توجيه الاضطراب في سند حديث النهي عن صيام يوم السبت بين العلة القادحة، وبين القبول بتعدد اختلاف وجوه الرواية
لا شك أن الشيخ الألباني رحمه الله أجاب عن الشبه المعارضة لتصحيح حديث النهي عن صيام يوم السبت، ، لكن هل سلم له أهل العلم بأجوبته؟
والجواب: لم يسلم له أهل العلم بها قديما إن صح التعبير باعتبار أن بحث حكم المسألة من قديم، وكذلك لم يسلم له العلماء حديثا، وقد التقى بعضهم به وناقشه، وليس من شروط ثبوت الحق الجواب عن الشبه التي تثار حوله، فقد يتبنى العالم حكما ويستدل له ويجيب عن الإشكالات حوله، واجتهاده يقابل باجتهاد غيره، وأدلته مع أدلة غيره يحتاج فيها عند التعارض للترجيح، وأجوبة الإشكالات قد يسلم لصاحبها بها وقد لا يسلم.
فأما الاضطراب فقد قال الشيخ الألباني رحمه الله في إرواء الغليل (4/119-120):
"وأقول: الاضطراب عند أهل العلم على نوعين:
أحدهما: الذى يأتى على وجوه مختلفة متساوية القوة , لا يمكن بسبب التساوى ترجيح وجه على وجه.
والآخر: وهو ما كانت وجوه الاضطراب فيه متباينة بحيث يمكن الترجيح بينها.
فالنوع الأول هو الذى يعل به الحديث.
وأما الآخر , فينظر للراجح من تلك الوجوه ثم يحكم عليه بما يستحقه من نقد.
وحديثنا من هذا النوع , فإن الوجه الأول اتفق عليه ثلاثة من الثقات , والثانى اتفق عليه اثنان أحدهما وهو عتبة بن السكن متروك الحديث كما قال الدارقطنى فلا قيمة لمتابعته. والوجه الثالث , تفرد به عبد الله بن يزيد المقرى وهو ثقة ولكن أشكل على أننى وجدته بخطى مكنياً بأبى بكر , وهو إنما يكنى
بأبى عبد الرحمن وهو من شيوخ أحمد.
والوجه الرابع لم أقف على إسناده".
والهدف من هذه الأسطر أمران:
الأول, كلام المعلين له بالاضطراب هل كان بناء على أن حكمهم هذا حكم بالتضعيف؟ وبعبارة أوضح, هل حكم النسائي رحمه الله عليه بالاضطراب كان تضعيفا منه للحديث, فيحمل كلام الشيخ الألباني في نقض شبهة اضطراب الحديث على أنه رد على النسائي ومن معه رحمهم الله، كما رد على القول المنسوب لمالك رحمه الله في حديث المسألة أنه حديث كذب، وكما رد على ابن شهاب رحمه الله في شبهة أن الحديث حمصي؟
أم يقال: الشيخ الألباني يفسر كلام النسائي بحمل مقصده في الحكم على الحديث بالاضطراب غير القادح؟
الثاني, هل اتسق كلام الشيخ الألباني رحمه الله في بناء فرضيته في أن الاضطراب في الحديث من باب رواية الحديث من وجوه مختلفة؟
أولا بيان وجه حكم النسائي على الحديث بالاضطراب:
في السنن الكبرى للنسائي (3/209) ما نصه:
"§النَّهْيُ عَنْ صِيَامِ يَوْمِ السَّبْتِ، وَذِكْرُ اخْتِلَافِ النَّاقِلِينَ لِخَبَرِ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُسْرٍ فِيهِ"
روى تحت هذا التبويب الحديث بسندين:
الأول برقم 2772 - أَخْبَرَنَا حُسَيْنُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُبَشِّرُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَسَّانُ بْنُ نُوحٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُسْرٍ، مصرحا فيها بالسماع من النبي صلى الله عليه وسلم.
والثاني برقم 2773 - أَخْبَرَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُسرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمَّتِهِ الصَّمَّاءِ، أُخْتِ بُسرٍ، فهو من مسند عمته التي اسمها الصماء.فالأول من مسند عبد الله بن بسر رضي الله عنه، والثاني من مسند الصماء عمته، كما جاء مصرحا به في هذه الطريق.
ثم عقب النسائي رحمه الله هذا التبويب بتبويب آخر فقال (3/209):
"§ذِكْرُ الِاخْتِلَافِ عَلَى ثَوْرِ بْنِ يَزِيدَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ"
أورد الحديث بعدة أسانيد:
الأول برقم 2774 - أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عِيسَى، عَنْ ثَوْرٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُسْرٍ، فأورده من مسند عبد الله، يؤديه بصيغة التحديث, (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم).
