وقت الإنسان المستثمر هو عمره الحقيقي

الشيخ عبدالرزاق بن عبدالمحسن البدر


إن وقت الإنسان هو عمره في الحقيقة، وهو مادة حياته الأبدية في النعيم المقيم أو العذاب الأليم، وهو يمر مر السّحاب، لم يزل الليل والنهار سريعيْن في نقص الأعمار وتقريب الآجال، صَحِبَا قبلنا نوحاً وعاداً وثمودَ وقروناً بين ذلك كثيرا؛ فَقَدِمَ الجميع على ربهم، ووردوا على أعمالهم، وتصرَّمت أعمارهم وبقي الليل والنهار غضَّيْن جديدَيْن في أُمَمٍ بعدهم {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} (الفرقان:62) .

ينبغي للمسلم أن يتخذ من مرور الليالي والأيام عبرةً وعظة؛ فإن الليل والنهار يُبلِيان كل جديد, ويُقَرِّبان كل بعيد, ويطويان الأعمار, ويُشيِّبان الصغار, ويفنيان الكبار, وهذا كله مشعِرٌ بتولي الدنيا وإقبال الآخرة، قال علي رضي الله عنه : «ارْتَحَلَتْ الدُّنْيَا مُدْبِرَةً وَارْتَحَلَتْ الْآخِرَةُ مُقْبِلَةً وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَنُونَ؛ فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ وَلَا تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ الدُّنْيَا ، فَإِنَّ الْيَوْمَ عَمَلٌ وَلَا حِسَابَ وَغَدًا حِسَابٌ وَلَا عَمَلٌ»، وقال عمر ابن عبد العزيز -رحمه الله-: «إنّ الدنيا ليست بدار قراركم، كتب الله عليها الفناء, وكتب الله على أهلها الظَّعَن - أي الارتحال - فكم من عامرٍ موثَق عن قليلٍ يخرَب, وكم من مقيمٍ مغتبِط عما قليلٍ يظْعن؛ فأحسِنوا منها الرحلة بأحسنِ ما بحضرتكم من النُّقْلة، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى».

إن العبد في هدمٍ لعمره منذ خرج من بطن أمه، بل هو كما قال الحسن البصري -رحمه الله-: أيامٌ مجموعة - أي الإنسان - فكلما ذهب يوم ذهب بعض الإنسان وجزءٌ منه، اليوم منه يهدم الشهر, والشهر يهدم السنة, والسنة تهدم العمر, وكل ساعة تمضي من العبد فهي مُدْنيةٌ له من الأجل.

قال ابن مسعود رضي الله عنه : «ما ندمتُ على شيء ندمي على يومٍ غربت شمسه، نقص فيه أجلي ولم يزدد فيه عملي»، وهذا من شدة حرصه على الوقت، قال الحسن -رحمه الله-: «أدركتُ قوماً كانوا على أوقاتهم أشدُّ منكم حرصاً على دراهمكم ودنانيركم».

ولهذا؛ فإن من أمضى يومه في غير حقٍ قضاه, أو فرض أداه, أو مجد أثَّله, أو حمدٍ حصَّله, أو خيرٍ أسّسه, أو علمٍ اقتبسه , فقد عقَّ يومه , وظلم نفسه وظلم يومه .

رأس مال الإنسان

إن الليالي والأيام هي رأس مال الإنسان في هذه الحياة، ربحها الجنة وخسرانها النار, السَنَةُ شجرة, والشهور فروعها, والأيام أغصانها, والساعات أوراقها, والأنفاس ثمارها؛ فمن كانت أنفاسه في طاعة الله فثمرة شجرته طيبة مباركة، ومن كانت أنفاسه في معصيةٍ فثمرته مُرٌّ وحنظل .

لقد تكاثرت النصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم في بيان أهمية الوقت والحث على اغتنامه والتحذير من إضاعته، وبيان أن العبد مسؤول عنه يوم القيامة؛ فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل وهو يعظه: «اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هِرَمِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاءَكَ قَبْلَ فَقْرِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ»، وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَا تَزُولُ قَدَمُ ابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ، وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ ، وَمَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ، وَفِيمَ أَنْفَقَهُ وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ»، وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم : «نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ»، قال بعض أهل العلم: إنَّ من استعمل فراغه وصحته في طاعة الله فهو المغبوط، ومن استعملهما في معصية الله فهو المغبون؛ لأن الفراغ يعقُبُه الشغل, والصحة يعقبها السَّقَم.

من علامة المقْتِ إضاعة الوقت


ومما يؤثر عن السلف قولهم: «من علامة المقْتِ إضاعة الوقت»، بل قال ابن القيم -رحمه الله-: «إضاعة الوقت أشد من الموت؛ لأن إضاعة الوقت تقطعك عن الله والدار الآخرة، والموت يقطعك عن الدنيا وأهلها». والواجب على المسلم ألا يغتر بالدنيا فإنَّ صحيحها يسقم, وجديدها يبلى, ونعيمها يفنى, وشبابها يهرم، وهو فيها في سيْرٍ إلى الدار الآخرة؛ لأن الآجال منقوصة , والأعمال محفوظة والموت يأتي بغتة؛ فمن زرع خيراً فيوشك أن يحصد ثوابه وأجره, ومن زرع شراً فيوشك أن يحصد ندامةً وحسرة , ولكل زارعٍ ما زرع.