قال ابن القيم في ((طريق الهجرتين)) كلام يتعلق بالغني وفقر الخلق إليه وهو في أوائل الكتاب ذكر فصلاً جميلاً وهو طويل أخذنا منه شيئًا نحتاجه،
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
فصل: في أن الله هو الغني المطلق والخلق فقراء محتاجون إليه
.ثَمَّ شيئان متقابلان: غنى، وضده الفقر، والفقر وضده ونقيضه الغنى،
فالله تعالى غني بذاته، والخلق فقراء بذواتهم،
فالفقر وصف ذاتي لكل مخلوق جمادات وغيرهم ليس خاصًا بالإنسان،
وكما أن الغنى وصف ذاتي للبارئ جل وعلا.
قال ابن القيم: فصل:
في أن الله هو الغني المطلق، والخلق فقراء محتاجون إليه،
قال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15].
بين سبحانه في هذه الآية أن فقر العباد إليه أمر ذاتي لهم لا ينفك عنهم كما أن كونه غنيًّا حميدًا أمر ذاتي له،
فغناه وحمده ثابت له لذاته لا لأمر أوجبه.
يعني: لا لأمر خارج عنه، لا لكون الخلق محتاجين إليه فصار غنيًا، لا، إنما لذاته،
ولذلك لو لم يكن أحد من الخلق موجودًا فالله غني، أليس كذلك؟
فهو مستغنٍ جل وعلا عن الخلق ولو لم يخلقهم حتى قبل أن يخلق الخلق فهو مستغنٍ عن الخلق.
قال هنا: فغناه وحمده ثابت لذاته، لا لأمر أوجبه، وفقر من سواه إليه ثابت لذاته، لا لأمر أوجبه.
فهما صفتان متقابلتان، فلا يُعَلَّلُ هذا الفقر بحدوث ولا إمكان،
يعني: لكون المخلوق حادثًا أو مفتقرًا، لا، لا يُعَلَّلُ، لماذا؟ لأنه ذاتي،
ولذلك عند المناطقة الفرق بين الذاتيّ والعرضيّ: أن الذاتيّ لا يُعلَّل، يعني لا تُذكر له علة، والعرضيّ يُعَلَّل، مريض لأنه، يمشي لأنه، يضحك لأنه ... إلى آخره،
فحينئذٍ تأتي بعلة، وأما كونه إنسانًا كونه ناطقًا كونه يفكر هذا لا يُعلّل هذا الأصل فيه، حينئذٍ ما كان ذاتيًّا لا تُذكر له علة لا يُعلَّل، هذا من الفوارق بين الذاتيّ والعرضيّ،
التقسيم عندهم للكليّ: ذاتيّ وعرضيّ.
ولذلك قال:
فلا يُعلَّل هذا الفقر بحدوث ولا إمكان، بل هو ذاتي للفقير،
فحاجة العبد إلى ربه لذاته لا لعلة أوجبت تلك الحاجة كما أن غنى الرب سبحانه لذاته لا لأمر أوجب غناه، ك
ما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - والكلام لابن القيم -:
والفقر لي وصف ذات لازم أبدًا ... كما الغنى أبدًا وصف له ذاتي
فهما متقابلان، هذه صفة للخالق جل وعلا،
وهو أنه غني ليس بمحتاج إلى أحد، وأنه مستغنٍ عن الخلق وهذا وصف ذاتي لا ينفك عنه بحال من الأحوال،
ولا نقول: لأنه مستغنٍ عن الخلق لأن الخلق إلى آخرهم محتاجون إليه، لا نعلِّله وإنما لذاته دون نظر إلى ماذا؟ إلى الخلق،
والفقر لي - وهذا كلام ابن تيمية - وصف ذات لازم أبدًا، لا ينفك عن الإنسان،
كما الغنى أبدًا وصف له ذاتي، ولذلك الإنسان لو استغنى بماله وملكه .. إلى آخره
فهو فقير، أليس كذلك؟ تصفه بأنه فقير، يعني هذا المال كيف يحفظه؟ قد يزول في لحظة واحدة، ما الذي يحفظه؟ الله عز وجل. قال: فالخلق فقير محتاج إلى ربه بالذات لا بعلة، وكل ما يذكر ويقرر من أسباب الفقر والحاجة فهي أدلة على الفقر والحاجة لا علل لذلك، إذ ما بالذات لا يعلل. هكذا يقول ابن القيم رحمه الله تعالى.
