الفَهْمُ الصَّحِيحُ لِمَنْهَجِ السَّلَفِ (3)
الشيخ عبدالرزاق بن عبدالمحسن البدر
ما زال الحديث موصولاً عن الفَهْم الصَّحِيح لِمَنْهَجِ السَّلَف؛ حيث ذكرنا أنه ينبغي لكل مسلم يريد سعادة نفسه وفوزها وفلاحها وسعادتها في الدُّنيا والآخرة، أن يهتمَّ بهذا الفهم الصَّحيح، وأن يُعنى بذلك غاية العناية؛ لأنّ الأمر والعبرة ليس بمجرَّد الدعوى، وإنَّما العبرة بالحقائق والأعمال، واليوم نعرض لبعض الأسئلة التي أُجيب عنها، وتدور حول هذا الفهم، والإشكالات التي تدور حوله.
الانتساب لمنهج السلف
- ما قولكم فيمن يقول لمن ينتسب إلى منهج السلف الصالح بأنه وهابي؟
- هذا من قديم، وأهل الأهواء البدع يحاولون صرف الناس عن الحق وعن المنهج الصحيح، (منهج السلف الصالح) بوضع ألقابٍ معيَّنة، ثم يصِفون هذه الألقاب بصفات مستشنعة وبشِعة، ثم من خلال ذلك ينفِّرون النَّاس عن هذه الدعوة، فالشيخ محمد بن عبد الوهاب إمام من أئمة أهل السنة، وشيخ من الشيوخ السلفيين، وهو يدعو إلى اتِّباع منهج السَّلف الصالح، ويدعو إلى التمسك بكتاب الله وسنة نبيه -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، ولم يأت بدين جديد ولم يأتِ بمذهب جديد، لكن أهل البدع والأهواء أرادوا صرف الناس عن هذه الدعوة الصحيحة (الدعوة إلى عبادة الله وإخلاص التوحيد له وإخلاص الدين له واتباع سنة نبيهم - صلى الله عليه وسلم - والتحذير من الشرك والبدع)، فجاء أهل البدع بصرفهم عنه فأخذوا يلقبونه بألقاب، ذكروا أنه وهابي، وأن الوهابية مذهبٌ خامس، وأنها دينٌ جديد، وأن ابن عبد الوهاب يكفِّر المسلمين وكذا وكذا، كل ذلك بقصد صرف الناس عنه.
هدفهم صرف الناس عن الحق
ثم كل من كان على السنة وعلى المنهج السلفي الصحيح يصفونه بهذه الصفة، ثم يلقبونه بهذا اللقب ويصفونه بالصفات التي جعلوها لازمةً لهذا اللقب من عندهم، فكل هذا مقصوده التنفير، والأنبياء حصل لهم مثل ذلك وأكثر، وصفوا النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه ساحر وأنه مفترٍ، وأنه يقول على الله، وأنه تقول القرآن، وأشياء من هذا القبيل، والمسلم لا يؤثر فيه أراجيف هؤلاء وطرائقهم في الصرف عن الحق ويصبر ويحتسب، وإلا فعلاً هؤلاء مقصدهم بهذا القدح في المنهج والقدح في شخص الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- ووصفوه بصفات كثيرة لا مجال لبسطها.
اتهام كل متَّبع لهذا المنهج
ثم إنهم يجعلون كل متَّبع لهذا المنهج سالك لهذا السبيل يقولون: هو وهابي، أي على طريقة محمد بن عبد الوهاب، وقد أخذت الغفلة بعضهم فاختلَّ عنده الزمن التاريخي، فأحدهم قال عن ابن القيم -رحمه الله-: «ابن القيم وهابي» مع العلم أن ابن القيم -رحمه الله- متوفى قبل شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بقرون ! وهذا يؤكد لكم أن هؤلاء إنما قصدوا بذلك التنفير بأي طريقة كانت وبأي صفة.
