفاضل.*
والخلاصة مما سبق: أن تقصد إجراء عقد النكاح في المسجد الحرام مباح ليس من البدع ولا المحدثات، وأما الحكم باستحباب عقد النكاح في المسجد، فهذا مما لم يرد فيه دليل فلا يحكم فيه بسنية، كما لا ينكر على من استحبه لوجود من قال بذلك من كبار العلماء. والله أعلم