منقول عن مجلة البيان وفيه أوضح الكاتب أن الشيبانى من أوائل من تحدث عن العلاقات الدولية فى الإسلام ، وليس مؤسسا للفكر السياسى ، بعامة إذ لم يضع الرجل نظرية سياسية متكاملة كما وضعها ابن حزم فى كتابه السياسة ، ولا الماوردى الذى نقل عنه فى كتابه الأحكام السلطانية ، وهذه دراسة الرجل بعد تقدمته عن كتاب السير إذ يقول :
كان الإمام محمد بن الحسن أول من أفرد للعلاقات الدولية في الإسلام مؤلفات
خاصة يتناول فيها أحكام الجهاد والحرب ، وأحكام الصلح والمعاهدات ، وأحكام
الأمان ، وإرسال السفراء والمبعوثين ، وآثار قيام الحرب ، وسياسة المسلمين في
تنظيم الحرب ، وما يجوز وما لا يجوز في ذلك كله ... الخ . وله في هذا كتابان :
أحدهما (السير الصغير) الذي كتبه أولاً ، وقد رواه عن أبي يوسف وقرأه عليه
توثقاً من النص وصحة نسبة الرأي ، والثاني ( السير الكبير) وهو أوسع من الأول ، كما أنه من آخر كتب الإمام محمد تأليفاً ، وفيه إفاضة وشرح أكثر وأوسع كما
يظهر من عنوان الكتابين ومن مادتهما من خلال الشروح التي وصلتنا وفي هذه
الكلمة التعريفية بالكتاب ، نخص فيها كتاب (السير الكبير) ومعه الشرح الممتع
القيم الذي وضعه عليه شمس الأئمة السرخسي المتوفى في القرن الخامس الهجري
ما بين (483-490ه) .
-4-
وعن سبب تأليف هذا الكتاب يقول السرخسي : ( إن السير الصغير وقع في
يد عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي - عالم أهل الشام - فقال : لمَن هذا الكتاب ؟
فقيل : لمحمد العراقى . فقال : وما لأهل العراق والتصنيف في هذا الباب ؛ فإنه لا
علم لهم بالسير . ومغازي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه كانت من
جانب الشام والحجاز دون العراق ، فإنها محدثة فتحاً . فبلغ ذلك محمداً ، فغاظه ذلك ، وفرغ نفسه حتى صنف هذا الكتاب .
فحكي أنه لما نظر فيه الأوزاعي قال : لولا ما ضمنه من الأحاديث لقلت إنه
يضع العلم من عند نفسه ، وإن الله عين جهة إصابة الجواب في رأيه . صدق الله
العظيم : [ وفوق كل ذي علم عليم ] (شرح السير الكبير : 1/3) . ويناقش الشيخ
محمد أبو زهرة وغيره من الباحثين هذا السبب لتأليف الكتاب ويرده ؛ إذ لا مجال
لتصديقه ، لأن الإمام الأوزاعي توفي سنة (157ه) والإمام محمد ولد سنة (132ه)
فيكون الأوزاعي قد توفي ومحمد عمره خمس وعشرون سنة ، ومكث محمد نحو
اثنتين وثلاثين سنة لا يؤلف ، إذ إنه توفي سنة (189) أي بعد الأوزاعي باثنتين
وثلاثين سنة ، وهذا غير معقول ولا مقبول ، ولا يتفق مع تاريخ الكتاب ولا مع
حياة محمد - رضى الله عنه - .
وعلى ذلك فإن كلام السرخسي عن سبب تأليف الكتاب غير مقبول ، وقد
يوجه توجيهاً صحيحاً بأن المقصود ( السير الصغير) ، أو أن نقول إن المراد بكلام
الأوزاعي هو( الرد على سير الأوزاعي ) لأبي يوسف وليس ( السير الكبير ) .
وقد نكون في غنى عن هذا كله ، إذا علمنا شغف محمد - رحمه الله - بالعلم
والتأليف ، وأن ذلك كان تلبية لحاجة العصر الذي عاش فيه ، فكان من الواجب
الملح بيان أحكام الإسلام في التعامل مع الآخرين ، والمسلمون يقومون بواجب
الجهاد ، فكتب " السير الصغير " أولاً ، ثم أوسع هذا الموضوع بحثاً في " السير
الكبير " .
