منهج الإمام أحمد في انتقاء الشيوخ
شيوخه الذين جرحهم وروى عنهم
د.عبد الله فوزان الفوزان([1])
ملخص البحث:
1- أن الأصل في رواية عموم الأئمة عدم الانتقاء.
2- وصف إمام من الأئمة بالانتقاء أغلبي نسبي.
3- عدد شيوخ الإمام أجمالاً (453 تقريباً) وعدد شيوخه في المسند (295 شيخاً).
4- الإمام أحمد: ممن عرف واشتهر بالانتقاء في شيوخه من حيث الجملة.
5- كون الإمام يباين التعامل مع شيوخه -بين مجروح روى عنه حديثاً أو حديثين، وعدل لم يرو عنه شيئاً يظهر بجلاء دقة النظر، ورفيع الملاحظة منه لأحاديث الرواة وأنه لم يكن ممن يغتر بظاهر الحال، وبادئ الرأي فيهم.
6- أن انتقاء الإمام في المسند أشد من غيره، وأحوط من سواه.
7- رواية أحمد أو غيره من الأئمة عن مجروح له توجيهات وأعذار متعددة.
8- رواية الإمام عن شيوخه الذين جرحهم له عدة توجيهات: في أنه انتقى من حديثه، أو أخرج له ما توبع عليه، أو لم يكثر عنه، أو روى عنه أحاديث في الفضائل، والترغيب والترهيب أو أن يكون الحديث مما أمر الإمام بالضرب عليه قبل وفاته ولم يتم ذلك.
وصلى على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً
المقدمة:
إن الحمد لله، احمده تعالى بأعلى المحامد واشكره على سوابغ نعمه وعظيم مننه وأصلي وأسلم على خير خلقه وآله وصحبه أما بعد:
فمن المعلوم لدى أهل الصنعة: أن عدداً من الأئمة وصفوا بالانتقاء في الشيوخ, أو ممن قيل فيهم (لا يروي إلا عن ثقة)، أو بعبارة مقاربة (شيوخه ثقات), وهذا كالإطلاق نظري اشتهر وانتشر, وكتب الاصطلاح والتخريج, والعلل تتناقله, وربما قرره بعضهم وأستند إليه في تقوية حديث, أو تعضيد إسناد.
لكن المتأمل للجانب العملي, والواقع الفعلي لشيوخ أولئك الأئمة يلحظ غير هذا، إذ روى عدد منهم عن عديد من الشيوخ المتكلم فيهم بل ربما يكون هو المتكلم في حالهم ومنه صدر جرحهم.
ومن هؤلاء الإمام أبو عبد الله أحمد بن حنبل الذي استوقفني عدد من شيوخه الذين تكلم فيهم وروى عنهم، ويقابلهم ثقات صرح بعد الرواية عنهم، وطائفة ثالثة سمع منهم ثم خرق حديثهم وتركهم.
والإمام: من أشهر وأجل من وصف بانتقاء الشيوخ، ولذا رأيت جمع أولئك الشيوخ في ثلاثة بحوث يتمم بعضها الآخر، فآخرها أخذ بحجزه أولها, ليستبين - بإذن الله تعالى المنهج التطبيقي التفصيلي للإمام في التعاطي مع مسألة الانتقاء- أسأل المولى الإعانة والسداد
فأول هذه البحوث عنوانه (شيوخه الذين جرحهم وروى عنهم- جمع ودراسة)
أهمية البحث وأسباب اختياره:
وتبدو أهمية الموضوع وأسباب بحثه فيما يلي:
1- كونه لم يسبق طرحه وتناوله بهذه الصورة التفصيلية.
2- دفع الاعتراض، أو توهم التناقض في مناهج الأئمة، إذ جمعوا بين جرح الراوي والرواية عنه.
3- فيه الإجابة عن كثير من الإشكالات المتعلقة بمسألة انتقاء الرواة
4- المشاركة في إضافة علمية لخدمة المنهج التطبيقي عند الإمام.
أهداف البحث:
ورجوت في هذه الوريقات تحقيق الأهداف التالية:
1- جمع شيوخ الإمام الذين تكلم فيهم.
2- نقل أقوال بقية الأئمة في هؤلاء الرواة وبيان خلاصة حالهم
3- حصر عدد مرويات كل راو في كتب الإمام الثلاثة: المسند، وفضائل الصحابة والزهد
4- توضيح التطبيق العلمي في الجمع بين جرح الراوي والتحديث عنه.
