الإحسان إلى النفس باللباس




إن مما يحسن بالمحسن العناية بلباسه وهندامه، فلا يرى إلا في هيئة حسنة، أنيق المظهر متناسق اللباس والزينة، تلذ لمرآته الأعين، وتأنس به النفس كأنه الشامة، فلا يقابل ربه ولا يخرج على الناس في هيئة رثة بدعوى التقشف والزهد، بل يتفقد نفسه قبل خروجه، فيتجمل بلبس أحسن ما يقدر عليه، قال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ ۖ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (آل عمران: 26)، وقال تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ ۚ كَذَٰلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ} (النحل: 81)، وقال تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ۚ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (الأعراف: 32).

وعن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثال ذرة من كبر»، قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسنه، قال: «إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط الناس»، وليس المراد من الحديث الاقتصار على الثوب والنعل فقط، وإنما كل ما يلبس ويتزين به، وعن عبدالله بن سرجس المزني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «السمت الحسن والتؤدة والاقتصاد جزء من أربعة وعشرين جزءاً من النبوة»، والسمت: هو الهيئة الحسنة في المظهر الخارجي من طريقة الحدث والصمت، والحركة والسكون، والدخول والخروج، واللباس والسيرة العملية في الناس؛ بحيث ينسبه الناس للخير والصلاح، ومع ما في الهيئة الحسنة من ارتياح نفسي للإنسان ذاته ولمن يعاشره، فإن ذلك إظهار لنعمة الله عليه، كما جاء عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده»، وقد لبس النبي صلى الله عليه وسلم الحلل، فعن البراء - رضي الله عنه - يقول: «كان النبي صلى الله عليه وسلم مربوعاً، وقد رأيته في حلة حمراء ما رأيت شيئاً أحسن منه».

والحلة: إزار ورداء وهما بردان يمنيان منسوجاً بخطوط حمراء مع الأسود، وليست حمراء بحتة، فإن ذلك منهي عنه.

وكان من هديه صلى الله عليه وسلم الإنكار على سيء الهيئة حتى يصلحها، فعن أبي الأحوص عن أبيه - رضي الله عنه - قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآني سيء الهيئة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «هل لك من شيء؟ قال: نعم، من كل المال قد آتاني الله، فقال: إذا كان لك مال فلير عليك»، ومن البداهة بمكان أن المحسنين ينبغي أن يكونوا أحسن الناس هيئة، وأجملهم مظهراً وأتمهم أناقة، وأكثرهم جاذبية؛ ليظهروا نعمة الله عليهم، وليكونوا على مستوى جمال بواطنهم، وأقدر على رسم القدوة الصالحة لغيرهم، وذلك يوصلهم إلى قلوب ذوي الطبع الرائق، والذوق السليم.

وقد كان عبدالرحمن بن عوف - رضي الله عنه - يلبس البرد أو الحلة تساوي خمسمائة أو أربعمائة، واشترى بن عباس - وضي الله عنهما - ثوبا بألف فلبسه، وكل دليل إباحة الطيب من اللباس والزينة لمن يقدر عليه مادام لم يخرجه إلى الإسراف والخيلاء فتصبح شغله الشاغل وهمه الدائم، أما إذا قصد بها الشهرة والاختيال والفخر، فلا غرو أنه بذلك جانب التوسط والاعتدال وأصبح عبداً للباسه وزينته.

فقد قال ابن عباس - رضي الله عنهما-: «كل ما شئت واشرب ما شئت ما أخطأتك اثنتان: سرف أو مخيلة»، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تعس عبدالدينار والدرهم، والقطيفة والخميصة، إن أعطي رضي وإن لم يعط لم يرض».

وقال ابن القيم - رحمه الله - فالذين يتمنعون عما أباح الله من الملابس والمطاعم والمناكح تزهداً وتعبداً بأزيائهم، وطائفة أخرى لا يلبسون إلا أشرف الثياب، ولا يأكلون إلا ألين الطعام، فلا يرون لبس الخشن ولا أكله تكبراً وتجبراً، وكلا الطائفتين هديه مخالف لهدي النبي صلى الله عليه وسلم ، ولهذا قال بعض السلف: كانوا يكرهون الشهرة في الثوب العالي والمنخفض، والمقصود أن من لبس الحسن من الثياب للشهرة والخيلاء والفخر فإنه مذموم، ومن لبسه تجملاً وإظهاراً لنعمة الله فإنه حسن وقربة إلى الله تعالى، وإذا خشي المحسن على نفسه من الوقوع في الخيلاء والفخر استحب له لبس ما دونه، وإذا لم يتحقق له ذلك وجب له لبس الدنيء مع مجاهدة نفسه، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم : «بينما رجل يمشي في حلة تعجبه نفسه مرجل جمته إذ خسف الله به، فهو يتجلجل إلى يوم القيامة» ويشترط منها ما هو خاص باللباس، ومنها خاص باللابس وهي الآتي:

1 - أن يكون الملبس حلال فلا يكون من حرير، فإنه محرم على الرجال حلال على النساء.

2 - أن يدخل عليه من وجه حلال إما بتلك أو نحوه، فلا يحل لبس المغصوب أو المسروق ونحوه.

3 - ألا يكون أحمر صرفاً فإنه منهي لبسه على الرجال.

4 - ألا يكون ثوب شهرة، والمراد به ما يلفت أنظار الناس إليه مصحوباً بالخيلاء والفخر.

5 - ألا يكون فيه مشابهة للبس النساء إذا كان اللابس رجلاً، ولا يكون فيه مشابهة للبس الرجل إذا كانت اللابسة امرأة، وألا يكون مشابهاً لألبسة الكفار التي لا يعرفون إلا بها.

6 - وأن يكون ساتراً للمفروض سواء للرجل أم المرأة، والمفروض ستره للرجل من السرة إلى الركبة، والمرأة كلها إلا موضع الحلي إذا كانت بين النساء أو المحارم من الرجال، وأما إذا خرجت إلى مكان فيه رجال أجانب، فالواجب عليها ستر جميع بدنها بما فيه الوجه والكفان.

7 - ألا يكون ضيقاً بحيث يحجم العورة أمام من لا يباح له النظر إليها.

8 - ألا يكون شفافاً تظهر منه العورة أو شيء منها لمن لا يحل له النظر إليها، وهذان الشرطان للرجال والنساء.

9 - ألا يكون ثوب زينة للمرأة إذا أرادت الخروج من بيتها.

10 - ألا يكون ثوب الرجل مضمخاً بالزعفران أو الورس.

11 - وأن يكون خالياً من التصاوير لذات الأرواح.

12 - وأن يكون اللباس سالماً من الإسبال، هو للرجل ما زاد عن الكعبين، والمرأة ما زاد عن ذراع.

هدي النبي صلى الله عليه وسلم في اللباس

قد كانت طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي سنها وأمر بها ورغب فيها وداوم عليها في اللباس أن يلبس ما تيسر من اللباس، من الصوف تارة، والقطن تارة، والكتان تارة، ولبس اليمانية، والبرد الأخضر ولبس الجبة والكساء والقباء، والقميص والسراويل والإزرار، والرداء والخف والنعل، وأرخى الذؤابة من خلفه تارة، وتركها تارة، ولبس البيضة التي تسمى الخوذة، ولبس الدرع والخاتم، يلبس في كل موطن ما يناسبه، وكان أحب الثياب إليه القميص والحبرة: وهي ضرب من البرود فيه حمرة وأحب الألون إليه البياض، ولبس الأحمر والأخضر المشوب بلون آخر، وكان كمه إلى الرسخ، ونهى عن ما تحت الكعبين للرجال وما زاد عن الذراع للنساء.

آداب اللباس وهي:

1 - الدعاء عند لبسه إن كان جديداً، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا استجد ثوباً سماه وقال كما في حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استجد له ثوباً سماه باسمه، عمامة أو قميصاً أو رداء، ثم يقول: «اللهم لك الحمد أنت كسوتنيه أسألك خيره وخير ما صنع له، وأعوذ بك من شره وشر ما صنع له».

2 - يبدأ بيمينه عند اللباس وبيساره عند الخلع.






اعداد: د. أحمد بن سعد بن أحمد آل غرم الغامدي