تابعونا على المجلس العلمي على Facebook المجلس العلمي على Twitter
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد


النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: دعاء النبي صلى الله عليه وسلم

  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,993

    افتراضي دعاء النبي صلى الله عليه وسلم

    دعاء النبي صلى الله عليه وسلم 1-2


    للأستاذ السيد أبي الحسن الندوي





    الفضائل النبوية لها قسمان:

    يمكن أن تقسم الفضائل النبوية التي توفرت في شخصية النبي صلى الله عليه وسلم إلى قسمين: العبودية الكاملة، والنبوة الجامعة.
    الدعاء والدعوة:

    الدعاء هو مظهر العبودية كما أن مظهر النبوة هو الدعوة، وكلاهما من أهم وأبرز عناوين السيرة المحمدية، وناحيتان منفردتان، وفصلان مستقلان لهذه الحصيفة المعجزة، أما الدعوة فقد وقع عليها نظر كل دارس، ولفتت عناية كل باحث، و زخرت الكتب والمؤلفات بتفاصيلها، وتنور العالم كله بأنوارها، ولا يزال يتمتع بآثارها وثمارها وذلك، لأن الدعوة تتعلق بالمشاهد والمجالس، فشهدها كل إنسان جلية واضحة، أما الدعاء فقد قلَّ عدد من تأمل فيما يحمله من الأهمية من بين جوانب السيرة، وما كان نصيبه من التأثير في الدعوة النبوية نفسها، وإلى أي حد من الأوج والكمال انتهى النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الناحية للعبودية، والخضوع التام أمام الرب سبحانه، وكيف قام بإحياء هذه الناحية الهامة وإنمائها وريها وسقيها ـ وقد كانت ضائعة مهملة كجميع نواحي العبادة والعبودية ـ ولم يلحق برفيقه الأعلى إلا بعد ما قام بتكميلها وتعميمها.
    ضعف الصلة بين العبد والمعبود في الجاهلية:

    كل من درس تاريخ العقائد والديانات دراسة عميقة شاملة، وأحاط به في معنى الكلمة عرف جيداً: أن الصلة بين العبد والمعبود في هذا العهد ـ الذي تسمى بالجاهلية ـ قد ضعفت واضحملت، حتى نضب معين الدعاء ـ الذي ينبع من اليقين والحب والخشوع والخشية ـ في داخل النفوس البشرية، وقد تعلق العبد ـ فيما يتعلق بنفسه وبالمعبود معاً ـ بأوهام وأخيلة كان معها من المستحيل أن تتحرك في النفوس عاطفة الدعاء، وتشعر بالحاجة إليها،فإن الدعاء لا يكاد يصدر حتى يتمكن العبد من الإيمان بالذي يحقق جميع متطلباته وحاجاته، ثم من اليقين بأنه مليك مقتدر على كل شيء، ثم من الثقة بأنه لا ملجأ إلا إليه، ولا معطي إلا هو، وبالتالي من الإيمان بأنه يحب الإعطاء، وأن المحبة والرحمة والجود والسخاء، والكرم والعطاء، من أهم صفاته وأكرم أخلاقه، ويفرح بالإعطاء فرحاً لا يفرحه أحد بالأخذ والقبول، ثم من تأكد أن العبد احتياج في احتياج، وسؤال في سؤال، وفقر في فقر، وأن المعبود أقرب إلى العبد بأكثر مما يتصور من كل شيء في الكون، حتى من نفسه، بل إنه أقرب إليه من حبل الوريد، يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، ويقبل على نصره إذا ما استنصره، ويؤتي سؤله، ويقضي حاجته، و يفرج كربته.
    نفي الصفات وأثرها في النفوس البشرية:

    إن نظرة عابرة على التاريخ الجاهلي كفيلة بالدلالة على ما لقيه كل يقن هناك من تزعزع واضمحلال وكم ثارت حول الحقائق من الشكوك والشبهات، وكم خيمت عليها من الأوهام والمغالطات، أما الفلسفة اليونانية فلفضل إبائها الشديد لصفات واجب الوجود: أو المبدأ الأول، وتأكيدها على تجريده من كل وصف، وإصرارها الأكيد على إثبات الذات المجردة من كل وصف وإيمانها بذلك إيماناً لا تشوبه شائبة من الشك قد سدت باب الدعاء والالتجاء، وقطعت كل خيط من الأول والرجاء، فما معنى السؤال والاستغاثة ـ يا ترى ـ بمن تجرد من كل صفة، وتخلى من كل قوة، وفرغ من كل كمال؟ والذي لا دخل له في أي شأن من شؤون الكون وفي أي أمر من أموره، وقد تعطل بعد ما خلق: (العقل الأول) و (الواحد) الذي لا يمكن أن يصدر عنه إلا (واحد) وقد انتهى هذا الصدور ـ فيما تعتقده الفلسفة اليونانية القديمة ـ فكيف يصح الأول في صدور الأعمال عنه متتابعة في كل حين وآن؟
    عقيدة الشرك والوثنية تمنعان عن الدعاء:

    وبالعكس من ذلك كانت الوثنية والعقيدة الجاهلية قد خلعا كل صفة من صفات الإله على أشخاص ممن خلق، فهذا يحمل القدرة على الإحياء، وذلك يقدر على الرزق وهذا عمله محيط، فأصبح له كل غيب كالشهود، وذاك يستطيع أن يصل متى شاء إلى من يشاء وهكذا، فهل كان هناك رجاء في السؤال ـ والحال على هذا المنوال ـ من (الإله الواحد) والالتجاء إليه، والرجوع إليه؟ ولاسيما إذا كان هذا الإله ما وراء الرؤية وما فوق الإدراك، على حين كانت الآلهة (المحلية) مشهودة محسوسة، وفي متناول اليد، ولا يغيب عن البال أن الصفات الإلهية والأعمال الإلهية قد أصبحت هناك في طي النسيان، وضمير الغيب، لا تكاد تذكر، على حين كانت النوادي والمجالس عامرة بذكر مآثر الآلهة الكثيرة، وأعمالها الجليلة، وكانت القلوب والأذهان مأخوذة بمكارمها النبيلة، وصنائعها المجيدة، (فالوضع الذهني والفكري ) الذي صوره القرآن الكريم كانت نتيجة حتمية منطقية لهذه البيئة:.[وَإِذَا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآَخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ] {الزُّمر:45}
    الفلسفة اليونانية والعقيدة الجاهلية وأثرهما:

    وعلى كل فالفلسفة اليونانية بفضل موقفها الذي وقفته من الصفات ـ قد أقفلت كل باب من أبواب الدعاء والالتجاء، كما أن عقيدة الشرك ـ تحكم إسباغها للأوصاف والكمالات الإلهية على الخالق ـ قد اتجهت بكل ما تنوطي عليه كلمات الدعاء والتضرع والسؤال من الخالق إلى المخلوق، وغيرت اتجاهها من العابد إلى المعبود، فكلتاهما ـ الفلسفة اليونانية وعقيدة الشرك ـ أدتا إلى نتيجة واحدة موضوعية، وهي أن أصبح السؤال من الله ـ الخالق ـ مباشرة والالتجاء إليه، والإطراح على عتبته دون وساطة، من المعاني التي لا تدرك، والغايات التي لا تقصد، ولذلك فلا تجد في هذه الفترة حتى أشخاصاً معدودين، متعودين على الدعاء، عارفين الطريق إلى الالتجاء، مرتاحين إليه بألسنتهم وضمائرهم وقلوبهم.
    فضل الرسول صلى الله عليه وسلم على الإنسانية:

    ومن فضل محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ فدته أنفسنا وأرواحنا ـ إنه أعاد إلى الإنسانية المحرومة، ثروتها المفقودة ـ الدعاء ـ وجعل العبد يتشرف بالمناجاة مع ربه، والتكلم معه، فكان أن أعاد إليه لذة العبادة، بل ولذة الحياة وشرفها، وكرامتها، وأتاح للإنسانية المطرودة أن تتشرف باللقاء وتتمتع بالحضور والاجتماع، وعاد ابن آدم الآبق من ربه إلى عتبة ربه معتذراً، يقول بلسان حاله:
    الهي عبدك العاصي أتاك=مقراً بالذنوب وقد دعاك
    عامل من عوامل الحرمان من الدعاء:

    كان من عوامل الحرمان الكبرى من الدعاء فكرة الجاهلية الخاطئة: أن الله تعالى بعيد عنا، فكيف يصل إليه صوتنا؟ فأعلن النبي صلى الله عليه وسلم من قبل الله، وبشر العبد:[وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُ وا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ] {البقرة:186}.
    النافع والضار الحقيقي:

    وكانت العقيدة الثانية الفاسدة: أن هناك من غير الله من يملك النفع والضر ويقدر على الإعانة والإغاثة، ومن جناية هذه العقيدة أنها حولت اتجاه الدعاء والاستغاثة والاستنجاد بالنافع والضار الحقيقي إلى الآلهة (المساعدين) فأعلن النبي صلى الله عليه وسلم بكل قوة وصراحة هذا الإعلان الذي وجه إليه مباشرة.
    [قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ المُشْرِكِينَ وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ] {يونس}.
    للدعاء شأن أي شأن:

    ولم يصرح النبي صلى الله عليه وسلم، بأن العبد يستطيع أن يدعو معبوده والمعبود يجيب دعوته، فينصره، لم يصرح بذلك فحسب، بل وأثبت كذلك أن الدعاء مطالب به من الله، ويسبب رضاه، ويجلب سروره، كما أن الاضطراب عنه يسبب سخطه وغضبه، والدعاء أبرز مظاهر العبودية، وأوضح عناوينها، وأعمقها أثراً، والإعراض عن الدعاء دلالة على الاستكبار والعصيان والطغيان، وقد أدى إعلان النبي صلى الله عليه وسلم بالدعاء إلى ما أدعى، فانتهى به من أعمال العبادة الإجبارية إلى مكانة العبادة العظمى ووسائل التقريب الكبرى: [وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ] {غافر:60}.
    وتدل أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم صريح الدلالة على أن عدم الدعاء والالتجاء إلى الله ليس من عوامل الشقاء والحرمان فحسب، بل يجلب سخط الله وغضبه فيقول الحديث: (من لم يسأل الله يغضب عليه) رواه ابن ماجه (3827). ولم يكتف بذلك، فجعل الدعاء مخ العبادة وقال: (الدعاء مخ العبادة)، رواه الترمذي 3371 ، وجعله مفتاح الرحمة والبركة، فقال: (من فتح له منكم أبوب الدعاء فتحت له أبواب الرحمة) رواه الترمذي في جامعه (3500).
    الأدعية المأثورة دلائل مستقلة على النبوة:

    ولم تكتف النبوة المحمدية ـ على صاحبها أفضل الصلاة والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ـ بهذا التجديد في الدعاء، ولم تقتصر على هذا القدر من التكميل في بابه، بل تخطته، فبينما علمنا النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء، إذا هو جعل مكتبات العالم الأدبية تزخر وتموج، فعادت تفيض بالجواهر واليواقيت التي عييت آداب العالم ـ على غناها ـ عن أن تقدم نظيرها، في لمعانها، وصفائها وبهائها، اللهم إلا بعض الصحف السماوية والكتب المنزلة، فقد دعا ربه بكلمات وألفاظ لم يستطع أحد ـ ولن يستطيع ـ أن يأتي بأكثر منها تأثيراً وبلاغة، وأحسن منها اعتدلاً واتزاناً، ومن ثم فهذه الأدعية دليل مستقل من دلائل النبوة صلى الله عليه وسلم ومعجزة ذاتية كمعجزاته الأخرى الكثيرة، وإنها ـ في نفس الوقت ـ تدل دلالة واضحة على أنها إنما جرت على لسان رسول من رسل الله، فيشع منها نور النبوة، ويتجلى فيها يقين الأنبياء، وتمتزجها عبودية (العبد الكامل)وتواضعه ويختلطها اعتماد حبيب رب العالمين وثقته ودلاله، وتسري فيها طبيعة النبوة مع بساطتها وعفتها، وتجتمع بين بساطة القلب المتألم وانكساره والحاح ذي الحاجة وقلقه واضطراره، وحزم من يقف على آداب العتبة الإلهية، و البلاط القدسي وأدبه والاعتماد على مواساة المواسي وإغاثته، وبين إظهار الألم وإعلان الواقع الصادق، كما قال الشاعر الفارسي: (رب قد أصبتني بالألم، فواسيتني أنت، واحتضنتني أنت بالعطف والحنان، وعالجتني أنت بنفسك).
    قيمة الدعاء الأدبية:

    إن هذه الأدعية المأثورة تحتل ـ بالإضافة إلى قيمتها الروحية وحقيقتها المعنوية ـ أعلى مكانة أدبية وأرفعها، وأنها درر الأدب اليتيمة، وآثاره النادرة الخالدة التي ينقطع نظيرها في المكتبات الأدبية البشرية بأسرها.
    هناك رسائل شخصية قد نالت من نقاد الأدب مكانة كبيرة، لأنها تحمل سذاجة وتنزها عن التصنع، وتعبر عن عواطف القلب تعبيراً صادقاً بيد أنه قد فاتهم أن يدركوا أن هناك نوعاً من الأدب يحمل من السذاجة والحقيقة مالا تحمله الرسائل والكتابات وتصبح هناك المصطلحات اللغوية بأنواعها هباء منثوراً، حينما تصب فيها المتكلم عصارة قلبه ويعبر لسانه عن القلب بأصح ما يكون وأصدق ما يتصور، ويستغني المتكلم عن الترحيب والتمجيد والإشارة والتقدير، ولا تحاسب حساباً للسامع، بل يخاطب قلبه، ويتناجى مع مشاعره ويتحدث مع عواطفه، وهذا النوع من الأدب الرفيع هو (الدعاء) و(المناجاة).
    الإخلاص والصدق والواقعية من أهم عناصر الأدب:

    إن من أهم عناصر الأدب: الإخلاص والصدق ـ الذين ظل يتغافل عنهما معظم نقاد الأدب ـ وهما يهبان الأدب روحاً وقوة وحيوية، ويجعلانه حقيقة أبدية خالدة ـ وقد اتسم (الدعاء) و(المناجاة) بهذين العنصرين بما لم يتسم ـ ولا يمكن أن يتسم ـ به أي نوع من أنواع الأدب، فكيف إذا كان الداعي والمناجي رقيق القلب، وجريح الكبد؟ وله كل نصيبه من القدرة على التعبير عن ألمه بأنواع الأساليب ؟ فتكون الكلمات الصادرة عن لسانه معجزة من الأدب، فإنها أفلاذ كبده وقطع قلبه، ودموع عينيه، فتملك القلوب وتُبكي آلاف البشر قروناً طوالاً.