الفرقة الناجية
- من هي الفرقة الناجية؟ وما صفاتها؟ ومن الطائفة المنصورة؟ وما الفرق بينهما؟
- ورد حديثان عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، أحدهما يقول فيه -صلى الله عليه وسلم -: «لَتَفْتَرِقَنّ َ أُمَّتِي عَلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَاثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ», قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ هِيَ؟ , قَالَ: »الْجَمَاعَةُ»، وورد في الحديث الآخر: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي مَنْصُورِينَ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ»، والفرقة الناجية هي الطائفة المنصورة (أهل السنة والجماعة)، هذا عند أهل العلم جميعهم لا يفرِّقون بين الفرقة الناجية والطائفة المنصورة، فيجعلون الفرقة الناجية فئة وطائفة، والطائفة المنصورة فئة أخرى وطائفة، وهو لقب لجماعة المسلمين المتمسكين بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - الملازمين للجماعة، ولهذا ابن تيمية -رحمه الله- في مقدمة كتابه العقيدة الواسطية -الذي يحفظه كثير من طلبة العلم وقد كتبه للحفظ- يقول فيه: «أما بعد؛ فهذه الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة أهل السنة والجماعة»؛ فأهل السنة هم الفرقة الناجية وهم الطائفة المنصورة، لكن هذه صفات لموصوف واحد، الناجية؛ لأنهم سلكوا سبيل النجاة والأخذ بالسنة والاقتداء بالأمر.
والمنصورة؛ لأن الله -عز وجل- وعد بنصر أنبيائه وأتباعهم {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا} (غافر: 51) {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (الروم: 47)؛ فهي لا تزال منصورة فسُموا بذلك؛ لأن الله -عز وجل- وعَد بنصرهم.
وسموا أهل السنة: لتمسكم بالسنة.
وسُموا أهل الجماعة: لبعدهم عن الفرقة وتمسكهم ولزومهم لجماعة المسلمين.
سُموا سلفيين: لاتِّباعهم السلف الصالح؛ فكلها أسماء لمسمى واحد وصفات لموصوفٍ واحد.
حقيقة الخلاف بين السلفيين والأشاعرة
- ما حقيقة الخلاف في مصدر التلقي بين السلفيين والأشاعرة؟
- التفصيل يطول لكن يمكن الإجمال: أهل السنة - مر معنا - مصدر التلقي عندهم في العقيدة كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -قال -تعالى-: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} (النساء: 59)، بينما الأشاعرة مصدر التلقي عندهم العقل والمقدَّم عندهم العقل، وعندهم في هذا فلسفة، يقولون: «نحن لم نعرف النقل إلا بالعقل «من خلال العقل عرفنا النقل هو الذي دلنا، فلهذا يقولون لا يجوز أن يقدَّم النقل على العقل والذي دلنا إلى النقل هو العقل، ولهم في هذا كلام طويل لكن أحد أهل العلم أظنه شيخ الإسلام ابن تيمية ضرب مثالا يوضح فيه فساد هذا القول أو فساد هذا الاستدلال خصوصا، يقول: مثل هؤلاء مثل رجل جاء إلى عامي واستفتاه في مسألة؛ فقال له العامي: أنا ليس عندي علم ولكن هيا أدلك على عالم فدله على عالم فأفتاه العالم، عندما أفتاه العالم قال العامي: «ليس هذا الصواب بل الصواب كذا والواجب عليك أن تأخذ بقولي لا بقول العالم؛ لأني أنا الذي دللتك على العالم «والمعلوم هنا أنه لا يجوز أن يأخذ بقول العامي وإن كان العامي هو الذي دله أو أرشده إلى مكان العالم، فاللائق أن يقول له «قبِلت قولك وتزكيتك له بأنه عالم دونك، ولن أقبل قولك أو أقدِّم قولك على قوله». فإذا كنا عرفنا النقل بالعقل وعرفنا صحته وأنه هو الذي يهدي للتي هي أقوم لا يجوز أن نقدِّم العقل عليه بل نقدم النقل ونتهم عقولنا في الدين وفيما صح عن النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم .
المصدر عند هؤلاء العقل
فالشاهد أن المصدر عند هؤلاء العقل، وشيخ الإسلام له في هذا كتاب معروف (درء تعارض العقل والنقل)، لأنه يقرر إن كان النقل صحيحاً فإنه لا يعارض النقل السليم، لكن هؤلاء لما أشربوا ببعض الأهواء والبدع صارت تعارض النقل فقدَّموا العقل عليها، وكما أشرت تفصيل هذا يطول وفي هذا الموضوع حقيقة كتب كثيرة في الفرق بين أهل السنة والأشاعرة أو الرد عليهم، ومن أهم ما كُتب في ذلك كتابان: الذي بعنوان (منهج شيخ الإسلام ابن تيمية في الرد على الأشاعرة)، و كتاب الشيخ خالد عبد اللطيف في الجامعة الإسلامية (الفرق بين منهج أهل السنة والجماعة ومنهج الأشاعرة في التوحيد)، الكتابان فيهما بسط جيد وواف، سواء في مصدر التلقي أمن في التفاصيل، وطالب العلم المهتم يحصِّل الكتابين ويستفيد منهما -إن شاء الله.