هذا مصطلح المناطقة: ما بالذات لا يعلل. فالفقير بذاته محتاج إلى الغني بذاته، فما يذكر من إمثال وحدوث واحتيال فهي أدلة على الفقر لا أسباب له.والمقصود أنه سبحانه أخبر عن حقيقة العباد وذواتهم بأنها فقيرة إليه عز وجل، كما أخبر عن ذاته المقدسة وحقيقته أنه غني حميد،
فالفقر المطلق من كل وجه ثابت لذواتهم وحقائقهم من حيث هي، والغنى المطلق من كل وجه ثابت لذاته تعالى وحقيقته من حيث هي، فيستحيل أن يكون العبد إلا فقيرًا، لا يمكن أن ينفك عنه البتة، ولو كان من أغنى الناس، ولو ادَّعَى ما ادَّعَى من كونه لا يحتاج إلى غيره البتة، ويستحيل أن يكون الرب سبحانه إلا غنيًّا كما أنه يستحيل أن يكون العبد إلا عبدًا والرب إلا ربًّا، لأن هذا وصف للبارئ جل وعلا وهذا وصف للمخلوق،
إذا عُرِفَ هذا يقول ابن القيم رحمه الله تعالى:
فالفقر فقران:
فقر اضطراري وهو:
فقر عام لا خروج لبَرٍّ ولا فاجر عنه، وهذا الفقر لا يقتضي مدحًا ولا ذمًا ولا ثوابًا ولا عقابًا، بل هو بمنزلة كون المخلوق مخلوقًا ومصنوعًا.كونه مخلوقًا هذا يدل على فقره كل مخلوق هذا فقر عام.
والفقر الثاني فقر اختياري وهو: نتيجة علمين شريفين، هذا الفقر الذي يمتاز به المؤمن عن غيره،
فقر إلى معرفة ربه جل وعلا هو نتيجة علمين شريفين:
أحدهما: معرفة العبد بربه.
والثاني: معرفته بنفسه.لأن الغنى وصف للباري جل وعلا، فلا بد أن يعرف ربه، والفقر وصف له هو فلا بد أن يعرف نفسه، حينئذٍ لا بد من العلمين،
ولا بد من المعرفتين:-
معرفة العبد بربه كمال صفاته وجميل إحسانه.- ومعرفة العبد بنفسه بظلمه ونحو ذلك فمتى حصلت له هاتان المعرفتان
أنتج له فقرًا هو عين غناه، يعني يستغني بخالقه جل وعلا هو عين غناه وعنوان فلاحه وسعادته
وتفاوت الناس في هذا الفقر بحسب تفاوتهم في هاتين المعرفتين،
فمن عرف ربه بالغنى المطلق عرف نفسه بالفقر المطلق، ومن عرف ربه بالقدرة التامة عرف نفسه بالعجز التام، ومن عرف ربه بالعز التام عرف نفسه بالمسكنة التامة، ومن عرف ربه بالعلم التام والحكمة عرف نفسه بالجهل، والله سبحانه أخرج العبد من بطن أمه لا يعلم شيئًا ولا يقدر على شيء،
انظر المقابلة هنا بين ماذا وماذا؟
بين صفات الباري جل وعلا وبين صفات المخلوق، ولذلك علم الأسماء والصفات
هذا علم جليل يُورث في القلب ما قد لا يورثه غيره،
فعلمك بكمال الله جل وعلا وعلمك بنقصك أنت يورث عندك هذا الغنى الذي أراد ابن القيم أن يصل إليه هنا،
فالله سبحانه أخرج العبد من بطن أمه لا يعلم شيئًا ولا يقدر على شيء،
ولا يملك شيئًا ولا يقدر على عطاء ولا منع ولا ضُرٍّ ولا نفع ولا شيءَ البتة،
فكان فقره في تلك الحال إلى ما به كماله أمرًا مشهودًا محسوسًا لكل أحد، ومعلوم أن هذا له من لوازم ذاته وما بالذات دائم بدوامها.
