الطهارة وبيان أقسامها وأحكامها


أ.د. حسن عبد الغني أبوغدة




تعريف الطهارة: هي في اللغة: النظافة والنزاهة عن الدنس الحسي كالدم, والمعنوي كالحسد. يقال: طهُر الجريح من الدم, وطهر الرجل من الحسد: نظُف ونَزِه ونَقي.





والطهارة في الاصطلاح: إزالة الخَبَث الحِسِّيِّ بالماء, والحدَث الحُكْمي بالماء، أو التيمم.




ويقصد بالخبث الحسي : النجاسة التي تصيب البدن، أو الثوب، أو المكان, والتي ينبغي على المسلم التنزه عنها, لقوله تعالى: { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}. المدثر/4.



وحقيقة النجاسة: أعيان يحرم التساهل في مخالطتها رعاية لحق الشرع؛ لما فيها من أضرار ومفاسد, كالبول، والغائط، والخمر، والدم، والميتة، والخنزير...



أما الحدَث الحُكْمي الذي يُزال بالماء أو التيمم, فهو أمر اعتباري (معنوي) مقدَّر من قِبَل الشرع, وهو هنا: حالات الجنابة والحيض والنفاس, وحينما يكون الإنسان غير متوضئ.



وسيأتي في مواضعه أن هناك عبادات لا يصح أداؤها إلا بعد أن يتطهر لها المكلف من الخبث الحسي، والحدث الحكمي المعنوي.



مدلول عبارة (كتاب الطهارة) عند الفقهاء: تبدأ كتب الفقه عادة ببيان أحكام الطهارة تحت عنوان: (كتاب الطهارة) أو (باب الطهارة)، وإليك توضيح ذلك:



الكتاب لغة: مفرد كُتُب, وهو مصدر للفعل كَتَب, ويراد به هنا: الشيء المكتوب, كالخَلْق بمعنى: المخلوق.



ويقصد بلفظ (كتاب) حين يورده الفقهاء في العنوان: اسم جنس (مجموعة متجانسة) من المسائل والأحكام الفقهية. ففي كتاب الطهارة, يورد الفقهاء أحكام المياه، والغُسل, والوضوء, والتيمم, ونحوه, مما يتصل بموضوعات الطهارة. وقل نحو هذا في عنوان: (كتاب الصلاة)، وعنوان : (كتاب الصوم)...



أما إعراب جملة: (كتاب الطهارة)، فهو كما يلي:



كتابُ: خبر مرفوع لمبتدأ محذوف تقديره: هذا، وهو مضاف.



الطهارةِ: مضاف إليه مجرور وعلامة جره الكسرة الظاهرة.




وبهذا يكون تفصيل الجملة السابقة على النحو التالي: هذا كتابُ الطهارة, ويكون معناها: هذا جنسٌ من المسائل والأحكام الفقهية المتعلقة بأمور الطهارة.





ثم لك أن تقول نحو ذلك في كتاب الصلاة, وكتاب الصوم, وكتاب الحج, ولك أن تقول أيضاً نحو ما تقدم فيما يُعَنْوِن له الفقهاء: (باب الطهارة) أو (باب الصلاة) أو (باب الصوم).




سبب تقديم الطهارة على غيرها من موضوعات العبادات: دأبت كتب الفقه عامة على تقديم موضوع الطهارة ـ في الذكر والترتيب ـ على غيره من موضوعات العبادات الأخرى؛ وذلك لأن الطهارة من أهم العبادات, وهي مقدمة وأساس لها, بل هي بمثابة الشرط الذي يقدم على المشروط.




ثم إن الفقهاء قدموا العبادات كالصلاة، والصوم، والزكاة، على غيرها من موضوعات الفقه الأخرى؛ لأن العبادات هي سبب القربى من الله تعالى، وهي أيضاً سبب لصلاح القلوب والنفوس، وإذا صلحت القلوب والنفوس صلحت المعاملات، ثم تأتي بعد العباداتِ المعاملاتُ المالية، التي يحتاج إليها الناس في كل يوم، ثم تأتي أحكامُ الزواج أو النكاح، الذي لا يستغني عنه الإنسان؛ لأنه من المطالب الفطرية، ثم يأتي غير ذلك من موضوعات الفقه المتسلسلة تسلسلاً منطقياً محْكماً بين سابقه ولاحقه .