-5-
ولبيان قيمة هذا الكتاب وأهميته نذكر أن محمداً - رحمه الله - لما فرغ من
الكتاب أمر أن يكتب هذا الكتاب في ستين دفتراً ، وأن يحمل على عجلة إلى باب
الخليفة ، فقيل للخليفة : قد صنف محمد كتاباً يحمل على العجلة إلى الباب . فأعجبه
ذلك وعدَّه من مفاخر أيامه . فلما نظر فيه ازداد إعجابه به . ثم بعث أولاده إلى
مجلس محمد - رحمه الله - ليسمعوا منه هذا الكتاب .
ومن الطريف في نقل الكتاب وروايته : أن إسماعيل بن توبة القزويني -
مؤدب أولاد الخليفة - كان يحضر معهم ليحفظهم كالرقيب ، فسمع الكتاب ، ثم اتفق
أن لم يبقَ من الرواة إلا إسماعيل بن توبة وأبو سليمان الجوزجاني ، فهما رويا ... عنه هذا الكتاب . شرح السير الكبير : (شرح السير الكبير : 1/3-4).
* وقد أثنى على هذا الكتاب كل الباحثين المهتمين بالعلاقات الدولية في
الإسلام ، ووجدوا فيه علماً غزيراً ، وأسلوباً ممتعاً ، وفقهاً أصيلاً ، فقال الدكتور
نجيب أرمنازي في كتاب (الشرع الدولي في الإسلام) (ص45) : ( هو كتاب
غزير المادة ، جم الفوائد ، قد استوعب أصول هذا العلم ، واستقصى غرائب مسائله ، ولم يقتصر فيه على ما ذهب إليه أعلام المذهب الحنفي ، بل أورد كثيراً من
مذاهب الآخرين وناقش أصحابها في حججهم . وطريق محمد في الترجيح في هذا
الكتاب هو أنه نظر فيما اختلف فيه أهل العراق وأهل الشام وأهل الحجاز ،
فرجح ما اتفق عليه فريقان ، فأخذ به دون ما تفرد به فريق واحد ، وهذا خلاف ما
هو ظاهر المذهب في الترجيح عند الحنفية ) .
* وتحدث الدكتور محمد الدسوقي في أطروحته (الإمام محمد بن الحسن
الشيباني وأثره في الفقه الإسلامي) فقال : " وأما كتاب " السير الكبير " فهو عمل
فريد في بابه ، لم يؤلف فقيه غير الإمام محمد مثله في موضوعه ، سواء الذين
تقدموا عليه أو تأخروا عنه . وليس معنى هذا أن الإمام محمداً اخترع كتابه اختراعاً ، فالمعروف أن بعض الفقهاء الذين تتلمذ لهم محمد تحدثوا عن السير ، كالإمام أبى
حنيفة والأوزاعي وأبي يوسف ، ولكن كل ما جاء عن هؤلاء الأئمة في هذا
الموضوع كان يدور في نطاق محدود من القضايا ، وكان أشبه بالمحاولات الأولى
بالنسبة للبحث الشامل المفصل الذي كتبه الإمام محمد ، فاستحق أن يكون - عن
جدارة - رائد التفكير في القانون الدولي في العالم كله .
لقد استقى الإمام محمد مادة كتابه من الآثار والأخبار من علماء عصره فقهاء
ومحدثين ، وكانت هذه المادة الأساس الذي أقام عليه محمد عمله المبتكر الرائع الذي
يشهد له بغزارة العلم وعمق التفكير ، وشمول النظرة ، ودقة التفصيل والتبويب
والتفريع " .
* وهذا كله يعلي من شأن هذا الكتاب وقيمته ، فهو بحق أول كتاب في
القانون الدولي العام والخاص في العالم كله ، وهذا يضع تاج فخار على هامة الإمام
محمد ، ويجعله رائد القانون الدولي ، قبل أن يتفطن علماء القانون الوضعي إلى
أهمية هذا الفرع من القانون والكتابة فيه ، مما جعلهم يلتقون على إنشاء جمعية
دولية باسم ( جمعية الشيباني للقانون الدولي) في (غوتنجن) بألمانيا ، وقد انتُخب
لرئاستها آنذاك (1955م) الفقيه المصري الدكتور عبد الحميد بدوي ، وتهدف هذه
الجمعية إلى التعريف بالشيباني وإظهار آرائه ونشر مؤلفاته المتعلقة بأحكام القانون
الدولي الإسلامي .
ثم أعاد تنظيم هذه الجمعية المستشرق العراقي الصليبي مجيد خدوري ، الذي
أخرج كتاب( السير الكبير) في طبعة جديدة ، وهو مأخوذ من كتاب (الأصل) ...