الثاني برقم 2775 - أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَصْبَغُ هُوَ ابْنُ زَيْدٍ، عَنْ ثَوْرٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ بُسرٍ، أَنَّ أُخْتَهُ، يُقَالُ لَهَا الصَّمَّاءُ، حَدَّثَتْهُ أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ... الحديث.
فهو من مسند أخته هنا المسماة بالصماء.
الثالث برقم 2776 - أَخْبَرَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ حَبِيبٍ، عَنْ ثَوْرٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، ثُمَّ ذَكَرَ كَلِمَةً مَعْنَاهَا عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُسْرٍ، عَنْ أُخْتِهِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ... الحديث.
الرابع برقم 2777 - أَخْبَرَنَا نُصَيْرُ بْنُ الْفَرَجِ، كُتِبَتْ عَنْهُ بِالثَّغْرِ، وَيُكْنَى أَبَا حَمْزَةَ ثِقَةٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الصَّبَّاحِ، قَالَ: حَدَّثَنَا ثَوْرٌ، عَنْ خَالِدٍ هُوَ ابْنُ مَعْدَانَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُسْرٍ، عَنْ أُخْتِهِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ... الحديث
فتتابع في ثلاث طرق متتالية عند النسائي أصبغ بن زيد وسفيان بن حبيب، وعبد الملك بن الصباح على أنه من مسند أخته الصماء.
الخامس برقم 2778 - أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ، قَالَ: حَدَّثَنَا ثَوْرٌ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُسرٍ، عَنْ عَمَّتِهِ الصَّمَّاءِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ... الحديث، كما في رواية ابن عبد الله بن بسر عن أبيه عن عمته أخت بسر المتقدمة في التبويب الذي قبله، وقد صرح فيه بقية بن الوليد بالتحديث عن ثور.
لكن في السند السادس برقم 2779 - أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ، قَالَ: حَدَّثَنِي الزُّبَيْدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا لُقْمَانُ بْنُ عَامِرٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ جَشِيبٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُسْرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ... الحديث، من رواية بقية مصرحا بالتحديث بإسناد فيه نزول عن الأول، على أنه من مسند عبد الله.
وفي السند السابع برقم 2780 - أَخْبَرَنَا عِمْرَانُ بْنُ بَكَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ رَوْحٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّبَيْدِيُّ، عَنِ الْفُضَيْلِ بْنِ فَضَالَةَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بِشْرٍ، عَنْ خَالَتِهِ الصَّمَّاءِ، قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ... الحديث، الزبيدي تكرر في هذا السند كما في السادس وبينه وبين خالد بن معدان رجل واحد، وهو الفضيل بن فضالة، لكنه من مسند الصماء وهي هنا خالة عبد الله.
وفي السند الثامن برقم 2781 - أَخْبَرَنَا عِمْرَانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو تَقِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَالِمٍ، عَنِ الزُّبَيْدِيِّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْفُضَيْلُ بْنُ فَضَالَةَ، أَنَّ خَالِدَ بْنِ مَعْدَانَ، حَدَّثَهُ أَنَّ عَبْدَ اللهَ بْنَ بُسْرٍ حَدَّثَهُ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْه وَسَلَّمَ: ... الحديث.
الزبيدي عن فضالة يروي أن خالد بن معدان، بإثبات خالد بن معدان بين الفضيل وبين عبد الله في الرواية مأننة، لكن من مسند عبد الله بن بسر عن أبيه.
وعقب هذه الطريق (3/212) ما نصه:
"قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ: «أَبُو تَقِيٍّ هَذَا ضَعِيفٌ لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَإِنَّمَا أَخْرَجْتُهُ لِعِلَّةِ الِاخْتِلَافِ»".
والتاسع برقم 2782 - أَخْبَرَنَاَ سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ، عَنِ الزُّبَيْدِيِّ، عَنْ لُقْمَانَ بْنِ عَامِرٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُسرٍ، عَنْ خَالَتِهِ الصَّمَّاءِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ، فجعله من مسند الخالة وسمها الصماء أيضا.
هذا السند كالسند الخامس إلا أن فيه اختلافين، بقية هنا عنعن، والمتابع لثور في الخامس هنا لقمان بن عامر، عن خالد بن معدان، وفي السادس بين لقمان بن عامر وبين خالد بن معدانعامر بن جشيب، فلعل أحد الرواة رواه منقطعا والآخر وصله بذكر عامر بن جشيب.