5- تبين منهج الإمام في كيفية الرواية عن المجروحين من شيوخه.
6- تجلية صورة عملية من منهج الإمام في انتقاء الرواة.
حدود البحث:
وقد كتبت البحث وفق الحدود التالية:
أنه معنى بشيوخ الإمام أحمد الذين لهم رواية في كتبه، لا سيما المسند
البحث عن كلام الإمام فيهم مما يفيد جرحاً، ولو يسيراً أو مقيداً
ألا يكون جرحه لأمر خارج عن شروط العادلة عند أهل الفن.
الدراسات السابقة:
الجهود العلمية المتعلقة بالإمام أحمد: وعلومه كثيرة جداً لكن المختص بشيوخه أو بمسألة الانتقاء والرواية عن الثقات ليست كذلك وقد وقفت بعد تتبع من ذلك على الآتي:
معجم شيوخ الإمام أحمد بن حنبل في المسند، للدكتور عامر حسن صبري، وقد استفدت منه كثيراً, لكنه -وفقه الله- لم يخص ذلك بالمتكلم فيهم, وإنما أراد حصر مطلق للشيوخ في المسند، وإن كان ذكر في مقدمة الدراسة المجروحين من شيوخ الإمام لكنه لم يعتن بنقل جرح الإمام تحديداً في أولئك، كما أنه قد وقع له بعض الهفوات في حصر عدد المرويات في المسند، أو في نقل بعض عبارات الجرح المنسوبة للإمام.
وبكل حال فبحث الدكتور عام، وبحثي خاص بالذين تكلم فيهم الإمام، كما أنني حررت في تمهيد البحث مسألة الانتقاء عند المحدثين عموماً وعند الإمام خصيصاً، ثم قمت بدراسة استقرائية لحصر عدد شيوخ الإمام في كل تراجمه الموسعة، وليس في المسند فقط، وخلصت إلى نتيجة خاصة في هذا.
ولا يخفي عند أهل الفن جهود الدكتور عامر- سدده الله- في خدمة جوانب مهمة من علوم الإمام, لا سيما ما يتعلق منها بالمسند, وكذلك عنايته المتقدمة بتحقيق كتب من عيون مأثور السلف وترثهم.
الرواة المتروكون في مسند الإمام أحمد، للدكتور عامر حسن صبري، بحث منشور في مجلة الأحمدية، العدد الثامن عشر، رمضان عام 1425هـ، وليس فيه أحد من شيوخ الإمام رحمه الله.
دراسات حديثة متعلقة بمن لا يروي إلا عن ثقة، لأبي عمر الوصابي نور الدين بن علي ابن عبد الله السدعي.
بحث الدرر المتناسقة فيمن قيل: أنه لا يروي إلا عن ثقة، لمحمد خلف سلامة نشر في مجلة الحكمة- العدد الثاني عشر- وهو بحث مختصر في جمع من وصف من الأئمة بذلك.
انتقاء الشيوخ عند المحدثين حتى نهاية القرن الثاني الهجري، وأثره في الحكم على الرواية، للدكتور محمد زهير بن عبد الله المحمد، رسالة دكتوراه في جامعة اليرموك بالأردن وقد أجاد, وأبدع, وأفاد, وليته أدخل القرن الثالث حتى يكمل عقد الذهب لقرون الرواية الثلاثة.
بحث بعنوان شيوخ أبي داود كلهم ثقات، الحقيقة بين التنظير والتطبيق، لماهر الفحل، وهو بحث مختصر لمناقشة صاحبي كتاب تحرير التقريب فيما يتعلق بأحكام أبي داود استناداً إلى قاعدة (إن أباً داود لا يروي إلا عن ثقة).
خطة البحث:
وقد رتبت خطة البحث في المساقات التالية:
المقدمة، وتشتمل على أهمية البحث وأسباب اختياره وأهدافه والدراسات السابقة وخطة العمل ومنهج السير في الخطة.
التمهيد وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: لمحة موجزة في انتقاء الشيوخ عن الأئمة.
المطلب الثاني: دراسة إحصائية لشيوخ الإمام أحمد.
المطلب الثالث: تحقيق القول في انتقاء الإمام لشيوخه.
شيوخ الإمام الذين جرحهم وروى عنهم، وعددهم (12 راوياً)
الخاتمة.
الفهارس اللازمة.
منهج البحث:
وقد نهجت في تناول البحث الخطوات التالية:
قمت بجمع هؤلاء الشيوخ المجروحين, وترتيبهم حسب حروف الهجاء.