للإمام محمد ، وهو يختلف عن كتاب ( السير الكبير) الذي وضعه مستقلاً بهذا الاسم
وشرحه السرخسي ، وهذا يسلمنا إلى بيان شروح وطبعات الكتاب واللغات التي نقل إليها .
-6-
ذكر بعض مَن كتب عن الإمام محمد بن الحسن أن (السير الكبير) توجد منه
نسخ خطية في مكتبات إستانبول في تركيا . ولكن المعروف أنه لا يوجد مستقلا ،
وإنما توجد نسخ له ممزوجة مع شروحه ، ومن ذلك :
شرح الإمام محمد بن أحمد السرخسي (المتوفى سنة 495ه) ، وهذا الشرح له
نسخ كثيرة في برلين وفيينا وليدن وباريس وفي مكتبات تركيا : عاشر أفندي ،
وعاطف أفندي ، ونور عثمانية ... وقد ذكر أماكن وجوده فيها المستشرق بروكلمان
في كتابه (تاريخ الأدب العربي) (3/255) من الترجمة العربية . ...
وقد طبع هذا الشرح في حيدر آباد في الهند عام (1936م) ويقع في أربع
مجلدات . كما نشرته جامعة الدول العربية (معهد المخطوطات) بالقاهرة ما بين
عامي (1971-1972م) بتحقيق صلاح الدين المنجد للأجزاء الثلاثة الأولى ، ثم
أكمل بتحقيق الجزئين الرابع والخامس ، فاكتمل في خمسة أجزاء ضخمة ، ثم
صُورت عنها طبعة جديدة .
وقامت جامعة القاهرة بإخراج طبعة أخرى محققة له ، عام (1958م) ، فصدر
عن مطبعتها الجزء الأول فقط وقد كتب التمهيد والتعليقات الشيخ محمد أبو ... زهرة وحقق النصوص ووضع فهارسه مصطفى زيد ، ولم يكتمل هذا المشروع للجامعة .
وللسير الكبير شرح آخر بعنوان (التيسير على السير الكبير) بقلم محمد
المنيب العينتابي ، ومنه نسخة خطية بمكتبة عارف حكمة بالمدينة النبوية . وقد
ترجم شرح السرخسي وأصله إلى لغات أخرى ، فقام الشيخ محمد المنيب العينتابي
بترجمته إلى اللغة التركية في عهد السلطان محمود خان العثماني ؛ ليكون مصدراً
من مصادر معرفة أحكام الجهاد في الإسلام ، وليسهل على قواد الجيش والمجاهدين
في الدولة معرفة هذه الأحكام في الدولة العثمانية . وصدرت هذه الترجمة عام
(1241هـ) في إستانبول ، وتقع في مجلدين اثنين .
وترجمته منظمة اليونسكو إلى اللغة الفرنسية ، ونقل إليها جزءاً منه
المستشرق (دي كررواي) ونشره في جريدة آسية ، في الأعوام (1851 ،
1852 ، 1853م) .
-7-
وقد لا يساعدنا المقام على أن نعرض بالتفصيل لكل أبواب الكتاب بأجزائه
الخمسة ، ولا تقديم دراسة وافية عنها ، فحسبنا أن نشير إلى عدد أبواب كل جزء
وأهم محتوياته ، لعل ذلك يكون عاملاً يدفع إلى الاهتمام بهذا الكتاب النفيس ، الذي
لا يغني في التعريف به كتابة مقال في مجلة ، مهما يكن الجهد والاستيعاب .
يضم الجزء الأول من الكتاب خمسين باباً تنتظم (562) مسألة ، تقع بعد
المقدمة في (370) صفحة ، يليها فهارس للأحاديث والأعلام والأماكن
والاستدراكات والتصويبات .
ومن الأبواب التي يشتمل عليها هذا الجزء : فضيلة الرباط في سبيل الله ،
الإمارة ووصايا الأمراء ، مبعث السرايا ، الرايات والألوية ، القتال في الأشهر
الحرم ، السلاح والفروسية ، الحرب وكيف يعبأ لها ، من أسلم في دار الحرب ،
أموال المعاهدين ، الجهاد مع الأمراء ، الخُمس والصدقة ، ما يجب من طاعة ولي
الأمر وما لا يجب ، قتال النساء مع الرجال وشهودهن الحرب ، سجدة الشكر
وصلاة الخوف ، الأمان وفيه بحوث كثيرة .