وفي السند العاشر برقم 2783 - أَخْبَرَنَا عِمْرَانُ بْنُ بَكَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ رَبِّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ، عَنِ الزُّبَيْدِيِّ، عَنْ عَامِرِ بْنِ جَشِيبٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُسْرٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ... الحديث، على أنه من مسند عبد الله.
وهذا السند كالسادس لكن حذف منه لقمان، فرواه بقية عنعنه عن الزبيدي عن عامر بن جشيب دون ذكر لقمان بن عامر.
وفي الحادي عشر برقم 2784 - أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ وَهْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عَبْدِ الرَّحِيمِ، عَنِ الْعَلَاءِ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُسرٍ، عَنْ أُخْتِهِ الصَّمَّاءِ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ... الحديث، وسيأتي أن الشيخ الألباني رحمه الله قال عنه إنه لم يعرف إسناده، وهو هنا من مسند عائشة رضي الله عنها.
وفي الثاني عشر برقم 2785 - أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ يَحْيَى أَبُو مُطِيعٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَرْطَاةُ، قَالَ سَمِعْتُ أَبَا عَامِرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ ثَوْبَانَ، مَوْلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسُئِلَ عَنْ صِيَامِ يَوْمِ السَّبْتِ، قَالَ: سَلُوا عَبْدَ اللهِ بْنَ بُسرٍ، قَالَ: فَسُئِلَ، فَقَالَ: «§صِيَامُ يَوْمِ السَّبْتِ لَا لَكَ وَلَا عَلَيْكَ» الحديث، وفيه إحالة ثوبان على عبد الله بن بسر، وفيه أن صيام السبت لا لك ولا عليك، فالمتن مختلف، فإما أن يكون فهما للصحابي على أن حرمة الصيام ليست عزيمة ولكن من باب الكراهة، او أنه من تصرف الرواة، وإلا فاللفظ مختلف.
ثم ذكر النسائي رحمه الله تبويب الرخصة في صيام السبت، وذكر فيه حديث جنادة الأزدي،
والملحوظ على النسائي رحمه الله في استيعابه للطرق أنه سرد في التبويب الثاني في ذكر الاختلاف على ثور اثنا عشر طريقا يرجع أحد عشر طريقا منها إلى خالد بن معدان رحمه الله، ما خلا السادس، ففيه رواية الفضيل بن فضالة عن عبد الله مباشرة، وفي السابع منها، ففيه الرواية مأننة بين الفضيل وبين عبد الله كما مر نقله، لكن من طريق أبي تقي وهو ضعيف، ومر معنا أن غرض النسائي من إيراد هذه الطرق كلها, وهو ذكر الاختلاف، والاختلاف كان فيه منرواية عبد الله نفسه، وعن أخته، وعن عمته، وعن خالته، وكلهن مسميات بالصماء، وعن أبيه، وعن عائشة رضي الله عنها، كل هذا مروي بالأسانيد عن خالد بن معدان، فلماذا الاتفاق في الاسم, (الصماء) والتباين في التوصيف, عمة, خالة، أخت، مع اتحاد المخرج؟ بل ومن روايته على أنه من مسند المختلف في توصيفها رضي الله عنها تارة، وتارة من مسنده رضي الله عنه؟ وفي الطريق السادس تارة من رواية الفضيل، عن عبد الله رضي الله عنه مباشرة، وتارة من رواية الفضيل عن خالد بن معدام مأننا، عن عبد الله، فهل يا ترى سمع خالد بن معدان رحمه الله الوجوه كلها عن عبد الله رضي الله عنه؟ أم هو تصرف من دونه، وقد اتفقت ثلاثة ثلاثة طرق, الثاني والثالث والرابع عن ثور بن يزيد أنه من مسند الصماء أخت عبد الله رضي الله عنهما، وتباينت الطرق من السادس للعاشر في إثبات بعض الرواة، وإغفال غيره، كما ستراه في المنقول عن الدارقطني، وأما الطريق الثاني عشر عن أبي عامر عن ثوبان، وفيه حضور أبي عامر للموقف مع ثوبان لتصريحه بالسماع منه، وأما الموقف مع عبد الله بن بسر فلم يخبرنا بالواسطة بينه وبينه حيث قال: {قَالَ: فَسُئِلَ، فَقَالَ: «§صِيَامُ يَوْمِ السَّبْتِ لَا لَكَ وَلَا عَلَيْكَ»"، والمتن فيه مختلف كما سيمر معك.
فالحاصل أن الاختلاف فيه ليس منحصرا في طبقة واحدة, بل الاختلاف فيه في عدة طبقات من السند مع اتحاد المخرج، فاختلف فيه على ثور بن يزيد، بإسقاط رواة وإثبات رواة، كما مر، ، واختلف فيه على متابعه الفضيل بن فضالة، وعامر بن جشيب، ولقمان بن عامر، فهذا كله يوحي أنه ليس من باب اختلاف وجوه الرواية عند النسائي، بل هو من الاضطراب الناشئ عن ضعف أو وهم في الرواة, يوضح لك ذلك روايته لطريق أبي تقي وهو رجل ضعيف كما قال، وبين بصريح العبارة أن نقله لهذه الطريق من باب استيعاب الاختلاف في الرواية، مع أنها رواية سلك بها سبيل الاستقامة في سند الحديث بإثبات خالد بن معدان، فلو كان الاختلاف عند النسائي من باب اختلاف وجوه الرواية لما نص على علة هذه الرواية، واكتفى بذكرها دون النص على علتها، والله أعلم.
وهذا كله يعطيك صورة واضحة عن إعلال النسائي للحديث بالاضطراب الذي هو علة تقدح في صحة الحديث.
ولم ينفرد النسائي وحده بهذا الحكم, جاء في علل الدارقطني (15/310-312):
"4059- وسئل عن حديث عبد الله بن بسر، عن عمته الصماء، قالت: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن صوم يوم السبت، وقال: إن لم يجد أحدكم إلا عودا أخضر فليفطر عليه.
فقال: يرويه معاوية بن صالح، عن ابن عبد الله بن بسر، عن أبيه، عن عمته الصماء، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَرَوَاهُ خالد بن معدان.
واختلف عن ثور، عنه؛
فرواه يحيى بن نصر بن حاجب، وعباد بن صهيب، وسفيان بن حبيب، وأبو عاصم، وقرة بن عبد الرحمن، وأصبغ بن زيد، عن ثور، عن خالد بن معدان، عن عبد الله بن بسر، عن أخته الصماء؛
وخالفهم عِيسَى بْنُ يُونُسَ؛
فَرَوَاهُ عَنْ ثَوْرٍ، عَنْ خالد بن معدان، عن ابن بسر، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يقل: عن أخته.
ورواه لقمان بن عامر، واختلف عنه؛
فحدث به عنه الزبيدي، وَاخْتُلِفَ عَنْهُ؛
فَرَوَاهُ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ الزبيدي، عن لقمان بن عامر، عن عبد الله بن بسر، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يقل عن أخته، وكذلك رواه حسان بن نوح الحمصي، عن عبد الله بن بسر أنه سمعه من النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالصَّحِيحُ عَنْ ابن بسر، عن أخته، وقال بعض أهل العلم من أهل حمص: إن أخت عبد الله بن بسر الصماء اسمها بهيمة".
وهذا كما تراه تلخيص ما تقدم بأسلوب علمي رصين يليق بهذا العالم الجهبذ الجليل، لا كسرد الضعيف صاحب هذه الأسطر، .
وهذان إمامان من أهل الشأن أعلا الحديث بالاضطراب، وللدارقطني زيادة ترجيح وجه من الوجوه, وهو تصويب وجه ابن بسر عن أخته رضي الله عنهم جميعا، ومعروف من منهج الدارقطني أنه لا يلزم من حكمه بصحة وجه الحكم بصحة الحديث.

ثانيا بيان المراحل التي مر بها حكم الشيخ الألباني رحمه الله فرضيته في بيان أن الاضطراب من باب الوجوه المختلفة للرواية بحيث لا تقدح في الصحة:
وتبعا للنص المنقول من إرواء الغليل أعلاه ص120 قال الشيخ رحمه الله:
"ولا يشك باحث أن الوجه الأول الذى اتفق عليه الثقات الثلاثة هو الراجح من بين تلك الوجوه , وسائرها شاذة لا يلتفت إليها".
فهذا حكم الشيخ يوافق ما ذهب إليه الدارقطني، ولو استقر الشيخ على هذا الوجه لانحصرت المسألة في النظر في صحة الحديث من مسند الصماء أخت عبد الله رضي الله عنهما بمعزل عن غيرها مما حكم عليه الشيخ بالشذوذ، تبعا لمن سبقه من أهل العلم، ومن ثم النظر في متن الحديث ومعناه من حيث اتفاقه مع بقية الأحاديث أو اختلافه والترجيح عند ذاك.
لكن سينقلنا الشيخ لبحث آخر في وجه من الوجوه الأربعة يجتهد في كونه شاهدا للوجه الأول، وهو تقوية أن الحديث صح من مسند عبد الله بن بسر رضي الله عنهما بمتابعات لا تخلو من معارضات عند غيره كما سبق نقله عن الدارقطني صراحة، وأهمها الاضطراب في طبقات السند أيضا ومن ثم يكون الحديث ثابتا من الوجه الأول وهو أن الحديث من مسند الصماء رضي الله عنها، ومن مسند عبد الله مرفوعا بلا واسطة.
قال في الموضع السابق:
"على أن الحافظ حاول التوفيق بين هذه الوجوه المختلفة فقال عقب قول النسائى " هذا حديث مضطرب ": " قلت: ويحتمل أن يكون عبد الله عن أبيه , وعن أخته , وعند أخته بواسطته وهذه طريقة من صححه , ورجح عبد الحق الرواية الأولى وتبع فى ذلك الدارقطنى "".
قلت: وما رجحه هذا الإمام هو الصواب إن شاء الله تعالى لما ذكرنا ".
الظاهر من كلام الشيخ رحمه الله " وما رجحه هذا الإمام ... إلخ"، المقصود به الدارقطني رحمه الله، فهو أقرب مذكور، لا أنه يصوب فعل ابن حجر رحمه الله في محاولة الجمع، يذكر هذا لك أيها القارئ أمنة من اللبس، وليستقيم الكلام.
ثم نقل الشيخ رحمه الله كلام الحافظ في أن هذا الاختلاف مما يوهن صاحبه فقال في الموضع نفسه:
"إلا أن الحافظ تعقبه بقوله: " لكن هذا التلون فى الحديث الواحد بالإسناد الواحد مع اتحاد المخرج يوهن راويه , وينبىء بقلة ضبطه , إلا أن يكون من الحفاظ المكثرين المعروفين بجمع طرق الحديث فلا يكون ذلك دالا على قلة ضبطه , وليس الأمر هنا كذا , بل اختلف فيه أيضا على الراوى عن عبد الله بن بسر أيضا "".
هذا الحكم يوافق فيه ابن حجر رحمه الله الإمامين, النسائي، والدارقطني، وعبارته في بيان المقصود أوجز، وفيه بيان رأيه القاطع في الحديث.
حاول الشيخ الألباني تعقب ابن حجر فأجاب رحمه الله فقال في الموضع نفسه:
قلت: فى هذا الكلام ما يمكن مناقشته:
أولا: إن التلون الذى أشار إلى أنه يوهن راويه , هو الاضطراب الذى يعل به الحديث ويكون منبعه من الراوى نفسه , وحديثنا ليس كذلك.
ثانيا: إن الاختلاف فيه قد عرفت أن مداره على ثور بن يزيد عن خالد بن معدان عن عبد الله بن بسر الصحابى. وثور بن يزيد قال الحافظ نفسه فى " التقريب ": " ثقة ثبت " واحتج به البخارى كما سبق فهل هو الراوى الواهى أم خالد بن معدان وقد احتج به الشيخان , وقال فى " التقريب ": " ثقة عابد "؟ ! أم الصحابى نفسه؟ !
ولذلك فنحن نقطع أن التلون المذكور ليس من واحد من هؤلاء , وإنما ممن دونهم".
وقد لا يسلم للشيخ ما قاله في الوجه الأول، فقد يقوم الاختلاف في الأسانيد على المتن الواحد مقام الاختلاف على الراوي الواحد، وهذا ظاهر كلام ابن حجر المتقدم، وقيد اتحاد المخرج الذي نص عليه الحافظ ابن حجر قيد مهم في المسألة، وأما الوجه الثاني الذي أجاب به الشيخ فقد مر أن مدار الاختلاف في الحديث في أكثر من طبقة، وعلى أكثر من راو، وهذا يقوي كون الاضطراب من باب الإعلال لا من باب اختلاف الوجوه في الحديث الواحد, لذلك قال في نهاية الجواب الثاني على كلام الحافظ: "ولذلك فنحن نقطع أن التلون المذكور ليس من واحد من هؤلاء , وإنما ممن دونهم"، وهذه العبارة منه رحمه الله تصرح بثبوت ما حاول الشيخ الفرار منه، وهو كون الاضطراب هنا علة قادحة.