قال: وهو لم ينتقل من هذه الرتبة إلى رتبة الربوبية والغنى، يعني لا يمكن أن ينفك عن كونه مفتقرًا إلى الباري جل وعلا إلا إذا انفك عن هذه الصفة إلى صفة الربوبية وهذا محال،
لأنهما متقابلان خالق ومخلوق، خالق بصفات الكمال، مخلوق بصفات النقص، لا يمكن أن ينفك المخلوق عن صفات النقص إلا إذا انتقل من رتبة المخلوق إلى رتبة الخالق وهذا محال في شأنه،
ولذلك قال:
وهو لم ينتقل من هذه الرتبة إلى رتبة الربوبية والغنى، بل لم يزل عبدًا فقيرًا بذاته إلى بارئه وفاطره. هذا الأصل فيه أنه خُلِقَ لا يعلم ولا يملك إلى آخر ما ذكره، فلما أسبغ عليه نعمته وأفاض عليه رحمته وساق إليه أسباب كمال وجوده ظاهرًا وباطنًا وخلع عليه ملابس إنعامه وجعل له السمع والبصر والفؤاد، وعلمه وأقدره وصرَّفه وحرَّكه ومكَّنه من استخدام بني جنسٍ وسخر له الخيل والإبل، وسلَّطه على دواب الماء، واستنزال الطير من الهواء وقهر الوحش العادية، وحفر الأنهار، وغرس الأشجار، وسقي الأرض، وجعلية البناء والتحيّل على مصالحه، والتحرز والتحفظ لما يزيل هذا كله من تعليم الباري جل وعلا للإنسان، فهو الذي مكنه، وهو الذي علمه، وهو الذي عرَّفه، وهو الذي أزال ما قد يكون عارضًا بينه وبين هذه المسخرات. لما كان كذلك ظن المسكين أن له نصيبًا من الملك، يعني: لما جاءه المال وعرف وتعلم .. إلى آخره ظن ماذا؟ صار له إعجاب بنفسه، ظن المسكين أن له نصيبًا من الملك وادَّعَى لنفسه مُلْكًا مع الله تعالى ورأى نفسه بغير تلك العين الأولى، ونسي ما كان فيه من حالة الإعدام والفقر والحاجة حتى كأنه لم يكن هو ذلك الفقير المحتاج، بل كأن ذلك شخصًا آخر غيره ..
إلى أن قال:
ومنها هنا خُذِلَ من خُذِل، ووُفِّقَ من وُفِّقَ فحُجِبَ المخذول عن حقيقته ونسي نفسه فنَسِيَ فقره وحاجته وضرورته إلى ربه، فطغى وطغى وعتا فحقت عليه الشقوة، قال تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 6، 7] استغنى عن باريه، وقال: {فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: 5]
إذًا خُلِقَ فقيرًا معدومًا لا يعلم، ثم مكَّنه الله تعالى بأسباب العلم والقدرة ومكَّنَه وعلمه وأعطاه ما لم يُعْطِ غيره من الموجودات كالجمادات، ثم حصل له غرور بأنه قد حصل على ما قد حصل وكأنه قد صار له نصيب من الملك.
قال ابن القيم: فأكمل الخلق، من هم؟ فأكمل الخلق أكملهم عبودية، وأعظهم شهودًا لفقره وضرورته وحاجته إلى ربه، وعدم استغنائه عنه طرفة عين، وهو النبي - صلى الله عليه وسلم -، أكمل الخلق هو أكملهم في هذه الصفات، وهذا ما يسمى بالشهود والفناء عند بعضهم، بمعنى أنه لا يرى ما عنده إلا أنه من عند الله تعالى، وليس له حظ فيه ونصيبٌ البتة، ولهذا كان من دعائه - صلى الله عليه وسلم - «أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا إلى أحدٍ من خلقك». «ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين». وهذا ما يسمى بالتوفيق، والخذلان أن يخلِّي الله عز وجل بين العبد وبين هواه وهوى نفسه، والتوفيق ألا يخلي بينه وبين النفس.
