أولا : عندما يقوم أحد الأحناف بتحقيق كتاب ، فعليك أن تكون على حذر من تحقيقه، لأن أبا حنيفة في جميع كتب الضعفاء والمجروحين جاءت ترجمته بما لا يرضى عنه أتباعُه، فيبذلون الجهد في الدفاع بأساليب مختلفة ، منها :
أنهم قد يحذفون القول المذكور في أبي حنيفة.
أو يقومون بالتقليل من الأقوال التي تضعفه ، فيذكرون قولا ، أو قولين ، ويتركون مئات الأقوال ، تدليسا على القارئ أنه لم يتكلم في أبي حنيفة سوى اثنان من المتأخرين.
أو يقولون إن الذين ضعفوا أبا حنيفة ، وحكموا أنه في الحديث ليس بشيء، إنما هذا من باب الحقد ، والحسد.
ولأنني أكتب في منتدى محترم ، ولناس محترمين ، من طلبة العلم ، وربما أكون أقلهم شأنا في ميزان العلم ، لذلك من احترامي لهم أن أُدلِّل بالأمثلة القاطعة لكل شك.
ـ مثال على أنهم قد يحذفون القول المذكور في أبي حنيفة:
راجع سنن الترمذي ، طبعة الشيخ أحمد شاكر ، والرجل من الأفاضل وليس حنفيًّا ، الحديث رقم (559) ، ستراه هكذا:
559- حَدَّثنا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلاَنَ، قَالَ: حَدَّثنا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ كِنَانَةَ، عَنْ أَبِيهِ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ، وَزَادَ فِيهِ: مُتَخَشِّعًا.
قال الترمذي: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ قَالَ: يُصَلِّي صَلاَةَ الاِسْتِسْقَاءِ نَحْوَ صَلاَةِ العِيدَيْنِ، يُكَبِّرُ فِي الرَّكْعَةِ الأُولَى سَبْعًا، وَفِي الثَّانِيَةِ خَمْسًا، وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَرُوِي عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، أَنَّهُ قَالَ: لاَ يُكَبِّرُ فِي صَلاَةِ الاِسْتِسْقَاءِ كَمَا يُكَبِّرُ فِي صَلاَةِ العِيدَيْنِ.
وَقَالَ النُّعْمَانُ، أَبُو حَنِيفَةَ: لاَ تُصَلَّى صَلاَةُ الاِسْتِسْقَاءِ ، وَلاَ آمُرُهُمْ بِتَحْوِيلِ الرِّدَاءِ، وَلَكِنْ يَدْعُونَ وَيَرْجِعُونَ بِجُمْلَتِهِمْ.
قال الترمذي: خَالَفَ السُّنَّةَ. انتهى.
راجع طبعة الرسالة رقم (567)، وانظر في الحديث ، ستجدونهم حذفوا مخالفة أبي حنيفة لسنة محمد صلى الله عَليه وسلم ، من جذورها، دون أي إشارة ، مع ثبوتها في النسخ الخطية (ع و م و ب) التي اعتمدها الشيخ شاكر، وذكرها في طبعته، فانظرها.
* * *
والدليل على أنهم يقومون بالتقليل من الأقوال التي تضعفه ، فيذكرون قولا ، أو قولين ، ويتركون مئات الأقوال ، تدليسا على القارئ أنه لم يتكلم في أبي حنيفة سوى اثنان من المتأخرين:
ما كتبه شعيب الأرنؤوط ، وهو حنفيٌّ جلد ، في تعليقه على سير أعلام النبلاء 6/392، قال:
وأما ما يؤثر عن النسائي، وابن عدي من تضعيفهم لأبي حنيفة من جهة حفظه، فهو مردود لا يعتد به، في جنب توثيق أئمة الجرح والتعديل من أمثال: علي بن المديني، ويحيى بن معين، وشعبة وإسرائيل بن يونس، ويحيى بن آدم، وابن داود الخريبي، والحسن بن صالح، وغيرهم.
فهؤلاء كلهم معاصرون لأبي حنيفة أو قريبو العهد به، وهم أعلم الناس به، وأعلم من النسائي، وابن عدي، وأمثالهما من المتأخرين عن أبي حنيفة بكثير، كالدارقطني الذي ولد بعد مئتي سنة من وفاة أبي حنيفة، فقول هؤلاء الأئمة الاقرب والاعلم، أحرى بالقبول، وقول المتأخر زمانا أجدر بالرمي في حضيض الخمول، وقد نقل الشيخ ابن حجر المكي في " الخيرات الحسان " ص 34 قول شعبة بن الحجاج في أبي حنيفة: " كان والله حسن الفهم، جيد الحفظ " وهذا نص صريح في قوة حفظه، صادر عمن هو مشهود له بالامامة وبالتدين، والتشدد في نقد الرجال، وبهذا القول الرشيد يسقط كل ما ادعاه المتعصبون، والحاقدون، من متقدم ومتأخر، من ضعف حفظ هذا الامام العظيم. انتهى كلام شعيب بتمامه.
فهنا دلَّس ، وهو يعلم الحقيقة كاملة.
فالذي يقرأ هذا الكلام يشعر أنه لم يتكلم في أبي حنيفة إلا ثلاثة من المتأخرين : النسائي، وابن عدي ، والدارقطني ، ولم يتكلموا إلا في حفظه.
وكل هذا الذي ذكره كذبٌ ، في كذب، وهو يعرف ذلك كما يعرف أولاده.
أولا : ليس في علماء الأمة من حكم بالضعف على أبي حنيفة لحفظه ، وأنا أكتب هنا بين طلاب علم ، ومحققين ، وباحثين، أخرجوا لي عالما ضعف أبا حنيفة لحفظه.
ثانيا ، قول شعيب: وذكر أنه وثقه: علي بن المديني، ويحيى بن معين، وشعبة وإسرائيل بن يونس، ويحيى بن آدم، وابن داود الخريبي، والحسن بن صالح، وغيرهم.
وهذا تدليس رخيص ، لم يوثقه على ابن المديني من طريق صحيح ، واختلف فيه قول ابن معين ، هكذا:
قال ابن مُحْرِز : سَمعتُ يَحْيَى بن مَعِين يَقول : كان أبو حَنِيفَة لا بأسَ به , وكان لا يَكْذِب.
وسَمعتُ يَحْيَى يقول مَرَّةً أُخرى : أبو حَنِيفَة عندنا مِنْ أهل الصِّدْقِ , ولم يُتَّهَم بالكَذِب , ولقد ضربه ابن هُبَيْرَة على القضاءِ , فأَبَى أن يكون قاضيًا. 1/(230).
وقال مُحَمّد بن عُثْمَان بن أَبي شَيْبَة : سَمعتُ يَحْيَى بن مَعِين , وسُئِل عن أَبي حَنِيفَة ؟ قال : كان يُضَعَّفُ في الحديثِ. "ضُعفاء العُقَيلي" 4/1412.
وقال أحمد بن زُهَيْر بن حَرْب : سَمعتُ يَحْيَى بن مَعِين يَقول : كان الثَّوْرِيّ يَعِيبُ على أبي حَنِيفَة حديثًا يَرْوِيه , ولم يكن يَرْوِيه غير أبي حَنِيفَة , عن عاصم , عن أبي رَزِين , عن ابن عَبَّاس , فلما خرج إلى اليَمَن دَلَّسهُ عن عاصم.
وقال ابن أَبي مَرْيَم : سألتُ يَحْيَى بن مَعِين , عن أبي حَنِيفَة ؟ قال : لا يُكْتب حديثُه.
وقال جَعْفَر الطَّيَالِسِيّ : سألتُ يَحْيَى بن مَعِين , عن أَبي حَنِيفَة ؟ فقال : أبو حَنِيفَة أَجَلَّ مِنْ أن يَكْذِبَ. "الكامل" 8/240.
فهذا لا يُقال فيه: وثقه ابن معين ، بل : اختلف فيه قول ابن معين.
ثالثا: أما أنه لم يتكلم في أبي حنيفة إلا ثلاثة من المتأخرين : النسائي، وابن عدي ، والدارقطني، فهذه مصيبة المصائب، أجمع الرد عليها في قول واحدٍ لابن عدي ، في الكامل 8/241:
سمعتُ ابن أَبي داود، يقول: الوقيعة في أَبِي حنيفة إجماعة من العلماء؛
لأَن إمام البصرة أيوب السختياني وقد تكلم فيه.
وإمام الكوفة الثَّوْريّ وقد تكلم فيه.
وإمام الحجاز مالك وقد تكلم فيه.
وإمام مصر الليث بن سعد وقد تكلم فيه.
وإمام الشام الأَوْزاعِيّ وقد تكلم فيه.
وإمام خراسان عَبد الله بن المُبَارك وقد تكلم فيه.
فالوقيعة فيه إجماع من العلماء في جميع الآفاق، أو كما قال. انتهى.
واختم هذا القسم الأول بما أورده واحد من أكبر علماء هذه الأمة ، أحمد بن حنبل ، في أبي حنيفة ، لتقفوا على كذب وتدليس المتأخرين الذين يظنون أن الناس لا تقرأ ، ولا تبحث ، فحمل من المرفقات كتاب "السنة" لعبد الله بن أحمد بن حنبل ، واقرأ من صفحة (180) وحتى (229)، لترى ماذا قال علماء أُمة محمد صلى الله عَليه وسلم لإي أبي حنيفة، على جميع الطبقات، من المعاصرين له ، ومن جاء من بعده.
***
آسف للإطالة ، ولولا تدليسهم لاختصرت.