ثم ذكر الشيخ متابعة لقمان بن عامر ليزيد بن ثور عن خالد بن معدان، عن عبد الله بن بسر عن أخته، في ص121،وحكم عليها بجودة الإسناد وعدها متابعة قوية تنفي الاضطراب، قال في الموضع المشار إليه:
"ثم وجدت لثور بن يزيد متابعا جيدا , فقال الإمام أحمد (6/368 ـ 369) : حدثنا الحكم بن نافع قال: حدثنا إسماعيل بن عياش عن محمد بن الوليد الزبيدى عن لقمان بن عامر عن خالد بن معدان عن عبد الله بن بسر عن أخته الصماء به.
قلت: وهذا إسناد جيد رجاله كلهم ثقات , فإن إسماعيل بن عياش ثقة فى روايته عن الشاميين وهذه منها".
وقد مر من النقل عن النسائي أن في بعض الطرق إدخال عامر بن جشيب، ومنها, السند السادس برقم 2779 - أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ، قَالَ: حَدَّثَنِي الزُّبَيْدِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا لُقْمَانُ بْنُ عَامِرٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ جَشِيبٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُسْرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ... الحديث، بإدخال عامر بن جشيب، وبأن الحديث من مسند عبد الله.
والتاسع برقم 2782 - أَخْبَرَنَاَ سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ، عَنِ الزُّبَيْدِيِّ، عَنْ لُقْمَانَ بْنِ عَامِرٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُسرٍ، عَنْ خَالَتِهِ الصَّمَّاءِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهُ، بحذف عامر، وبجعل الحديث من مسند الصماء خالة عبد الله.
وفي السند العاشر برقم 2783 - أَخْبَرَنَا عِمْرَانُ بْنُ بَكَّارٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ رَبِّهِ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ، عَنِ الزُّبَيْدِيِّ، عَنْ عَامِرِ بْنِ جَشِيبٍ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ بُسْرٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ... الحديث، على أنه من مسند عبد الله.
فهل مع هذا الاختلاف يكون السند جيدا؟

ثم شرع الشيخ ص122=123 في تقوية الوجه الثاني برفع عبد الله بن بسر للحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة، دون ذكر عمة أو أخت أو أم، فروى يحيى بن حسان وتابعه حسان بن نوح الحديث على أنه من مسند عبد الله بن بسر رضي الله عنه بلا واسطة بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم، لكن في رواية يحيى بن حسان البكري الفلسطيني، "وسمعته"، على الجزم بالسماع، وإسنادها كما عند أحمد, " حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ الطَّالَقَانِيّ ُ ، قَالَ : حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ ، عَنْ يَحْيَى بْنِ حَسَّانَ ، قَالَ : سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ بُسْرٍ الْمَازِنِيَّ ، يَقُولُ : ... إلخ"، وفيها عنعنة الوليد، ولم يخبرنا الشيخ رحمه الله عن سماع يحيى بن حسان عن عبد الله، ففي ترجمة يحيى بن حسان البكري الفلسطيني في تهذيب الكمال (31/269-270:
" 6810 - (بخ س) : يحيى بن حسان البكري الفلسطيني الرملي العسقلاني ، ويقال : المقدسي .
روى عن : أبي قرصافة جندرة بن خيشنة (بخ) ، وربيعة بن عامر (س) ، ولهما صحبة ، وسعيد بن المسيب ، وعبادة بن الصامت مرسل ، وعبد الله بن محيريز ، وعبيد بن تعلى ، وأبي ريحانة .

روى عنه : إبراهيم بن أدهم ، وبلال بن كعب العكي (بخ) ، وريان بن الجعد الكناني الفلسطيني ، وعبد الله بن المبارك (س) ، وعبد العزيز بن قرير ، وعميرة بن عبد الرحمن الخثعمي ، وموسى بن يسار الشامي ، وهشام بن سعد المدني .

قال عبد الله بن المبارك : كان شيخا كبيرا ، حسن الفهم من أهل بيت المقدس .

وقال أبو حاتم : لا بأس به .

وقال النسائي : ثقة .

وذكره ابن حبان في كتاب " الثقات " .

روى له البخاري في " الأدب " ، والنسائي ".
فلعله تصحيح من الشيخ بالمعاصرة وإمكان اللقاء، ومع هذا نحتاج لشي من الأخبار في إثبات السماع.
وفي رواية حسان بن نوح طريقان, إحداهما بالتصريح بالسماع، والأخرى بدون تصريح، ففي رواية ابن حبان ومن معه عن حسان بن نوح, "وسمعته يقول"، وفي رواية أحمد عن حسان بن نوح, "ونهى عن صيام ...إلخ"، فمدار هذه المتابعة على حسان بن عطية، ولا شك أن قول الصحابي, أمرنا أو نهينا وما أشبهها من الموقوف الذي له حكم الرفع، لكن، قد يطرأ هنا أن التعبير بعبارة, " وَنَهَى عَنْ صِيَامِ يَوْمِ السَّبْتِ ، إِلَّا فِي فَرِيضَةٍ}، قد يوافق الوجه الراجح بحيث يكون تحمل عبد الله رضي الله عنه النهي عن أخته، وهذا إنما يستقيم إذا ما قيل بضعف رواية حسان المصرح فيها بالسماع أو أنها مرجوحة، ولم تختلف الرواية عن حسان في التصريح بالسماع من عدمه فحسب، بل اختلف الرواة في اسم الصحابي أيضا, حيث رواه ثقتان كما قال الشيخ وهما مبشر بن إسماعيل وعلي بن عياش بسندهما عن حسان بن عطية عن عبد الله بن بسر، على ما ذكر في اختلاف صيغة الرواية، ورواه أبو المغيرة فرفعه عن أبي أمامة، رضي الله عنه:
ففي مسند الروياني, 1244 نَا سَلَمَةُ ، نَا أَبُو الْمُغِيرَةِ ، نَا حَسَّانُ بْنُ نُوحٍ قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ يَقُولُ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : " لَا يَصُومَنَّ أَحَدُكُمْ يَوْمَ السَّبْتِ إِلَّا فِي الْفَرِيضَةِ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ إِلَّا لِحَاءَ شَجَرَةٍ فَلْيُفْطِرْ عَلَيْهِ " *
قال الشيخ الألباني رحمه الله في تمام المنة (4/123):
"قلت: فإما أن يقال: إن حسانا له إسنادان فى هذا الحديث أحدهما عن عبد الله بن بسر , والآخر عن أبى أمامة , فكان يحدث تارة بهذا , وتارة بهذا , فسمعه منه مبشر بن إسماعيل وعلى بن عياش منه بالسند الأول , وسمعه أبو المغيرة ـ واسمه عبد القدوس بن الحجاج الخولانى ـ منه بالسند الآخر , وكل ثقة حافظ لما حدث به.
وإما أن يقال: خالف أبو المغيرة الثقتين , فروايته شاذة , وهذا أمر صعب لا يطمئن له القلب , لما فيه من تخطئه الثقة بدون حجة قوية".
وهناك احتمال ثالث ورابع، فالثالث أن تكون إحدى الروايتين من أوهام الثقات، والرابع أن يكون من الاضطراب الذي أعل به الأئمة الحديث.
والخلاصة التي وصل إليها الشيخ من تصحيح هتين الروايتين أن سماع عبد الله بن بسر عن النبي صلى الله عليه وسلم ثابتة أيضا، ومن ثلاث طرق، وهذه النتيجة مبنية على كون الاضطراب المذكور ليس قادحا بل من اختلاف الرواية غير القادح، وتفرع عن هذا تقوية روايتي حسان بن عطية ويحيى بن حسان، فهما عند الشيخ من اختلاف وجوه الرواية حتى وإن كان بعض الرواة يرويه عن صحابيين مختلفين.
وفي ترجمة الذهبي رحمه الله لعبد الله بن بسر في سير أعلام النبلاء في طبقة صغار الصحابة ما نصه(3/430-433:
" ابن أبي بسر ، الصحابي المعمر ، بركة الشام ، أبو صفوان المازني ، نزيل حمص . له أحاديث قليلة ، وصحبة يسيرة ، ولأخويه عطية والصماء ولأبيهم صحبة .
حدث عنه : محمد بن عبد الرحمن اليحصبي ، وراشد بن سعد ، وخالد بن معدان ، وأبو الزاهرية ، وسليم بن عامر ، ومحمد بن زياد الألهاني ، وحسان بن نوح ، وصفوان بن عمرو ، وحريز بن عثمان الحمصيون ، وقد غزا جزيرة قبرس مع معاوية في دولة عثمان".
إلى أن قال:
" إبراهيم بن محمد بن زياد الألهاني : عن أبيه ، عن عبد الله بن بسر ؛ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له : يعيش هذا الغلام قرنا . قال : فعاش مائة سنة . سمعه شريح بن يزيد الحضرمي منه .
عصام بن خالد : حدثنا الحسن بن أيوب الحضرمي قال : أراني عبد الله بن بسر شامة في قرنه ، فوضعت أصبعي عليها ، فقال : وضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصبعه عليها ، ثم قال : لتبلغن قرنا .