حكمة مشروعية الطهارة: اهتم الإسلام بالطهارة (النظافة على وجه مخصوص)، ومما شرعه في هذا المجال: الغُسل، والوضوء، ونظافة الفم والأنف ، وقص الأظافر، والبُعد عن الخبائث والدنَس والدَرَن، وذلك رعاية لحق الله تعالى، وبَرَّاً بعبيده وخلقه، وتحقيقاً لمقاصد دينية واجتماعية وصحية، وبيان هذا على النحو التالي :




1ـ الطهارة مطلب فطري إنساني: تتوافق الطهارة الحسية والمعنوية مع الفطرة البشرية والذوق السليم؛لأن الإنسان بطبعه يمقت الدنس والقذارة، ومن هنا اهتم الإسـلام بالطهارة ورغب فيها، ودعا إلـى تنـزيه النفس عن الأدناس المعنوية، ونظافة البدن والثوب والمكان عن الأدران والأدناس الحسـية، قال الله تعالى: { ... إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِي نَ } . البقرة /222.



2ـ الطهارة تُعمِّق معنى العزة والكرامة: إن حرص المسلم على الطهارة والنظافة يعمق في نفسه معنى العزة والكرامة، وبخاصة أنه يخالط أصحابه وإخوانه ويجالسهم ويحادثهم، فلا بد من أن يكون نقيَّ النفس، حسن المظهر، طيِّب الراحة، وهذه الصفات تبعث على الاعتزاز بصاحبها، والثقة فيه، والاطمئنان إليه، واتخاذه قدوة، وفي الحديث الذي رواه الترمذي وفيه ضعف: "إن الله طيِّب يحب الطيِّب، نظيف يحب النظافة … فنظِّفوا أفنيتكم، ولا تشبَّهوا باليهود ".





3ـ الطهارة تحقق الكمال الإنساني حال العبادة: ينبغي للمكلف حال تلبسه بالعبادة وتقربه من الله تعالى، أن يكون في أحسن ما يستطيع تحقيقه من الكمال الإنساني، وليس من اللائق به أن تخالطه الأدران والقذارات بدناً ومكاناً وثوباً، وهو يناجي ربه، ويتقرب إليه بالثناء عليه وتمجيده، وفي هذا جاءت الآية: { يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } . الأعراف /31.



4ـ الطهارة صحة بدنية ونفسية: من المسلَّم به أن الوضوء والغسل والبعد عن الأدران والأوساخ، من أسباب حفظ صحة الإنسان البدنية والنفسية، وهي تبعث فيه النشاط، وتجلب له العافية، وتحميه من الكسل والاسترخاء، وتبعد عنه الخمول والسآمة، وتنشط دورته الدموية، وتفتح نفسه على الحياة، فينظر إليها بنضارة وتفاؤل، فيُقدِم على أداء واجباته بهمة وعزيمة، طيِّب النفس، نشيط البدن، جاء في الحديث الذي رواه الشيخان: "أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسـل فيه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء ؟ قالوا : لا ...".



أقسام الطهارة وأحكامها: تقسم الطهارة بحسب كتابات الفقهاء واصطلاحاتهم إلى أقسام، ومن ذلك ما يلي:



أولاً: الطهارة الأصلية، والطهارة العارضة: مثال الأولى الأصلية: طهارة الماء الباقي على خِلْقته التي خلقه الله عليها، وذلك لقوله تعالى: {... وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً}. الفرقان/48. ومن الطهارة الأصلية أيضاً: الأرض الطاهرة خِلْقة، والثوب الطاهر أصلاً.




أما الطهارة العارضة فيُمثَّل لها: بطهارة الثوب بعد أن كان نجساً، وطهارة الأرض والماء مما لحقهما من نجاسة عارضة.




ثانياً: الطهارة الحُكْمية، والطهارة الحقيقية: فالطهارة الحكمية هي: إزالة الحدث الأصغر بالوضوء، أو بالتيمم، وإزالة الحدث الأكبر (الجنابة والحيض والنفاس ) بالغسل أو بالتيمم.



أما الطهارة الحقيقية: فهي إزالة الخبث الحسي، وذلك بغسل البدن، والثوب، والمكان، مما لحقه من أعيان النجاسة كالدم، والبول، والبراز، والخمر، ونحوه من النجاسات الحسية.



هذا، وينبغي على المسلم التحرُّز من النجاسات عامة والتنزُّه عنها قدر الإمكان، لما رواه الدارقطني بإسناد لا بأس به، والطبراني والبزَّار عن النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "عامة عذاب القبر في البول، فتنزَّهوا من البول".



