خاطرة إيمانية, يا عينا ستموت، اعملي لسرور بنعيم لا موت معه:
يا عينا ستموت، اعملي لسرور بنعيم لا موت معه، وأي نعيم هذا النعيم؟! لو كنت تعقلين:
قال ابن عبد البر المالكي رحمه الله في كتابه التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (7/155):
"وَقَدْ جَاءَ أَنَّ مُوسَى قَالَ لَهُ رَبُّهُ حِينَئِذٍ لَنْ تَرَانِي عَيْنٌ إِلَّا مَاتَتْ إِنَّمَا يَرَانِي أَهْلُ الْجَنَّةِ الَّذِينَ لَا تَمُوتُ أَعْيُنُهُمْ وَلَا تَبْلَى أَجْسَادُهُمْ.
وَجَاءَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: "لَمَّا كَلَّمَ مُوسَى رَبَّهُ دَخَلَ قَلْبَهُ مِنَ السُّرُورِ بِكَلَامِهِ مَا لَمْ يَدْخُلْ قَلْبَهُ مِثْلُهُ فَدَعَتْهُ نَفْسُهُ إِلَى أَنْ يُرِيَهُ نَفْسَهُ".
وَعَنْ قَتَادَةَ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَجَمَاعَةٍ مِثْلِ ذَلِكَ.
وَذَكَرَ سَنِيدٌ عَنْ حَجَّاجٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَنِ الرَّبِيعِ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ: {تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَْ =}، قَالَ: أَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِكَ أَنَّهُ لَا يَرَاكَ أَحَدٌ إِلَّا يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَوْ كَانَ فِيهَا عَهْدٌ إِلَى مُوسَى قَبْلَ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَرَى لَمْ يَسْأَلْ رَبَّهُ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُعْطِيهِ إِيَّاهُ، وَلَوْ كَانَ ذلك عنده غير مُمْكِنٌ لَمَا سَأَلَهُ مَا لَا يُمْكِنُ عِنْدَهُ، وَأَهْلُ الْبِدَعِ الْمُخَالِفُونَ لَنَا فِي هَذَا التَّأْوِيلِ يَقُولُونَ إِنَّ مَنْ جَوَّزَ مِثْلَ هَذَا وَأَمْكَنَ عِنْدَهُ فَقَدْ كَفَرَ، فَيَلْزَمُهُمْ تَكْفِيرُ مُوسَى نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَفَى بِتَكْفِيرِهِ كُفْرًا وَجَهْلًا".

ليست الفرحة العظمى في الجنة بأن الأجساد لا تبلى، وأن العين في كامل صحتها وعافيتها لا تموت، مع أنه سبب عظيم للفرح، لكن، السبب العظيم للفرح أن هذه العين التي لا تموت، والجسد الذي لا يبلَ تقر وتسعد برؤية الله عز وجل، وقد كانت عينا ضعيفة تبلى في الدنيا مجترحة للمعاصي، فلما طهرتها الممحصات العشرة بما فيها الموت وما يصحبه أو ما يكون بعده صارت عينا نقية تأهلت بقدرة الله عز وجل لأمر عظيم فيه غاية فرحها وسرورها، وهو لذة النظر إلى وجه الله الكريم، فتفرح بتلك الرؤية أشد من فرح المحب في الدنيا بلقاء حبيبه الذي كان غائبا عنه.
لو كان مشاهد ينظر إلى حرارة لقاء محب لحبيبه الغائب لربما دمعت عيناه وتأثر وغبط هذين في حب بعضهما لبعض، فكيف بشعور ذلك المحب نفسه عند لقاء محبوبه من المخلوقين؟ وكيف سيكون شعور ذلك الحبيب الغائب أيضا؟
يا لهف نفسي على أم تنعم بلقاء ابن لها بعد طول غياب! لهف نفسي على ابنة تلقى أباها المفقود! مهما قويت حرارة هذا اللقاء بين المخلوقين، لا تساوي شيئا أمام ما ذكره الحسن البصري رحمه الله عن موسى عليه السلام:
"لَمَّا كَلَّمَ مُوسَى رَبَّهُ دَخَلَ قَلْبَهُ مِنَ السُّرُورِ بِكَلَامِهِ مَا لَمْ يَدْخُلْ قَلْبَهُ مِثْلُهُ فَدَعَتْهُ نَفْسُهُ إِلَى أَنْ يُرِيَهُ نَفْسَهُ".
حلاوة تكليم الله عز وجل لعبده بلا ترجمان ولذته به، لم نعلم ذاقها عيانا وعاشها حقيقة في الدنيا والله أعلم, إلا قلبان قلب موسى عليه السلام، وقلب النبي صلى الله عليه وسلم في المعراج،وأما نحن فليس لنا إلا التفكر فيها، والطمع، والرجاء، والاستدلال عليها بأحوال أقل منها عند حلاوة المناجاة في الصلاة والدعاء والعبادة، وإذا كانت لذتها في الصلاة وحلاوتها ما لو علمه الملوك وأبناء الملوك لجالدوا عليها بالسيوف، فكيف بها عيانا، فلما ذاق موسى عليه السلام لذة التكليم بلا ترجمان، اشتاق إلى لذة النظر لمن له أوصاف الكمال والجمال والجلال، وهي لذة وحلاوة أعلى بأضعاف مضاعفة من حلاوة ولذة المحب من المخلوقين بحبيبه المخلوق، سواء أكان غائبا عنه، أم كان متنعما به في الوصال، بل غيرها لا يذكر أمامها، فأين أنت أيتها العين التي ستموتين من هذا النعيم؟ ما هو أشد عليك أيتها العين من الموت أن يفوتك هذا النعيم، "لَنْ تَرَانِي عَيْنٌ إِلَّا مَاتَتْ إِنَّمَا يَرَانِي أَهْلُ الْجَنَّةِ الَّذِينَ لَا تَمُوتُ أَعْيُنُهُمْ وَلَا تَبْلَى أَجْسَادُهُمْ".
يا ليتنا نكون ممن يتفضل الله علينا بهذا النعيم، وإلا فأنا أشهد على نفسي أني لست من أهله بما كسبت يدي، والله يتولانا وهو يتولى الصالحين.