رواه أحمد في " المسند جنادة بن مروان : حدثنا محمد بن القاسم الحمصي ، سمع عبد الله بن بسر قال : أكل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندنا حيسا ، ودعا لنا . ثم التفت إلي وأنا غلام ، فمسح على رأسي ، ثم قال : يعيش هذا الغلام قرنا فعاش مائة .
روى نحوه سلمة بن حواس : عن محمد بن القاسم ؛ أنه كان مع ابن بسر في قريته ، وزاد فيه : فقلت : يا رسول الله ! كم القرن ؟ قال : مائة سنة".
إلى أن قال:
قال الواقدي : مات سنة ثمان وثمانين وهو آخر من مات من الصحابة بالشام . قال : وله أربع وتسعون سنة . وكذا أرخه في سنة ثمان وثمانين جماعة .
وقال أبو زرعة الدمشقي مات قبل سنة مائة
وقال عبد الصمد بن سعيد الحافظ : توفي سنة ست وتسعين .
وقال يزيد بن عبد ربه الجرجسي : توفي في إمرة سليمان بن عبد الملك .
حديثه في الكتب الستة".
فهو أنصاري، وسكن الشام، وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم حين كان رضي الله عنه غلاما، ولعل هذا سبب قلة حديثه، ولأنه أنصاري فلا ريب أنه أدرك النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة، وهذه أمور تؤخر احتمال تعدد السماع، بل تقوي سماعه من غيره.
ومما تقدم يعلم أن الشيخ الألباني رحمه الله انتقل في نقض شبهة الاضطراب بصفته علة قادحة على مراحل:
--الأولى, معارضة كون الحكم بالاضطراب على قادحة باحتمال تعدد الروايات، وهو احتمال معارض بكلام أهل الاختصاص بالعلل ممن تقدم، وهم ثلاثة حكموا بالاضطراب, الدارقطني، النسائي، ابن حجر، وأعلى ما يقال في هذا التوجيه أنه احتمال معارض باحتمال، فيحتاج معه للترجيح.
--الثانية, موافقة من تقدم في ترجيح وجه، والحكم على غيره بالشذوذ، ويكفي في بيان قوتها تواطؤ ثلاثة من الأئمة عليها، ووقوف الشيخ عندها.
--الثالثة تقوية الرواية التي هي من مسند عبد الله بشواهد لا تخلو من معارضات، وهذا يدعم أن الاضطراب من باب العلة القادحة، لا من باب اختلاف الوجوه التي يمكن أن يقوي بعضها بعضا.
ولم يركز الشيخ رحمه الله في ترجيحه أن اختلاف الطرق من باب تعدد الوجوه الإسنادية على أن حكم الأئمة ليس في الاختلاف على الصحابي أو التابعي ثور رحمه الله، فقط بل كان الاختلاف في أكثر من طبقة من طبقات الرواة، كما سبق ذكره، ولعله لو حضر هذا في ذهنه لكان حكمه مختلفا، لهذا حكم بالشذوذ على ثلاثة أوجه من رواية الحديث، ثم عمد إلى تقوية وجه منها بوجوه لا تخلو من معارض.
وأخيرا فالاضطراب في السند الذي أعل به الحديث يوافقه أمر مهم كان الشيخ يذكره في كثير من المناسبات، وهو أن راوي الحديث أعلم بمرويه، وقد مضى النقل عن النسائي في السند الثاني عشر عن ثوبان، وجود إسناده الشيخ الألباني، لكنه فسره على وجه هو غير المتبادر منه، بناء على تقوية المرفوع الذي ليس فيه استثناء إلا للفريضة، ولم يذكر لنا الشيخ سلفه في هذا التفسير، حيث جعل قول الصحابي, "لا لك"، غير مشروع لك، وفسر قوله, "ولا عليك"، أي وأنت جاهل بحكم المعنى، وأنكر بناء على المعنى المتبادر للذهن على من يشغل نفسه بما لا فائدة له فيه، كما في الحديث عن صيام الدهر, {لا صام ولا أفطر}.
إذن، فهما احتمالان عند الشيخ في فهم هذا المروي عن الصحابي من قوله، ومع القول بصحة هذا المروي يكون إشكالا مضافا إلى إشكال اضطراب الأسانيد، وهو الإشكال في تفسير النص من راويه، إن قيل بصحت سنده.
والحاصل أن اجتهاد الشيخ في معالجة شبهة الاضطراب على أنها علة غير قادحة، لها ما يضادها أكثر مما يدعمها، والله أعلم.