تطهير الملابس ونحوها: يطهر البساط ونحوه كالملابس المتنجسة ببول وغائط ودم، بصبِّ الماء عليها حتى تزول عين النجاسة، ولو كان ذلك بغَسْلة واحدة. ويستحب حتُّ موضع النجاسة في الثوب ونحوه لتسهيل إزالة عين النجاسة، فإن لم يذهب لونها وبقي أثره عُفي عنه؛ وذلك لما رواه أحمد وأبو داود عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً بسند ضعَّفه ابن عبد البر: (الغَسل من البول مرة). ولحديث البخاري أيضاً: (إذا أصاب إحداكنَّ الدم من الحيضة، فلتقرِصْه، ثم لتنْضَحْه بماء، ثم لتصلَّ فيه). ولم يأمر فيه بعدد، بل قال في رواية لأحمد وأبي داود: (ولا يضرُّكِ أثرُه)؛ لأن من القواعد المقررة في الشريعة الإسلامية أن: " المشقة تجلب التيسير ".



وإذا غُسل الثوب النجس في ماء قليل ـ دون قُلَّتين ـ تنجس الماء، فإن فُرِّغ الماء وعصر الثوب، ثم غسل بماء طهور، صار طاهراً، فإن تكرر هذا كان أنقى.




وإنْ غُسِـل الثوب النجس في ماء كثير ـ قلتين فأكثر ـ طهر الثوب وبقي الماء طهوراً، وذلك إن لم يتغير لونه أو طعمه أو ريحه. وذلك لحديث أبـي داود والحاكـم وصححه: "إذا بلـغ الماء قُلَّتين لم ينجِّسْه شيء". وفي رواية ضعيفة لابن ماجه والدارقطـني: (إلا ما غلب على ريحه ولونه وطعمه). والقُلَّتان : حوالي (200) لتر من الماء.



أما تطهير الصحون ونحوها مما لا يتشرَّب النجاسة، فيكون بإمرار الماء الطاهر عليه حتى تزول النجاسة.



تطهير الثوب إذا بال عليه الرضيع: إذا بال الصغيرُ الذي يرضع ولما يأكل الطعام بعـدُ على الثوب ونحوه، فيكفي فيه ـ عند الحنابلة والشافعية ـ رشُّ الماء على موضـع البول؛ لحديث أبي داود وابن ماجه، وأصلُه في البخاري، عن لبابة بنت الحارث رضي الله عنها قالت: كان الحسين بن علي ـ رضي الله عنهما ـ في حِجْر رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فبال عليه، فقلت: اِلْبَس ثوباً آخر وأعطني إزارك حتى أغسله، فقال: "إنما يُغسـل من بول الأنثى، ويُنْضَح من بول الذكر". وسبب التفريق: أن بول الصغير غالباً ما ينتشر على أماكن الثوب، فيكفيه الرش دفعاً للحرج، بخلاف بول الصغيرة الذي يكون في موضع محدَّد يسهُل غسله.



وقال الحنفية والمالكية: يغسل موضع بول الغلام كما يغسل موضع بول الصغيرة؛ لأنه نجس كسائر الأبوال النجسة. والمختار قول الأوَّلين للنص.




التطهير بالغسل البخاري: يجوز وضعُ بعضِ المركَّبات الكيميائية على الثوب ونحوه وغسـلُه ببخار الماء؛ لإزالة ما علـق به من نجاسـة ونحوها، ولو لم يصل هذا " الغسل البخاري " إلى حد تقاطر الماء، لأن عين النجاسة زالت.







مقدار النجاسة المعفو عنه في الصلاة: تجب للصلاة طهارة البقعة من النجاسات كبول ودم وخمر، وكذلك تجب طهارة البدن والثوب، ويعفى في الصلاة عن يسير النجاسة في الثوب ونحوه، بحيث لا يستكثره الناظر؛ وذلك دفعاً للمشقة.






وحدَّد الحنفية النجاسة اليسيرة المعفو عنها، بقدر الدرهم وزْناً في النجاسة المتجسِّدة كالغائط، وبقدر الدرهم أيضاً مساحةً في النجاسة المائعة كالبول والدم؛ وذلك لما روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- أنه سئل عن قليل النجاسة في الثوب فقال: إذا كان مثلَ ظُفْري هذا، لا يمنع الصلاة حتى تكون أكثر منه. وكان ظفره - رضي الله عنه- قدر الدرهم، وقيل: كان ظفره قريباً من مقعَّر الكف، لأنه - رضي الله عنه- كان جسيم البدن، تخطُّ قدماه الأرضَ إذا ركب الحمار.




وروي عن أبي هريرة - رضي الله عنه- أنه لا يرى في القطرة والقطرتين بأساً في الصلاة.



وذكروا: أن الصلاة صحيحة بالنجاسة اليسيرة المعفوِّ عنها بحسب ما وصفنا، لكنها مكروهـة؛ للأمر بالتنزُّه من عموم النجاسات، في قول الله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} المدثر /4. وغيرُ الثياب مثلُ الثياب في وجوب تطهيرها . . .



*****



* أستاذ الفقه الإسلامي والسياسة الشرعية بجامعة الملك سعود