مؤسسات الاجتهاد الجماعي
الدكتور أحمد بن عبد الله الضويحي*
من أبرز النوازل الأصولية في هذا العصر ظهور ما يسمى بـ : " مؤسسات الاجتهاد الجماعي"، وهي: مؤسسات حكومية أو مستقلة تضم نخبة من علماء الشريعة، ويناط بها النظر في القضايا الشرعية وفق آليات وضوابط خاصة.
وهذه المؤسسات منها ما يغلب عليه الطابع المحلي كدور الإفتاء في بلدان العالم الإسلامي، ومنها ما يكون عاماً للعالم الإسلامي بأسره كمجمع الفقه الإسلامي الدولي بجدة، والمجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة، ونحوها.
وسوف أقسم الكلام في هذه النازلة إلى خمس مسائل:
أبرز المؤسسات القائمة اليوم
يوجد في العالم الإسلامي جملة من مؤسسات الاجتهاد الجماعي، ولا يكاد يخلو بلد إسلامي من مؤسسة أو أكثر، غير أن أشهرها ما يأتي:
1 – مجمع الفقه الإسلامي الدولي بجدة التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي.
2 – المجمع الفقهي الإسلامي بمكة المكرمة التابع لرابطة العالم الإسلامي.
3 – هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية.
4 – اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالمملكة العربية السعودية وهي متفرعة عن هيئة كبار العلماء، ويختار أعضاؤها من بين أعضاء الهيئة.
5 – مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر بمصر.
6 – المجلس الإسلامي الأعلى بتونس.
7 – المجلس العلمي الأعلى بالمغرب.
8 – مجلس الفكر الإسلامي بباكستان.
9 – مجلس الإفتاء الشرعي في السودان.
10- هيئة الفتوى في الكويت.
11- مجمع فقهاء الشريعة بأمريكا بنيويورك.
12- المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث بإيرلندا.
13- مجمع الفقه الإسلامي بالهند.
وهذه المؤسسات تحكمها أنظمة ولوائح داخلية تختلف من مؤسسة إلى أخرى لكنها جميعاً تعتمد منهج الاجتهاد الجماعي القائم على التشاور والتذاكر في القضايا التي تكون مطروحة للنقاش وإبداء الرأي، ويتبع هذه المؤسسات- في الغالب- لجان للبحوث الشرعية تمدها بما تحتاج إليه من الدراسات والبحوث المتخصصة[1]، وقد تستكتب في بعض الأحيان أساتذة وأكاديميين متخصصين لتقديم بحوث أو أوراق عمل تتعلق بالمسألة المطروحة، وقد تستعين بذوي الاختصاص والخبراء من اقتصاديين، أو أطباء، أو نحوهم، من أجل إعطاء التصور الدقيق للواقعة أو للمسألة الجديدة[2].
أهمية هذه المؤسسات
تبرز أهمية هذه المؤسسات في العصر الحاضر من خلال النقاط الآتية :
1 – كثرة الحوادث والمستجدات في ظل المدنية الحديثة والتطور العلمي والتقني المتسارع الذي شمل كافة جوانب الحياة.
2 – اتسام مشكلات العصر بالتعقيد[3] نتيجة لتغير الأحوال والظروف، وتطور الأدوات والوسائل في شتى المجالات، ففي باب المعاملات - مثلاً - ظهرت جملة من الصور التي لم تكن معروفة لدى السابقين، كالمعاملات المصرفية الحديثة، والتجارة الإلكترونية، والتأمين بأنواعه، وفي الطب برزت مسائل جديدة، كالتدخل في الجينات، والاستنساخ، والموت الدماغي، ونقل الأعضاء، وغيرها، بل ظهرت نوازل معقدة تتعلق بالعبادات، كتقدير الوقت للصلاة والصوم في الطائرة، ونحو ذلك.
وهذه الصور لا يغني فيها الاجتهاد الفردي، بل تحتاج إلى النظر الجماعي المنظم القائم على التشاور والتذاكر، والمستند إلى دراسات مستفيضة تكشف واقعها وتجلي حقيقتها من قبل أهل الاختصاص، وهذا الأمر لا يتم إلا من خلال مؤسسات تنشأ لهذا الغرض، وتوضع لها الضوابط والآليات الكفيلة بتحقيقه.
3 – صعوبة توفر شروط الاجتهاد التي نص عليها علماء الأصول في الأفراد[4]، فمن تأمل واقع العصر أدرك أن هذا الأمر بات في حكم النادر، وما من شك في أن اللجوء إلى الاجتهاد الجماعي المنظم يحل هذه الإشكالية، ويغطي النقص الذي قد يكون في الأفراد، فإن تحقق هذه الشروط في مجموع المجتهدين أقرب – نسبياً- من تحققه في أفرادهم، على اعتبار أن كل واحد منهم يكمل الآخر ويسدد ما لديه من النقص.