هكذا حكا الإجماع ابن القيم رحمه الله تعالى في ((مدارج السالكين)) أن التوفيق بإجماع أهل المعرفة
ألا يخلي الله تعالى بينك وبين نفسك. يعني ألا تكون النفس هي قائدة، لأنها إذا كانت قائدة
فالنفس الأصل فيها ماذا؟ أنها أمارة بالسوء فهلك، وأما إذا كان مرده إلى ارتفاع الوحيين فوفقه الله تعالى لذلك، فحينئذٍ حصل له التوفيق، ولذلك من دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين».
الإنسان إذا وكل إلى لنفسه خذل،
و (كان يدعو: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك». هذا النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلم - صلى الله عليه وسلم - أن قلبه بيد الرحمن عز وجل لا يملك منه شيئًا،
وأن الله سبحانه يُصَرِّفه كيف يشاء، وهذا معنى الفقر هنا، النظر في مثل هذه المسائل هو تحقيق لهذا الفقر.
قال هنا: وأنا الله سبحانه يصرفه كيف كما يشاء،
ولذلك قال: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك». فيعلم أن الله تعالى هو الذي بيده القلوب وهو الذي يثبته إن شاء أزاغه وإن شاء ثبته. يقول ابن القيم: كيف وهو يتلو قوله تعالى -
يعني: كيف لا يدعو بهذا الدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يتلو قوله تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء: 74].
يعني: لولا التثبيت من الله تعالى لكان ثَمَّ ما يوافق الفطرة من الميل ونحو ذلك، لذلك الأصل في الأنبياء أنهم بشر وإن كانوا ليس كالبشر كسائر البشر، فتأمل قوله تعالى في الآية -
قول ابن القيم - فتأمل قوله تعالى في الآية: {أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ}.يعني لا إلى غيره، {أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ}، {أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ}
هذا فيه حصر أو لا؟
فيه حصر تعريف الجزئين، {أَنْتُمُ} مبتدأ وهو معرفة،
و {الْفُقَرَاءُ} هذا خبر وهو معرفة وفيه حصر، والمتعلق بالخبر داخل في المحصور،
لأن {إِلَى اللَّهِ} هذا متعلق بالفقراء،
لأن الفقراء جمع فقير، وفقير هذا فَعِيل ويتعلق به الجار والمجرور،
حينئذٍ {أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} لا إلى غيره، كيف أخذنا هذا الوزن؟
نقول: من تعريف الجزأين،
وتعريف الجزأين عند كثير من أهل البيان أنه من صيغ الحصر {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2]،
{أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} تعلق الفقر إليه باسم الله دون اسم الربوبية، يعني ما قال أنتم الفقراء إلى ربي،
وإنما قال: {أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ}. علَّق الفقر هنا بماذا؟ باسم الألوهية وهو الله،
والله كما مر معنا: عَلَمٌ على الباري جل وعلا دال على ذات وصفة على الصحيح.
بخلاف من قال: إنه جامد. يعني: لا يدل إلا على الذات، وإنما يدل على ذات وصفة، ما هي هذه الصفة؟ الألوهية كونه مألوهًا معبودًا كونه مستحقًا للعبادة،
حينئذٍ ذاتٍ وصفةٍ وهذه الصفة صفة ذاتية، ذات وصفة، كما أن الرحمن دال على ذات وصفة، ذات وصفة هي الرحمة،
هنا قال: {أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ}.
علَّقه باسم الإلوهية ولم يعلقه باسم الربوبية ليُؤذن بنوعي الفقر،
يعني مر معنا أن الفقر نوعان: عام، وخاص.ا
لعام هذا يشترك فيه الكافر والمؤمن، الأول من الجمادات.والخاص هذا خاص بالمؤمنين.
فلو قال: أنتم الفقراء إلى ربكم. اختص بالنوع الأول وهو العام،
لأن الربوبية هي التي تجمع، والألوهية هي التي تفرق، صحيح؟
الربوبية تجمع، دخل فيها الكافر والمؤمن، البر والفاجر،
وأما الألوهية فهي التي تُفَرِّق بين المؤمن وغيره،