ذكر محاسن المبتدعة
- هل من منهج السلف ذكر محاسن المبتدعة على الإطلاق أم أن هناك ضوابط لهذا الأمر؟
- ذكر محاسن المبتدعة على الإطلاق دون ذكر المساوئ هذا فيه غش وخيانة وتلبيس على الناس؛ لأنها عندما تُذكر محاسن هؤلاء ويُسكت عن مساويهم يغتر الناس بهم وينخدعون ويأخذون ما هم عليه من بدعٍ وأهواء، فالواجب في هذا المقام التحذير وبيان الأخطاء نصيحةً للأمة ونصيحةً لهذا المبتدع نفسه؛ لأنه إذا بُينت مساويه وحُذِّر الناس منها يَسْلم من شيء من شرورها؛ لأن الله -عز وجل- يقول: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} (النحل: 25)، فإذا حُذِّر الناس من هذه البدع وبُيِنت لهم هذه الأخطاء وتركوها لاشك أن هذا فيه خير حتى للمبتدع نفسه؛ لأنه سيقِلُّ أتباعه وتقِلُّ التبعة التي عليه، فهذا فيه فائدة له وفائدة للمدعوين، أما ذكر المحاسن والسكوت عن المساوئ فيه خطر على المبتدع نفسه وعلى المدعوِّين؛ ولهذا كان من سبيل أهل السنة في مقام التحذير ذكر المساوئ فقط؛ فيقولون فلان جهمي، فلان مرجئ، فلان خارجي، فلان قدري، فلان كذاب بما يتعلق برواية الحديث، فلان ضعيف، بل أفردوا كتبا خاصة، كتبا باسم الكذابين مثلا أو الوضَّاعين، والكتاب تجده في ثلاث مجلدات وأربع مجلدات، كلها قائمة على هذا فلان ابن فلان كذاب، فلان بن فلان رُمي بالوضع ولا يذكر شيئا مع أنه كان يصلي ويصوم وله محاسن لا يذكرون شيئا من ذلك !؛ لأن المقام مقام تحذير ومقام بيان للأمة ونصيحة من الخطر، وإذا سُكت عن مثل هذا انتشرت البدع والأهواء، لكن ينبغي أن يكون هذا قائم على العدل والإنصاف وقصد النصيحة، لا يكون بقصد مثلا التشفي أو الحقد أو الحسد أو مجرد الاغتياب، وإنما يكون قصده بذلك النصح له وللمسلمين، النصيحة لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم، فالأمر بلا إفراط ولا تفريط، وبلا غلو ولا جفاء، لا نسكت عنهم ولا أيضاً نظلمهم.
السكوت عن بدعة المبتدع
- هل من منهج السلف السكوت عن بدعة المبتدع بحجة أنه يخدم الدين؟
- لا، ليس هذا من منهج السلف، إذا كان له بدعة يُخشى على الأمة منها مثلا يتأوَّل الصفات أو مثلاً يجوِّز الاستغاثة بغير الله أو يقع في بعض الصحابة، ويطعن فيهم أو أشياء من هذا القبيل يُخشى على الأمة أنها تغتر بهذه البدعة، بل تبيَّن بالتي هي أحسن ويُنصح للناس، ولا مانع أن يقال فلان في الكتاب الفلاني قال كذا وكذا وكلامه باطل أو هو بدعة وضلال، نبين بدعته ونستغفر له، نسأل الله -عز وجل- أن يغفر له وأن يرحمه لكن بدعته نبيِّنها، ندعو له إن كان حياً ونستغفر له إن كان ميتا، أما البدعة نحذِّر منها، يعني عندما نأتي مثلا إلى (إحياء علوم الدين) للغزالي لابد أن نبين ما فيه من أخطاء حتى لا يغتر الإنسان به، عندما نأتي أيضاً إلى كتب المعاصرين المشتملة على ضلالات وبدع وأخطاء نسميها ونقول هذا الكتاب فيه كذا وكذا لكن يكون الكلام بعلم ويكون أيضا المقصد النصيحة والتحذير، ونشاطه في الساحة إن كان سليماً فهذا خير والحمد لله وعندما نبين الأخطاء التي في البدع ربما يعود هو أو ربما يتركونها أتباعه هذه البدع عندما يسمعون تحذير أهل العلم منها فيكون هذا مما يزيد الساحة الإسلامية سلامة وقوة وتمسكا بالسنة واعتصاما بها، فالمقصد ينبغي أن يكون عند الجميع هو نصر السنة والمحافظة عليها والتحذير من البدعة والتقليل منها.