4 – أن في الاجتهاد بهذه الطـريقة إعمالاً لمبدأ الشورى الذي حث عليه الإسلام ودعا إليه في الأمور كلها، وقد بادر الصحابة إلى تطبيق هذا المبدأ عند الاجتهاد في النوازل، وسيأتي بيان نماذج من أقوال الصحابة وأفعالهم التي تدل على أهمية النظر الجماعي في المسائل الجديدة.
وإذا كانت هذه هي طريقة الصحابة رضوان الله عليهم فحري بنا أن نتأسى بهم في ذلك، وأن نسعى إلى تطوير الوسائل والآليات المناسبة التي تعين على تحقيق هذه الغاية المهمة، ومن ذلك إنشاء مؤسسات خاصة تعنى بالاجتهاد الجماعي المنظم، فإنها من البدع الحسنة في هذا الزمان.
يقول الإمام الشافعي ت204هـ – وهو يبين أهمية مشاورة المجتهد غيره، واستماعه إلى آراء من يخالفه، وأن ذلك أدعى لإصابة الحق- : "ولا يمتنع من الاستماع ممن خالفه، لأنه قد يتنبه بالاستماع لترك الغفلة، ويزداد به تثبيتاً فيما اعتقده من الصواب، وعليه في ذلك بلوغ غاية جهده، والإنصاف من نفسه، حتى يعرف من أين قال ما يقول وترك ما يترك، ولا يكون بما قال أعنى منه بما خالفه حتى يعرف فضل ما يصير إليه على ما يترك إن شاء الله"أ-هـ[5].
5 – أن لهذه المؤسسات دوراً بارزاً في تضييق هوة الخلاف بين مجتهدي العصر، وذلك لأن اجتماعهم في مكان واحد ييسر دروب المناظرة والحوار والنقاش، ويساهم في تمحيص الأدلة والحجج، ومما لاشك فيه أن التواصل بين المختلفين في مسألة ما، وطرح كل فريق ما لديه، وسماع ما لدى الآخرين من أسباب إصابة الحق، والأمن من الخلل في الفهم، وعلى العكس، فإن عدم اجتماعهم والاكتفاء بنقل خلافهم قد يورث خللاً في الفهم، فينسب إلى العالم قولاً لا يعنيه، وقد حدث هذا مع جهابذة العلماء، كالأئمة الأربعة، وغيرهم، في مسائل أصولية وفرعية، ولعل من أشهرها : خلاف الشافعي مع أبي حنيفة في الاستحسان، وخلاف الأئمة الثلاثة مع مالك في عمل أهل المدينة[6]، وغيرها، فإن من حقق أقوال الأئمة في مثل هذه المسائل أدرك أن نقل الخلاف فيها مرده إلى الفهم الخاطئ، وكثيرة هي المسائل التي يحكى فيها الخلاف بين الأئمة، ثم ينتهي المحققون فيها إلى أن الخلاف لفظي، وأن سببه عدم تحرير محل النزاع.
العلاقة بين اجتهاد المؤسسات ودليل الإجماع
سبق القول بأن بداية ظهور دليل الإجماع كانت في عهد الصحابة رضوان الله عليهم، من خلال مجالس الاجتهاد الجماعي التي كان الخلفاء يعقدونها للنظر في حكم النوازل التي تقع[7]، ومن ذلك قصة جمع عمر لفقهاء الصحابة في حد الخمر، ودية الجنين، وغيرها.
يقول المسيب بن رافع ت150هـ :- "كانوا إذا نزلت بهم قضية ليس فيها من رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر اجتمعوا لها وأجمعوا فالحق فيما رأوا"أ-هـ[8].
ومن تأمل واقع مؤسسات الاجتهاد الجماعي القائمة حالياً وجد أنها وإن كانت تضم في مجموعها أبرز مجتهدي العصر، إلا أن تعددها، وعدم وجود منظمة واحدة تجمعها جميعاً يحول دون إمكانية انعقاد الإجماع الحقيقي من خلال أي منها، وذلك لأنها لا تضم كافة مجتهدي العصر، إلا أن انعقاد الإجماع السكوتي من خلالها أمر متصور وقريب، وذلك لأن قراراتها وفتاواها تنتشر وتشتهر بسرعة فائقة، وعبر وسائل الأعلام، وهو ما ييسر اطلاع بقية المجتهدين عليها، ويعطي غلبة ظن بوجود أو عدم وجود مخالف لها، وإذا كان كثير من الأصوليين يرى بأن قول الواحد إذا انتشر ولم يعلم له مخالف فإنه يكون إجماعاً سكوتياً[9]، فكيف بقول الجماعة إذا تحاوروا وتناظروا وتذاكروا ثم اتفقوا على رأي واحد فانتشر ولم يعرف له مخالف؟.