ذكرت اسم الشيخ ونسبه، ونسبته، وكنيته، ولقبه، ووفاته، ومن روى عنه من أصحاب الكتب الستة، ثم عزوت في الحاشية إلى أهم مصادر ترجمته
بعد ذلك أسوق كلام الإمام أحمد فيه.
ثم أذكر من وافقه على جرح الراوي، ومن خالفه في تعديله إجمالاً
أورد بعده عدد مرويات الإمام عن الشيخ، وكيف روى عنه.
أسأل الله تعالى التوفيق لما يحب ويرضى، وأن يبارك في الخطى، ويسدد المسعى
التمهيد، وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول
لمحة موجزة في انتقاء الشيوخ عند الأئمة
المقصود بانتقاء الشيوخ أن يتحرى المحدث في شيوخه فلا يروي عن كل أحد، ولا ينقل عن كل ضرب، وهذا اشتهر بعمله بعض الأئمة، ووصف به جملة من كبار المحدثين([2]) وإلا فالمشهور المتبع والمعمول به في الجملة: عدم الانتقاء، مع الحذر من التحديث عن الكذابين والمتروكين، إذ لا يمكن القول بوجوب الرواية عن الثقات فقط.
قال العلائي: "والراوي لا يجب عليه ألا يروي إلا عن ثقة، بل أطبق الرواة في كل عصر على الرواية عن الضعفاء، فتارة يبينون حال الضعيف عند الرواية، كما قال الشعبي: حدثني الحارث الأعور وكان كذاباً، والغالب: أنهم يكتفون بما يعرفه أهل الفن"([3])
ووصف الواحد منهم بانتقاء الرواة، أو بكونه لا يحدث إلا عن ثقة هذا في الأعم الأغلب، وليس بالمطرد الذي لا ينعكس، إذ قد يحدث عمن هو مجروح أو مضعف.
قال السخاوي: "من كان لا يروي إلا عن ثقة إلا في النادر: الإمام أحمد، وبقى بن مخلد وحريز بن عثمان وسليمان بن حرب، وشعبة، والشعبي، وعبد الرحمن بن مهدي، ومالك، ويحيى بن سعيد القطان..."([4])
ويقول ابن تيمية: "عادة المحدثين يروون جميع ما في الباب، لأجل المعرفة بذلك وإن كان لا يحتج من ذلك إلا ببعضه، والناس في مصنفاتهم منهم: من لا يروي عمن يعلم أنه يكذب، مثل مالك, وشعبة, ويحيى بن سعيد (وهو القطان) وعبد الرحمن بن مهدي، وأحمد بن حنبل, فإن هؤلاء لا يروون عن شخص ليس بثقة عندهم, ولا يروون حديثاً يعلمون أنه عن كذاب، فلا يروون أحاديث الكذابين الذين يعرفون بتعمد الكذب، لكن قد يتفق فيما يروونه ما يكون صاحبه أخطأ فيه"([5])
والأئمة ليسوا على درجة واحدة، بل الواحد منهم ربما تفاوت انتقاؤه في كتاب عن آخر, أو في أحاديث عن غيرها، فالإمام البخاري مثلاً من أعلام من وصف بانتقاء الرواة، ومع هذا فانتقاؤه في الصحيح يباين تماماً بقية كتبه، كذلك حينما يروي المنتقي عن المتكلم فيه أحاديث الرقائق لا يروي عنه أحاديث الأحكام.
يقول العلائي: "مالك لم يرو إلا عن ثقة عنده، وأما سفيان الثوري فإنه روى عن جماعة كثيرة من الضعفاء، وشعبة متوسط بينهما في ذلك"([6])
وهذا يدل على تفاوت الأئمة في هذا الباب
ومما له صلة بهذه المسألة: أنه يجب التفريق بين كتابة حديث المجروح والرواية عنه.
قال ابن رجب: فرق بين كتابة حديث الضعيف وبين روايته، فإن الأئمة كتبوا أحاديث الضعفاء لمعرفتها ولم يرووها، كما قال يحيى (وهو ابن سعيد القطان) سجرنا بها التنور، وكذلك أحمد خرق حديث خلق ممن كتب حديثهم ولم يحدث به، وأسقط من المسند حديث خلق من المتروكين لم يخرجه فيه"([7])
المطلب الثاني
دراسة إحصائية لشيوخ الإمام أحمد
كل من له أدنى اطلاع على سيرة الإمام في أي مصدر يلحظ نهمه بطلب العلم، وتبكيره في تحصيله، وكثرة رحلاته التي ترتب عليها كثرة شيوخه.
قال عن نفسه: "'طلبت الحديث سنة تسع وسبعين (أي بعد المائة)، وكان لي يومئذ ست عشرة سنة"([8])
وقال معبراً عن شغفه بالعلم وكثرة طلبه: "كتبت بخطى ألف ألف حديث، سوى ما كتب لي"([9])
قال ابن الجوزي: "كان شديد الإقبال على العلم، سافر في طلبه السفر البعيد، ووفر على تحصيله الزمان الطويل، ولم يتشاغل بكسب ولا نكاح حتى بلغ منه ما أراد"([10])
وقد قمت بدراسة لشيوخه في المسند، وما ذكره ابن الجوزي في المناقب، والمزي في التهذيب، والذهبي في سير أعلام النبلاء، وتحصل لي أن عددهم من حيث الجملة يبلغ (453 شيخاً) على جهة التقريب المقاربة، إذ لا يخلو الأمر من تصحيف، أو تداخل أو تكرار.
قال أبو الخير الجزري: "شيوخه الذين روي عنهم وسمع منهم يزيدون على الأربعمائة، ذكره الحافظ أبو بكر ابن نقطة في كتاب مفرد"([11])
ومن حيث التفصيل:
فقد بلغ شيوخه في المسند (295 شيخاً) بالمقارنة بين طبعات متعددة للمسند، إذ الأمر يختلف بتباين النسخ، هل الراوي من شيوخ أحمد أو ابنه أو كلاهما؟
وجرى اختلاف بين أهل العلم في إحصائهم إذ بلغوا في عد الحافظ الجزري (283 شيخاً) والذهبي ذكر في السير قريباً من هذا حيث قال: إنهم مئتان وثمانون ونيف([12])وفي عد محققي طبعة مؤسسة الرسالة (301 شيخاً) بينما بلغوا عند الدكتور عامر في كتابه (292 شيخاً).
وقد فحصت كل الأسماء بالتفصيل من خلال ما ذكره الدكتور عامر، وما ذكره محققو المسند في الطبعتين المعتمدين=طبعة الرسالة، وطبعة جمعية المركز الإسلامي، وتبين لي حصول أوهام في مواضع، والذي خلصت إليه العدد السابق.
ومجمل ما ذكره ابن الجوزي في المناقب لعموم شيوخه (425 شيخاً) وعن ابن الجوزي نقل مغلطاي في إكمال تهذيب الكمال، لكن في النسخة المطبوعة تصحيفات كثيرة، وسقطات شنيعة.
بينما المزي ذكر في تهذيب الكمال (127 شيخاً) والذي في سير أعلام النبلاء (86 شيخاً).
المطلب الثالث
تحقيق القول في انتقاء الإمام لشيوخه
الإمام مكثر جداً وقد روى عن الثقات وغيرهم, لكن روايته عن الثقات هي الغالب، بل نص جملة من الحفاظ أنه لا يروي إلا عن ثقة عنده عدا ما ندر([13])
وربما أنكر على الرواة عدم انتقائهم لشيوخهم أو عدم تحريهم فيمن يكتبون عنه، قال محمد بن عبيد الله([14])"كنت عند أحمد بن حنبل فقال له إبراهيم بن خرزاذ: يا أبا عبد الله إن ابن عرعرة يحدث، فقال: أف لا يبالون عمن كتبوا -يعني إبراهيم بن عرعرة"([15])
لكن التحديث عن غير الثقات الإثبات – أحياناً- أو رواية ما ضعفه يسير، صنعه أحمد وغيره من الأئمة.
قال ابن تيمية: "وقد يروي الإمام أحمد وإسحاق وغيرهما أحاديث تكون ضعيفة عندهم لاتهام رواتها بسوء الحفظ ونحو ذلك، ليعتبر بها ويستشهد بها؛ فإنه قد يكون لذلك الحديث ما يشهد له أنه محفوظ، وقد يكون له ما يشهد بأنه خطأ, وقد يكون صاحبها كذاباً في الباطن ليس مشهوراً بالكذب، بل يروي كثيراً من الصدق فيروي حديثه"([16])
وقال ابن عبد الهادي: "فإن قيل: قد روى الإمام أحمد بن حنبل عن موسى بن هلال، وهو لا يروي إلا عن ثقة؟ فالجواب أن يقال: "رواية الإمام أحمد عن الثقات هو الغالب من فعله، والأكثر من عمله كما هو المعروف من طريقه شعبة، ومالك، وعبد الرحمن بن مهدي، ويحيى بن سعيد القطان، وغيرهم وقد يروي الإمام أحمد قليلاً في بعض الأحيان عن جماعة نسبوا إلى الضعف وقلة الضبط على وجه الاعتبار والاستشهاد لا على طريق الاجتهاد والاعتماد"([17])
وتحديث من وصف بالانتقاء عن غير الثقات له أسباب متعددة، ووجوه تخريج مختلفة ومنها:
1- قد يكون الراوي غير مجروح عنده، وإن كان مجروحاً عند غيره من الأئمة
2- ربما كانت روايته عنه ذلك قبل أن يعلم سبب جرحه
3- أن يكون حدث عنه على جهة الاعتبار بحديثه، أو الاختبار له.
4- أن يروي عنه قبل طروء الضعف عليه
5- أن يحدث عنه لمعرفة حديثه
6- أن يسمع منه أحاديث الرقائق والآداب والسير والتواريخ، وهي ليست كغيرها، إذ يجري فيها من المسامحة ما هو معلوم.
7- ربما أن حالة خفيت عليه([18])
على أنه ينبه هنا إلى أن المقصود بالثقة في مصطلح الانتقاء قد لا يقصد به الثقة الاصطلاحي, بل المراد ما فوق المتروك.
والإمام خصيصاً اشتهر عنه قوله: "ضعيف الحديث خير من قوي الرأي"([19])
قال ابن رجب: "والذي يتبين من عمل الإمام أحمد وكلامه أنه يترك الرواية عن المتهمين والذين غلب عليهم الخطأ للغفلة وسوء الحفظ، ويحدث عمن دونهم في الضعف، مثل من في حفظه شيء, أو يختلف الناس في تضعيفه وتوثيقه، وكذلك كان أبو زرعه الرازي يفعل، وأما الذين كتبوا حديث الكذابين -من أهل المعرفة والحفظ - فإنما كتبوه لمعرفته، وهذا كما ذكروا أحاديثهم في كتب الجرح والتعديل، ويقول بعضهم في كثير من أحاديثهم: "لا يجوز ذكرها إلا ليبين أمرها أو معنى ذلك، وقد سبق عن أبي حاتم الرازي أنه يجوز رواية حديث من كثرت غفلته في غير الأحكام وأما رواية أهل التهمة بالكذب فلا تجوز إلا مع بيان حاله، وهذا هو الصحيح والله أعلم"([20])
وأوضح صور انتقاء الإمام رحمه الله كانت في المسند، ومع هذا فقد روي فيه عن جملة من المجروحين بل ممن جرحهم هو- كما هو موضوع هذه الوريقات
قال ابن حجر: "صنف أبو موسى المديني جزءاً كبيراً ذكر فيه أدلة كثيرة تقتضي أن أحمد انتقى مسنده, وأنه كله صحيح عنده، وأن ما أخرجه فيه عن الضعفاء إنما هو في المتابعات, وإن كان أبو موسى قد ينازع في بعض ذلك لكنه لا يشك منصف أن مسنده أنقى أحاديثاً, وأتقن رجالاً من غيره، وهذا يدل على أنه انتخبه، ويؤيد هذا ما يحكيه ابنه عنه أنه كان يضرب على بعض الأحاديث التي يستنكرها"([21])
وقال في موضع آخر: "وقد تحرر من مجموع ما ذكره أن المسند مشتمل على أنواع الحديث، لكنه مع مزيد انتقاء وتحرير بالنسبة إلى غيره من الكتب التي لم يلتزم الصحة في جميعها والله أعلم"([22])
ومما يجلي صورة انتقائه: "أنه لقي جملة من الرواة ولم يكتب عن واحد منهم وكتب عن آخرين ثم ترك أحاديثهم وخرقها.
قال ابن الجوزي: "وقد رأى خلقاً كثيراً لم يكتب عنهم ،منهم: عبد الله بن معاذ الصنعاني، والمبارك بن سعيد أخو سفيان، وعمران بن عيينة، ونهشل بن حريث العدوي، ومحمد بن مروان العقيلي، والأشجعي، وخلف بن خليفة، وأحمد بن إسحاق الحضرمي، ويوسف الغرق.
وقد خرق أحاديث خلق من الضعفاء ولم يرو عنهم، منهم: أيوب التمار، وإسماعيل بن أبان الغنوي، وخالد بن القاسم المدايني، وعمر بن سعيد الدمشقي، ومحمد بن حجاج المصفر، ومسعدة بن اليسع، وأبو صيفي المديني، في خلق يطول ذكرهم"([23])
شيوخ الإمام الذين جرحهم وروى عنهم
1- إسحاق بن يوسف بن مرداس المخزومي الواسطي الأزرق، توفى سنة 195هــ، روى له الجماعة([24])
كلام الإمام فيه:
قال عبد الله: سمعت أبي يقول: ومحمد بن يزيد أثبت من إسحاق الأزرق، الأزرق كثير الخطأ عن سفيان، وكان الأزرق حافظاً، إلا أنه كان يخطئ([25])
ويريد الإمام سفيان الثوري رحمه الله
كلام غيره من الأئمة:
لم أقف على من تكلم في حديثه عن سفيان سوى الإمام: وقد وثقه في رواية أخرى بل حلف على ثقته، قيل له: أثقة هو؟ قال: إي والله ثقة([26])
ووافقه على التوثيق: "ابن معين، والعجلي، والبزار، وابن حجر([27])
وقال ابن سعد: "كان ثقة، وربما غلط"([28])
وقال أبو حاتم: "هو صحيح الحديث، صدوق، لا بأس به"([29])
وذكره ابن حبان في الثقات.
وقال في مشاهير علماء الأمصار: "من متقني الواسطيين"([30])
وقال الخطيب: "كان من الثقات المأمونين"([31])
رواية الإمام عنه:
روى عنه الإمام في المسند (96 حديثاً) والتي عن سفيان الثوري (32 حديثاً)، وفي بعضها مقرون بغيره، وأكثرها قد قرن بعبد الرزاق الصنعاني([32])
وقد سئل أحمد في العلل عن حديث لإسحاق عن سفيان فأناط الخطأ به([33])
وروى عنه في فضائل الصحابة حديثاً واحداً([34])
والجماعة كما سبق قد رووا له، وجملة من أحاديثه عندهم عن سفيان الثوري.
فالخلاصة: إن الإمام إنما تكلم في حديثه عن سفيان الثوري فقط، وإلا فهو ثقة عنده، بدليل إكثاره عنه في المسند، كما أن كلامه في خطئه عن سفيان شيء نسبي، فلا شك أن إسحاق ليس من كبار أصحاب الثوري، ****ع وابن مهدي وإضرابهما، وأيضاً ليس الخطأ في كل ما روى عنه، فقد أخرج هو والبخاري ومسلم([35])وبقية الجماعة من حديثه عنه، وكما تقدم أيضاً أنه أخرج له مقروناً، والله تعالى أعلم.
1- حرمي بن عمارة بن أبي حفصة العتكي مولاهم، أبو روح البصري، روى له الجماعة عدا الترمذي([36])
كلام الإمام فيه:
قال أبو جعفر العقيلي: "حدثنا الخضر بن داود قال: حدثنا أحمد بن محمد قال: قال أبو عبد الله في حرمي بن عمارة كلامنا- معناه-: أنه صدوق، ولكن كانت فيه غفلة، فذكرت له عن علي بن المديني، عن حرمي بن عمارة, عن شعبة, عن قتادة، عن أنس من كذب...فأنكره
وقال علي –أيضاً- يحدث عنه حديثاً منكراً في الحوض عن حارثة بن وهب فقلت: حديث معبد بن خالد؟ قال: نعم ترى هذا حقاً؟ وتبسم كالمتعجب، وأنكرهما أبو عبد الله من حديث شعبة، وهما معروفان من حديث الناس([37])"([38])
فالإمام أحمد يرى أن حرمياً صدوق من حيث الجملة، لكن فيه غفلة يقع له بسببها أوهام في روايته، وفي السؤال نموذج لما وهم فيه.
كلام غيره من الأئمة:
قال ابن معين: "صدوق"([39])
وقال أبو حاتم: "هو صدوق...، ليس هو في عداد يحيى بن سعيد، وعبد الرحمن بن مهدي، وغندر وهو مع عبد الصمد بن عبد الوارث، ووهب بن جرير، وأمثالهما"([40])
وذكره ابن حبان في الثقات.
وقال الذهبي في الكاشف: "ثقة" وقال في الميزان: "ذكره العقيلي في الضعفاء فأساء"([41])
وقال ابن حجر: "صدوق يهم"
رواية الإمام عنه:
روى عنه الإمام خمسة أحاديث في المسند، وليس منها حديث عن شعبة([42])
وروى عنه حديثاً في الزهد، وآخر في فضائل الصحابة([43])
وروايته عن شعبة وغيره في الصحيحين، وغيرهما
3- الحسين بن الحسن الأشقر الفزاري الكوفي توفي سمة 208هـ روى له النسائي([44])
كلام الإمام فيه:
قال ابن هانئ: قال أبو عبد الله: "منكر الحديث([45])، وكان صدوقا"([46])
وقال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: "حسن الأشقر تحدث عنه؟ قال: لم يكن عندي ممن يكذب في الحديث، وذكر عنه التشيع. فقال له العباس بن عبد العظيم: حدث في أبي بكر وعمر.فقلت له: يا أبا عبد الله، صنف باباً فيه معايب أبي بكر وعمر، فقال: ما هذا بأهل أن يحدث عنه، فقال له العباس: حدث بحديث فيه ذكر الجوالقين -يعني أبا بكر وعمر- فقال: ما هو بأهل أن يحدث عنه، فقال له العباس: وحدث عن ابن عيينة، عن ابن طاوس، عن أبيه, عن حجر المدري قال: قال لي علي بن أبي طالب: أنك ستعرض على سبي، فسبني، وتعرض على البراءة مني، فلا تتبرأ مني فاستعظمه أبو عبد الله وأنكره، وقال العباس: وروى عن ابن عيينة، عن ابن طاوس، عن أبيه قال: أخبرني أربعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، فأنكره أبو عبد الله جداً، وكأنه لم يشك أن هذين كذب"([47])
كلام غيره من الأئمة:
أكثر الأئمة على جرحه، بل إن بعضهم كذبه.
قال البخاري: "فيه نظر" وقال أيضاً: "عنده مناكير"([48])
وقال الجوزجاني: "كان غالياً، من الشتامين للخيرة"([49])
وقال أبو زرعه: "هو شيخ منكر الحديث"([50])
وقال أبو حاتم: "ليس بقوى في الحديث"([51])
وقال النسائي والدارقطني: "ليس بالقوي"([52])
ولبعض الأئمة رأي آخر فيه:
قال ابن معين في رواية ابن الجنيد: "كان من الشيعة المغلية للكبار، قلت: فكيف حديثه؟ قال: لا بأس به .قلت: صدوق؟ قال: نعم([53])
وقال ابن عدي: "وليس كل ما يروى عنه من الحديث فيه الإنكار يكون من قبله وربما كان من قبل من يروي عنه، لأن جماعة من ضعفاء الكوفيين يحيلون بالروايات على حسين الأشقر، على أن حسيناً هذا في حديثه بعض ما فيه"([54])
وذكره ابن حبان في الثقات.
وقال ابن حجر: "صدوق يهم، ويغلو في التشيع"
رواية الإمام عنه:
روى عنه الإمام في المسند أربعة أحاديث فقط([55])
ومجمل أحاديثه لها متابعات، وشواهد عدا حديث واحد وهو أن علياً رضي الله عنه، عنه جاء برأس مرحب إلى صلى الله عليه وسلم ([56])، ففي النفس منه شيء من جهة تشيع الحسين، لكن تابع احمد ابن معين وغيره في روايته عن حسين, والحديث أصله في الصحيح في قصة فتح خيبر([57])وأحمد أخرج في مسنده أضعف من هذا، وعذره في هذا قائم عند الأئمة، كما تقدم
4- سعيد بن محمد الوراق الثقفي، أبو الحسن الكوفي، نزيل بغداد، روى له الترمذي, وابن ماجه([58])
كلام الإمام فيه:
قال أبو بكر المروذي: " سألته- يعني أبا عبد الله- عن سعيد بن محمد الوراق؟ فلينه, وتكلم فيه بشيء
قال أيضاً: "سئل أبو عبد الله عن سعيد الوراق؟ فقال: لم يكن بذاك، وقد حكموا عنه حديثاً منكراً. قلت: أيش هو؟ قال: عن يحيى بن سعيد، عن عروة، عن عائشة شيء في السخاء"([59])
كلام غيره من الأئمة:
قال ابن سعد، وابن معين، وأبو داود، والذهبي، وابن حجر: "ضعيف"([60])
وقال ابن معين في رواية: "ليس حديثه بشيء" وقال مرة: "ليس بثقة"([61])
وقال الجوزجاني: "غير ثقة"([62])
وقال أبو حاتم: "ليس بقوي"([63])
وقال النسائي: "ليس بثقة"([64])
وقال ابن عدي: "ويبين على حديثه ورواياته الضعف"([65])
وقال الدارقطني: "متروك"([66])
وخالفهم الحاكم إذ وثقه([67])
رواية الإمام عنه:
روى عنه الإمام حديثين في المسند، وكلاهما من وجادات عبد الله، وقد رواهما عبد الله عب أبيه في المسند من غير طريق سعيد الوراق, كما أن سعيداً قد توبع فيهما([68])وفي الفضائل حديثاً واحداً([69])
5- شبابه بن سوار المدائني، أبو عمرو الفزاري مولاهم، توفى سنة 205هـــ روى له الجماعة([70])
كلام الإمام فيه:
قال عبد الله: "قلت لأبي: شبابة أي شيء تقول فيه؟ فقال: شبابة كان يدعو إلى الإرجاء، وحكي عن شبابة قولاً أخبث من هذه الأقاويل ما سمعت عن أحد بمثله قال: قال شبابة: إذا قال فقد عمل قال: الإيمان قول وعمل, كما تقولون، فإذا قال عمل بجارحته أي بلسانه حيت تكلم به.
قال أبو عبد الله: هذا قول خبيث، ما سمعت أحداً يقول، ولا بلغني قلت: كيف كتبت عن شبابة ؟ فقال لي: نعم كتبت عنه قديماً شيئاً يسيراً قبل أن نعلم أنه يقول بهذا، قيل له: كنت كلمته في شيء من هذا؟قال: لا.
قال: وحدثني بعض الأشياخ أن شبابة قدم من المدائن قاصداً للذي أنكر عليه أحمد ابن حنبل، فكانت الرسل تختلف بينه وبينه، قال: فرأيته تلك الأيام مغموماً مكروباً قال: ثم انصرف إلى المدائن قبل أن يصلح أمره عنده"([71])
وقال أحمد بن أبي يحيى: سمعت أحمد بن حنبل- وذكر شبابة- فقال: تركته لم أرو عنه للإرجاء فقيل له: يا أبا عبد الله وأبو معاوية ؟ قال: شبابه كان داعية"([72])
وقال زكريا الساجي: "شبابة بن سوار صدوق، يدعو إلى الإرجاء, كان أحمد بن حنبل يحمل عليه"([73])
كلام غيره من الأئمة:
اتفق الأئمة على توثيقه، ورووا عنه, واخرجوا له, وإنما الذي أنكر عليه الإرجاء.
قال ابن سعد: "كان ثقة، صالح الأمر في الحديث وكان مرجئاً"([74])
وقال ابن المديني: "كان شيخاً صدوقاً, إلا انه كان يقول بالإرجاء"([75])
وقال العجلي: "ثقة، وكان يرى الإرجا"([76])
وقال البرذعي عن أبي زرعه: "كان يرى الإرجاء.قيل له: رجع عنه؟ قال نعم"([77])
وقال أبو حاتم: "صدوق، يكتب حديثه ولا يحتج به"([78])
وقال ابن عدي: "إنما ذمة الناس للإرجاء الذي كان فيه، وأما في الحديث: فلا بأس به كما قال ابن المديني، والذي أنكرت عليه أخطاء، ولعله حدث بها حفظاً"([79])
وقال الذهبي: "صدوق، مكثر، صاحب حديث، فيه بدعة"([80])
وقال ابن حجر: "ثقة حافظ، رمى بالإرجاء"
رواية الإمام عنه:
روى عنه الإمام خمسة أحاديث في المسند([81])وكلها في الصحيح، والظاهر أن كلام الإمام فيه من أجل قوله بالإرجاء فقط، مع أنه لم يكثر عنه بالنسبة إلى غيره من مشاهير الشيوخ.
وقول الإمام في أنه ترك حديثه لعل ذلك كان في أول الأمر، ثم روى عنه ولم يكثر، وقد ترك الإمام الكتابة عن أقوام ثم روى عن رجل عنهم، كعبد الله بن وهب وغيره، وهذا حصل لأحمد وغيره من الأئمة، فالناقد قد يجتهد في عدم الأخذ عن راو ثم يبدو له حاجته إلى حديثه، أو زال المانع من الكتابة فإن أدركه روى عنه مباشرة وإلا فبواسطة([82])
يتبع