ويقع الجزء الثاني في (818) صفحة يليها فهارس متنوعة كالتي سبقت
الإشارة إليها ، وهو يضم الأبواب من (51-90) وتشتمل على المسائل من (563-
1466) ، وفيه تتمة أبواب الأمان المتنوعة الشاملة لشروط الأمان وأركانه ومن
يعقده ، والحديث عن الرسل (لسفراء) والمستأمنين والحكم في أهل الحرب ، ثم
أبواب الأنفال ، مما كان خالصاً للرسول -صلى الله عليه وسلم- ، والنفل في دار
الحرب ، وما يبطل فيه النفل وما لا يبطل ، والسلب والنفل لأهل الذمة والعبيد ،
والاستثناء فيه ، وغير ذلك مما يتصل بهذه المباحث المهمة في سياسة المسلمين
الحربية .
وأما الجزء الثالث فيقع في (315) صفحة ويتضمن الأبواب (91-113) ،
وفيه تتمة أبواب الأنفال والسهمان للخيل وغيرها في دار الإسلام ودار الحرب ،
ودخول المسلمين دار الحرب ، والغنيمة ، وكيفية قسمة الغنيمة وبيان من يستحقها ،
وقسمة الخمس والغنائم .. الخ .
ويبحث الجزء الرابع في الأبواب (114-159) بمسائل كثيرة متنوعة ،
داخل الأبواب عن : الأسارى والحكم فيهم ، والتجار الذين يدخلون دار الحرب ،
وما جاء في الخيانة في الغنيمة ، والسبايا والنفقة عليهم والعدة ، وهدية أهل الحرب
، وما يكون إحرازاً للغنيمة وما لا يكون ، ثم ما يصيبه الأسراء والذين أسلموا من
دار الحرب ، والمستأمنين يأخذون أموال أهل الحرب ، وما يحرزه المشركون
ويظهرون عليه من أموال المسلمين ، والفداء ، والاستعانة بأهل الشرك ، وما يكره
إدخاله دار الحرب وما لا يكره ، وما قتله من أهل الحرب وما لا يكره وكيفية
سياسة الحرب بما فيها من قواعد إسلامية رائعة ... الخ .
وينتهي هذا السفر النفيس بالجزء الخامس الذي يقع في حوالي (650) صفحة
تضم الأبواب (160-218) وفيها المسائل من (3361-4572) وهو يتضمن أبواباً
مهمة مثل : أبواب الموادعة ، نكاح أهل الحرب ، إثبات النسب من أهل الحرب
ومن السبايا ، الحدود في دار الحرب ، ما يجب من النصرة للمستأمنين وأهل الذمة ، معاملة المسلم المستأمن مع أهل الحرب في دار الحرب ، مواريث القتلى ، باب
الأسير والمفقود ، باب المرتد في دار الحرب وما يتعلق بالمرتدين من أحكام مختلفة ، العين (الجاسوس) ، ما يختلف أهل الحرب وأهل الذمة في الشهادتين والوصايا ،
من أسلم على شيء فهو له ، الحبيس في سبيل الله ، الوصية بالمال في سبيل الله ،
باب العشور في أهل الحرب ، باب الجزية ، الخمس من المعدن والركاز يصاب في
دار الحرب ، ما يصدق فيه المسلم على إسلام الكافر ، الدعاء إلى الإسلام ، باب
الاستبراء ، خروج العبد بأمان من دار الحرب ، العبد يعتق بالإسلام أو لا يعتق ؟
-8-
وإذا أردنا أن نوجز ما في الكتاب باختصار شديد ، نقول : إنه يضع أسس
العلاقات الدولية في حال السلم والحرب ، فيبين معنى السير والجهاد ، وأهمية
الجهاد وغايته ، ويحدد علاقة أهل الذمة بالمسلمين ، وما يخصهم من أحكام ، وينظم
حالة السلم ، ويضع أسس التنظيم والعلاقات في حال الحرب مبيناً مشروعية الجهاد ، وإقليم الدولة ومدى سريان النصوص القانونية فيها من حيث الزمان والمكان ،
وسياسة الحرب في الإسلام وتحديد المقاتلين ، وبدء الدعوة للحربيين قبل الحرب ،
وما يتبع ذلك من آثار في الأموال والأشخاص ، كما يحدد العلاقة مع المحايدين ،
وينظم حال الحياد ، ويفصل أحكام المعاهدات والصلح والمستأمنين ... وغير ذلك
مما يبحثه اليوم علماء القانون الدولي .