دور هذه المؤسسات في النوازل
النوازل بطبيعتها تحتاج إلى ضرب من الاجتهاد العميق القائم على التدقيق والتمحيص ودراسة كافة الأحوال والظروف المؤثرة، وهذا النوع من النظر قد لا يتحقق على الوجه الصحيح في الاجتهاد الفردي، لتعذر توفر كافة متطلباته في مجتهد واحد، ولذا فإن السبيل الذي تطمئن إليه النفوس في استنباط حكم النوازل هو الاجتهاد الجماعي[10]، واجتهاد المؤسسات يعد نموذجاً حياً لهذا الضرب من الاجتهاد، وهو تفعيل حقيقي لمبدأ الشورى، الذي أرشد إليه الإسلام، وحث على اللجوء إليه في الأمور كلها، يقول سبحانه : {وشاورهم في الأمر}[11]، ويقول : {وأمرهم شورى بينهم}[12]، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه، ويأمر بالمشاورة[13]، وقد روي عن علي رضي الله عنه أنه قال : قلت: يارسول الله الأمر ينزل ليس فيه قرآن ولم تكن فيه منك سنة؟ قال : اجمعوا له العالمين- أو قال العابدين- مـن المؤمنين فاجعلـوه شـورى بينكـم ولا تقضوا فيه برأي واحد"[14].
وقد استلهم الصحابة هذا المعنى – أعني حاجة النوازل إلى الاجتهاد الجماعي والمشورة- في عهد مبكر[15]، حيث روي عن أبي بكر وعمر أنهما كانا يجمعان رؤوس الناس ويستشيرانهم في الأحكام[16]، وقصة جمع عمر لفقهاء الصحابة في حد الخمر ودية الجنين وغيرها خير شاهد على ذلك، وجاء في وصيته لشريح : "فإن لم تعلم فاجتهد رأيك واستشر أهل العلم والصلاح"[17].
وقد سار التابعون على منهج الصحابة في ذلك حيث روي عن عمر بن عبدالعزيز أنه كان يجمع فقهاء المدينة ويستشيرهم حينما كان والياً عليها[18].
قال الإمام مالك ت177هـ: "أدركت هذا البلد وما عندهم إلا الكتاب والسنة فإذا نزلت نازلة جمع الأمير لها من حضر من العلماء فما اتفقوا عليه أنفذه"[19].
وقال ابن عبدالبر ت463هـ – في سياق بيانه للأحكام المستفادة من قصة خروج عمر رضي الله عنه ولقائه بأمراء الأجناد- : "وفيه دليل على أن الإمام والحاكم إذا نزلت به نازلة لا أصل لها في الكتاب ولا في السنة كان عليه أن يجمع العلماء وذوي الرأي ويشاورهم"[20].
ومما يدل على أهمية النظر الجماعي والمشورة في النوازل أن السلف كانوا يرحلون من بلد إلى بلد في طلب مسألة[21]، وقد عقد البخاري ت256هـ في صحيحه باباً سماه : "باب الرحلة في المسألة النازلة"[22].
وحاصل القول أن الاجتهاد الجماعي المنظم في النوازل أرجح – في اعتقادي- من اجتهاد الأفراد، وذلك لأن الجماعة يسدد بعضهم بعضاً ويكمل بعضهم بعضاً، ولأجل هذه العلة يرى بعض المحققين أن رأي الأكثرية حجة ظنية، وأنه أولى بالاتباع من غيره[23].
ولعل مما يؤكد هذا أن علياً رضي الله عنه لم ينكر على عبيدة السلماني ت72هـ تمسكه بهذا المبدأ في مسألة بيع أمهات الأولاد ، بل نقل عنه أنه ضحك حين قال له عبيدة: "فرأيك ورأي عمـر في الجماعـة أحـب إلي من رأيك وحدك في الفرقة أو قال في الفتنة[24]".
ونظراً لأهمية هذا الأمر فقد صدر بشأنه قرار من المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي ينص على أن يكون الاجتهاد جماعياً بصدوره عن مجمع فقهي يمثل فيه علماء العالم الإسلامي[25].
يتبع