صدر منذ أسابيع طبعة مؤسسة الرسالة (العالمية) ، لميزان الاعتدال، وعليكم تذكر كلمة (العالمية) هذه ، فلم تعد مؤسسة الرسالة، هي مؤسسة الرسالة التي كنت تعرفون ، الاسم الآن يوضع كعلامة تجارية فقط، وسوف ينافسون دار الكتب العلمية في إصدار الكتب، وبكميات غير مسبوقة ، وكيفما اتفق.
وعندما وصل المحققون الأشاوس إلى ترجمة أبي حنيفة ، حذفوها من الميزان ، لأن شعيبا سبقهم من قبل ، منذ أكثر من خمسة وعشرين سنة أن ترجمة أبي حنيفة ليست من ميزان الاعتدال ، راجع سير أعلام النبلاء 6/392.
وبعد أن قاموا بحذف الترجمة، بدؤوا في مرحلة تغيير معالم الجريمة لكي لا تكتشف، وهنا أساليبهم معروفة ، وأهمها : التدليس.
كتبوا : وقع قبلها في مطبوع الميزان ترجمة الإمام أبي حنيفة النعمان، وهي مقحمة، فليست في نسخة المصنف (أ)، ولا في نسخة السبط ابن العجمي (س)، وليست في "اللسان" أيضاً، وهذا يتوافق مع ما اشترطه المصنف على نفسه في مقدمة كتابه، حيث قال: وكذا لا أذكر في كتابي من الأئمة المتبوعين في الفروع أحداً لجلالتهم في الإسلام وعظمتهم في النفوس، مثل أبي حنيفة والشافعي والبخاري، فإن ذكرت أحداً منهم فأذكره على الإنصاف.. أهـ.
وانظر ما علقه الشيخ عبد الفتاح أبو غدة على "الرفع والتكميل" 121 - 126،فإنه نافع نفيس). انتهى كلامهم.
1ـ إذن من كلامهم أن ترجمة أبي حنيفة لم ترد في نسختين خطيتين ، من النسخ الخمسة التي اعتمدوها ، فبالله عليك: ماذا في الثلاث الباقيات ؟!!!
2ـ ومنهجهم في الكتاب من أوله إلى آخره ، أنهم اعتمدوا النسخ الخمسة ، يكمل بعضها بعضًا ، كما هو معروف عند العاملين في التحقيق ، فإذا سقطت فقرة، أو ترجمة ، من نسختين ، وثبتت في ثلاث نسخ ، أنت اعتمدتَها ، وذكرتها في مقدمتك ، فلا بد من إثبات النقص في الأصل.
وإلا كان عليك أن تكتب في مقدمتك : اعتمدت نسختين خطيتين ، هما (أ) و (س)، والباقيات (لزوم الديكور).
وأنت لم تخبرنا بالديكور ، بل ذكرت النسخ الخمسة ، ووصفت، ومدحت، وأثنيت ، وأضعت الأمانة.
3ـ انظر إلى التدليس الرخيص، واستهتارهم بطلبة العلم ، واحتقارهم لأنفسهم ، يقولون : فليست في نسخة المصنف (أ)، ولا في نسخة السبط ابن العجمي (س)، وليست في "اللسان" أيضاً.
ومن الذي قال : إن ترجمة أبي حنيفة على شرط ابن حجر في المذكورين في الميزان.
إذا كانوا لا يعرفون جميعا ، فيكفيني ذلك منهم ، أن أعرف مستواهم العلمي والفكري.
وإن كانوا يعرفون ، وهم يعرفون، لأنني أعرف كبيرهم جيدا ويعرفني، فهنا ضاعت الأمانة.
ابن حجر ، كما يعلم أصغر طالب علم، بدليل أنني أعرف، لا يذكر في "لسان الميزان" سوى التراجم التي لم ترد في "تهذيب الكمال" ومشتقاته، وأبو حنيفة له ترجمة في "تهذيب الكمال".
4ـ أما المصيبة الرابعة في تعليقهم قولهم: وانظر ما علقه الشيخ عبد الفتاح أبو غدة على "الرفع والتكميل".
نعم، كالمستجير من الرمضاء بنار جهنم، أبو غدة لو شاء لحذف ترجمة أبي حنيفة من :
التاريخ الكبير، للبخاري 8/2253، وأحوال الرجال للجوزجاني (95)، والكنى لمسلم، (963)، وضعفاء النَّسَائي (586)، وضعفاء العقيلي، 4/1407، و"الجَرح والتعديل" 8/2062، والمجروحين لابن حبان 3/61، و"الكامل" 8/135.
أخيرا؛
الأمانة، هي أساس التحقيق ، والتحقيق لتراث الأمة ، والأمة، هي أمة محمد ، وما غشها أحدٌ فرأى في حياته فلاحًا.
وبعون الله أقوم الآن بإعداد ملف حول التصحيفات والأخطاء التي حفلت بها هذه الطبعة.
وهذا كتاب السنة لعبد الله بن أحمد بن حنبل كاملا