    أما إذا كانت هذه الكلمات قد جرت على لسان تكرر عليه الوحي الإلهي، وامتلك ناصية البلاغة وعنان الفصاحة، فلا تسأل عن تأثيرها و إعجازها.
    الحديث موصول.
    وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
    المصدر: مجلة الأزهر السنة 48 رمضان 1396 الجزء السابع.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Jan 2018
    المشاركات
    41,993

    افتراضي رد: دعاء النبي صلى الله عليه وسلم

    دعاء النبي صلى الله عليه وسلم 1-2


    للأستاذ السيد أبي الحسن الندوي





    الفضائل النبوية لها قسمان:

    يمكن أن تقسم الفضائل النبوية التي توفرت في شخصية النبي صلى الله عليه وسلم إلى قسمين: العبودية الكاملة، والنبوة الجامعة.
    الدعاء والدعوة:

    الدعاء هو مظهر العبودية كما أن مظهر النبوة هو الدعوة، وكلاهما من أهم وأبرز عناوين السيرة المحمدية، وناحيتان منفردتان، وفصلان مستقلان لهذه الحصيفة المعجزة، أما الدعوة فقد وقع عليها نظر كل دارس، ولفتت عناية كل باحث، و زخرت الكتب والمؤلفات بتفاصيلها، وتنور العالم كله بأنوارها، ولا يزال يتمتع بآثارها وثمارها وذلك، لأن الدعوة تتعلق بالمشاهد والمجالس، فشهدها كل إنسان جلية واضحة، أما الدعاء فقد قلَّ عدد من تأمل فيما يحمله من الأهمية من بين جوانب السيرة، وما كان نصيبه من التأثير في الدعوة النبوية نفسها، وإلى أي حد من الأوج والكمال انتهى النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الناحية للعبودية، والخضوع التام أمام الرب سبحانه، وكيف قام بإحياء هذه الناحية الهامة وإنمائها وريها وسقيها ـ وقد كانت ضائعة مهملة كجميع نواحي العبادة والعبودية ـ ولم يلحق برفيقه الأعلى إلا بعد ما قام بتكميلها وتعميمها.
    ضعف الصلة بين العبد والمعبود في الجاهلية:

    كل من درس تاريخ العقائد والديانات دراسة عميقة شاملة، وأحاط به في معنى الكلمة عرف جيداً: أن الصلة بين العبد والمعبود في هذا العهد ـ الذي تسمى بالجاهلية ـ قد ضعفت واضحملت، حتى نضب معين الدعاء ـ الذي ينبع من اليقين والحب والخشوع والخشية ـ في داخل النفوس البشرية، وقد تعلق العبد ـ فيما يتعلق بنفسه وبالمعبود معاً ـ بأوهام وأخيلة كان معها من المستحيل أن تتحرك في النفوس عاطفة الدعاء، وتشعر بالحاجة إليها،فإن الدعاء لا يكاد يصدر حتى يتمكن العبد من الإيمان بالذي يحقق جميع متطلباته وحاجاته، ثم من اليقين بأنه مليك مقتدر على كل شيء، ثم من الثقة بأنه لا ملجأ إلا إليه، ولا معطي إلا هو، وبالتالي من الإيمان بأنه يحب الإعطاء، وأن المحبة والرحمة والجود والسخاء، والكرم والعطاء، من أهم صفاته وأكرم أخلاقه، ويفرح بالإعطاء فرحاً لا يفرحه أحد بالأخذ والقبول، ثم من تأكد أن العبد احتياج في احتياج، وسؤال في سؤال، وفقر في فقر، وأن المعبود أقرب إلى العبد بأكثر مما يتصور من كل شيء في الكون، حتى من نفسه، بل إنه أقرب إليه من حبل الوريد، يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، ويقبل على نصره إذا ما استنصره، ويؤتي سؤله، ويقضي حاجته، و يفرج كربته.
    نفي الصفات وأثرها في النفوس البشرية:

    إن نظرة عابرة على التاريخ الجاهلي كفيلة بالدلالة على ما لقيه كل يقن هناك من تزعزع واضمحلال وكم ثارت حول الحقائق من الشكوك والشبهات، وكم خيمت عليها من الأوهام والمغالطات، أما الفلسفة اليونانية فلفضل إبائها الشديد لصفات واجب الوجود: أو المبدأ الأول، وتأكيدها على تجريده من كل وصف، وإصرارها الأكيد على إثبات الذات المجردة من كل وصف وإيمانها بذلك إيماناً لا تشوبه شائبة من الشك قد سدت باب الدعاء والالتجاء، وقطعت كل خيط من الأول والرجاء، فما معنى السؤال والاستغاثة ـ يا ترى ـ بمن تجرد من كل صفة، وتخلى من كل قوة، وفرغ من كل كمال؟ والذي لا دخل له في أي شأن من شؤون الكون وفي أي أمر من أموره، وقد تعطل بعد ما خلق: (العقل الأول) و (الواحد) الذي لا يمكن أن يصدر عنه إلا (واحد) وقد انتهى هذا الصدور ـ فيما تعتقده الفلسفة اليونانية القديمة ـ فكيف يصح الأول في صدور الأعمال عنه متتابعة في كل حين وآن؟
    عقيدة الشرك والوثنية تمنعان عن الدعاء:

    وبالعكس من ذلك كانت الوثنية والعقيدة الجاهلية قد خلعا كل صفة من صفات الإله على أشخاص ممن خلق، فهذا يحمل القدرة على الإحياء، وذلك يقدر على الرزق وهذا عمله محيط، فأصبح له كل غيب كالشهود، وذاك يستطيع أن يصل متى شاء إلى من يشاء وهكذا، فهل كان هناك رجاء في السؤال ـ والحال على هذا المنوال ـ من (الإله الواحد) والالتجاء إليه، والرجوع إليه؟ ولاسيما إذا كان هذا الإله ما وراء الرؤية وما فوق الإدراك، على حين كانت الآلهة (المحلية) مشهودة محسوسة، وفي متناول اليد، ولا يغيب عن البال أن الصفات الإلهية والأعمال الإلهية قد أصبحت هناك في طي النسيان، وضمير الغيب، لا تكاد تذكر، على حين كانت النوادي والمجالس عامرة بذكر مآثر الآلهة الكثيرة، وأعمالها الجليلة، وكانت القلوب والأذهان مأخوذة بمكارمها النبيلة، وصنائعها المجيدة، (فالوضع الذهني والفكري ) الذي صوره القرآن الكريم كانت نتيجة حتمية منطقية لهذه البيئة:.[وَإِذَا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآَخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ] {الزُّمر:45}
    الفلسفة اليونانية والعقيدة الجاهلية وأثرهما:

    وعلى كل فالفلسفة اليونانية بفضل موقفها الذي وقفته من الصفات ـ قد أقفلت كل باب من أبواب الدعاء والالتجاء، كما أن عقيدة الشرك ـ تحكم إسباغها للأوصاف والكمالات الإلهية على الخالق ـ قد اتجهت بكل ما تنوطي عليه كلمات الدعاء والتضرع والسؤال من الخالق إلى المخلوق، وغيرت اتجاهها من العابد إلى المعبود، فكلتاهما ـ الفلسفة اليونانية وعقيدة الشرك ـ أدتا إلى نتيجة واحدة موضوعية، وهي أن أصبح السؤال من الله ـ الخالق ـ مباشرة والالتجاء إليه، والإطراح على عتبته دون وساطة، من المعاني التي لا تدرك، والغايات التي لا تقصد، ولذلك فلا تجد في هذه الفترة حتى أشخاصاً معدودين، متعودين على الدعاء، عارفين الطريق إلى الالتجاء، مرتاحين إليه بألسنتهم وضمائرهم وقلوبهم.
    فضل الرسول صلى الله عليه وسلم على الإنسانية:

    ومن فضل محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ فدته أنفسنا وأرواحنا ـ إنه أعاد إلى الإنسانية المحرومة، ثروتها المفقودة ـ الدعاء ـ وجعل العبد يتشرف بالمناجاة مع ربه، والتكلم معه، فكان أن أعاد إليه لذة العبادة، بل ولذة الحياة وشرفها، وكرامتها، وأتاح للإنسانية المطرودة أن تتشرف باللقاء وتتمتع بالحضور والاجتماع، وعاد ابن آدم الآبق من ربه إلى عتبة ربه معتذراً، يقول بلسان حاله:
    الهي عبدك العاصي أتاك=مقراً بالذنوب وقد دعاك
    عامل من عوامل الحرمان من الدعاء:

    كان من عوامل الحرمان الكبرى من الدعاء فكرة الجاهلية الخاطئة: أن الله تعالى بعيد عنا، فكيف يصل إليه صوتنا؟ فأعلن النبي صلى الله عليه وسلم من قبل الله، وبشر العبد:[وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُ وا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ] {البقرة:186}.
    النافع والضار الحقيقي:

    وكانت العقيدة الثانية الفاسدة: أن هناك من غير الله من يملك النفع والضر ويقدر على الإعانة والإغاثة، ومن جناية هذه العقيدة أنها حولت اتجاه الدعاء والاستغاثة والاستنجاد بالنافع والضار الحقيقي إلى الآلهة (المساعدين) فأعلن النبي صلى الله عليه وسلم بكل قوة وصراحة هذا الإعلان الذي وجه إليه مباشرة.
    [قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ المُشْرِكِينَ وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ] {يونس}.
    للدعاء شأن أي شأن:

    ولم يصرح النبي صلى الله عليه وسلم، بأن العبد يستطيع أن يدعو معبوده والمعبود يجيب دعوته، فينصره، لم يصرح بذلك فحسب، بل وأثبت كذلك أن الدعاء مطالب به من الله، ويسبب رضاه، ويجلب سروره، كما أن الاضطراب عنه يسبب سخطه وغضبه، والدعاء أبرز مظاهر العبودية، وأوضح عناوينها، وأعمقها أثراً، والإعراض عن الدعاء دلالة على الاستكبار والعصيان والطغيان، وقد أدى إعلان النبي صلى الله عليه وسلم بالدعاء إلى ما أدعى، فانتهى به من أعمال العبادة الإجبارية إلى مكانة العبادة العظمى ووسائل التقريب الكبرى: [وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ] {غافر:60}.
    وتدل أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم صريح الدلالة على أن عدم الدعاء والالتجاء إلى الله ليس من عوامل الشقاء والحرمان فحسب، بل يجلب سخط الله وغضبه فيقول الحديث: (من لم يسأل الله يغضب عليه) رواه ابن ماجه (3827). ولم يكتف بذلك، فجعل الدعاء مخ العبادة وقال: (الدعاء مخ العبادة)، رواه الترمذي 3371 ، وجعله مفتاح الرحمة والبركة، فقال: (من فتح له منكم أبوب الدعاء فتحت له أبواب الرحمة) رواه الترمذي في جامعه (3500).
    الأدعية المأثورة دلائل مستقلة على النبوة:

    ولم تكتف النبوة المحمدية ـ على صاحبها أفضل الصلاة والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. ـ بهذا التجديد في الدعاء، ولم تقتصر على هذا القدر من التكميل في بابه، بل تخطته، فبينما علمنا النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء، إذا هو جعل مكتبات العالم الأدبية تزخر وتموج، فعادت تفيض بالجواهر واليواقيت التي عييت آداب العالم ـ على غناها ـ عن أن تقدم نظيرها، في لمعانها، وصفائها وبهائها، اللهم إلا بعض الصحف السماوية والكتب المنزلة، فقد دعا ربه بكلمات وألفاظ لم يستطع أحد ـ ولن يستطيع ـ أن يأتي بأكثر منها تأثيراً وبلاغة، وأحسن منها اعتدلاً واتزاناً، ومن ثم فهذه الأدعية دليل مستقل من دلائل النبوة صلى الله عليه وسلم ومعجزة ذاتية كمعجزاته الأخرى الكثيرة، وإنها ـ في نفس الوقت ـ تدل دلالة واضحة على أنها إنما جرت على لسان رسول من رسل الله، فيشع منها نور النبوة، ويتجلى فيها يقين الأنبياء، وتمتزجها عبودية (العبد الكامل)وتواضعه ويختلطها اعتماد حبيب رب العالمين وثقته ودلاله، وتسري فيها طبيعة النبوة مع بساطتها وعفتها، وتجتمع بين بساطة القلب المتألم وانكساره والحاح ذي الحاجة وقلقه واضطراره، وحزم من يقف على آداب العتبة الإلهية، و البلاط القدسي وأدبه والاعتماد على مواساة المواسي وإغاثته، وبين إظهار الألم وإعلان الواقع الصادق، كما قال الشاعر الفارسي: (رب قد أصبتني بالألم، فواسيتني أنت، واحتضنتني أنت بالعطف والحنان، وعالجتني أنت بنفسك).
    قيمة الدعاء الأدبية:

    إن هذه الأدعية المأثورة تحتل ـ بالإضافة إلى قيمتها الروحية وحقيقتها المعنوية ـ أعلى مكانة أدبية وأرفعها، وأنها درر الأدب اليتيمة، وآثاره النادرة الخالدة التي ينقطع نظيرها في المكتبات الأدبية البشرية بأسرها.
    هناك رسائل شخصية قد نالت من نقاد الأدب مكانة كبيرة، لأنها تحمل سذاجة وتنزها عن التصنع، وتعبر عن عواطف القلب تعبيراً صادقاً بيد أنه قد فاتهم أن يدركوا أن هناك نوعاً من الأدب يحمل من السذاجة والحقيقة مالا تحمله الرسائل والكتابات وتصبح هناك المصطلحات اللغوية بأنواعها هباء منثوراً، حينما تصب فيها المتكلم عصارة قلبه ويعبر لسانه عن القلب بأصح ما يكون وأصدق ما يتصور، ويستغني المتكلم عن الترحيب والتمجيد والإشارة والتقدير، ولا تحاسب حساباً للسامع، بل يخاطب قلبه، ويتناجى مع مشاعره ويتحدث مع عواطفه، وهذا النوع من الأدب الرفيع هو (الدعاء) و(المناجاة).
    الإخلاص والصدق والواقعية من أهم عناصر الأدب:

    إن من أهم عناصر الأدب: الإخلاص والصدق ـ الذين ظل يتغافل عنهما معظم نقاد الأدب ـ وهما يهبان الأدب روحاً وقوة وحيوية، ويجعلانه حقيقة أبدية خالدة ـ وقد اتسم (الدعاء) و(المناجاة) بهذين العنصرين بما لم يتسم ـ ولا يمكن أن يتسم ـ به أي نوع من أنواع الأدب، فكيف إذا كان الداعي والمناجي رقيق القلب، وجريح الكبد؟ وله كل نصيبه من القدرة على التعبير عن ألمه بأنواع الأساليب ؟ فتكون الكلمات الصادرة عن لسانه معجزة من الأدب، فإنها أفلاذ كبده وقطع قلبه، ودموع عينيه، فتملك القلوب وتُبكي آلاف البشر قروناً طوالاً.

    أما إذا كانت هذه الكلمات قد جرت على لسان تكرر عليه الوحي الإلهي، وامتلك ناصية البلاغة وعنان الفصاحة، فلا تسأل عن تأثيرها و إعجازها.
    الحديث موصول.
    وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
    المصدر: مجلة الأزهر السنة 48 رمضان 1396 الجزء السابع.




    اذا الايمان ضاع فلا أمان
    ولا دنيا لمن لم يحى دينا
    ومن رضى الحياة بغير دين
    فقد جعل الفنـاء له قرينا

الكلمات الدلالية لهذا الموضوع

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •