{ بِسْمِ اللهِ الرًّحمَنِ الرَّحِيمِ }
( المَقَامَةُ المَنَامِيَّةُ )
حدَّثَ همَّام بنُ الهمَّامِ قَالَ : ذَاتَ يَوْمٍ مِنَ الأَيَام, حينَ انتشَر جَناحُ الظّلامِ, وحانَ ميقاتُ النِّيامِ, إذْ بِِي قَدْ رأيتُ فِي المَنام, جَمْعاً مِنَ الأَصْحَابِ وَالخلاَّنِ, في مسْجِدِ معَاوِيةَ بن أبِي سفيان, إذْ دخلتُ عليهمُ ومعي (مُعَاويةُ ابْنُ إحْسَانْ) وكلانا توأمانِ شجِيَّانِ, لا نَتفَارَقُ عَلَى مَدَى الأزْمانِ, وإن كُنّا فِي الأَحْلامْ.
فَرأينَا النَّاسَ تفيضُ منهمُ الدُموع, ودمعُهُم يَبْرُقُ في الأَجفَانِ من الخُضُوُع, فَفَزعْنا وجَزِعْنا أنْ نعرفَ السبَبْ ؟ وقد طَالَ بِنَا العَجَبْ ؟
فَرَأينَا في طائفةِ المَسْجِدِ " أبا خَالِد " والدَّمعُ مِنهُ يَسِيلْ : خافضاً رَأسَهُ كَالأَسير, منكِّصاً عقِبَه كالسَّفير.
وَرَأيْنَا " خَالِداً " ونَظَراتُهُ تُوحِي إليْنَا بأمرٍ عَسِيِرْ, وسَكَناتُهُ تُلْهِمَنا المَسِيرْ..فَمَا زلْنَا –وقد مَلِلْنَا النَّظَرْ حَتَّى عَرَفْنا جَمِيعَ من حَضَرْ- .
فقامَ رجُلٌ –وقَدْ أرْهَقتْهُ الدُّمُوعْ- وقال بصوتِ الشجيِّ الحَزينِ, بعدَ أنِ اضْطَرَبَ العَقْلُ الرًّزِينْ: أيها التوأمانِ؟ أما عَلمْتُمَا الخبَر؟
فقُلتُ: وَرَبِّ مَن أنْظَرْ, قد أطَلْنَا النَّظَرْ, حتى جَزِعْنَا المَخْبَرْ, فهَلاَّ عَلَّمْتَنَا (؟)
فرَدَّ –بسُخونةٍ في الجَبِينْ- : أيا توأما أبَيِكُمُا وأمِّكُمُا ؟ أبوكما قد ماتَ , أبوكما قد لاحه الفراق , فموتُهُ عَلَى النَّّاسِ منْ أَعظمِ الخُطوبِ، إِذْ تَركَ أجْراحاً فِي القُلوبْ.
فانفَلَقَتْ عيْنَايْ, وخِرْتُ على قَدماِيْ, (ولمَّا أسْتَطِع الجَوابْ, إذ جَالَ أمْرِي فِي ارْتَيَابْ) .
فقلتُ –وَحَبائِلُ صَوْتِي قَدِ انْقَطَعَتْ-: أحقَّا ما تعُول؟ وصِدقاً مَا تقُولُ ؟
فأجابَنِي -بحزْنٍ ألَّمَّه الغَضَب- أما ترى النَّاسَ يا سَئُولْ !
فما أنِ استَويتُ على الأرْضِ –وقد فاضتْ منّيَ الدموعَ- صرخْتُ بصوتٍ هزَّ أرْكَانَ الحيّْ, وقلتُ بصوتٍ أسمعَ الصُمّْ- يا أبَتَاهْ, أجابَ ربَّاً دَعاه, يا أبَتاهُ, إلى جبْريلَ ننْعاهُ, يا أبتاه إلى جنةِ الفِردَوْسِ مأْواهُ. وقلت –على غراره- أَرْثيهِ:
رحلتَ وزادكَ لَوْعةٌ ومطيَّتي ... جوانحُ من جمرِ الفراق حِرارُ
فهَدَّأنِيَ النَّاسُ بعدَ أن أرهَقَنِيَ الصِّيَاحْ, وقالوا: مَا لَنَا إلاَّ أنْ نقُولْ: هَذَا قضَاءٌ عِنْدَ ربِّكَ مكْتُوبْ .
فَقَامَ أخي " عمرُ " من بُهْرةِ الحِلَقِ.. وقال: أيَا قومْ, أجزلوا وأجملوا..من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت.. ثم نظَرَ إليًّ وقالَ:
" يا هَذا إنّ لبُكائِكَ سِرّاً, ووَراء تحرّقِكَ لأَمراً , فأطْلِعْني على بُرَحائِكَ , واتّخِذْني منْ نُصَحائكَ , فإنّكَ ستجِدُ مني طِباً آسِياً , أو عَوْناً مؤاسياً, فقلتُ: واللهِ ما تَأوُّهي منْ عيشٍ فاتَ. ولا منْ دهْرٍ افْتاتَ, بلْ لانقِراضِ العِلمِ ودُروسهِ, ومَوْتِ أقمارِهِ وشُموسِهِ " .
فقال: صَدَقت العولَ, وأجْمَلتَ القولَ.
فاسْتَيْقَظْتُ من المَنَامْ, وحَمِدتُ اللهَ على ما كانَ, وقُلْتُ: بئِسْتِ أيُّهـا الأحْلاَم, فالموتُ حاصلٌ حاصلْ, ولا ينازعه إلا منَاضِلْ, واستقبلتني أمي, فقلتُ لَهَا: يا أُمَّاه –أطَالَ اللهُ بقائَكِ وأعَزَّ اللهُ مقَامَكِ- لقد رأيتُ اللَّيلَةَ فَجِعَا, وأصْبَحْتُ مُنذُ الآنَ وَجِعَا, وأخبرتها رؤياي, وسألتها مَثْوايْ, فقالت: يا بنيّ خيراً تراه, وشراً ترعاه.
وفي الخِتَام جعلتُ أتمثَّل بهذين البيتين:
ألا فامهدْ لنفسكَ قبلَ موتٍ ... فإنَّ الشَّيْبَ تَمهيدُ الحِمامِ
وقدْ جدَّ الرَّحيلُ فكنْ مُجِدّاً ... لحطِّ الرَّحلِ في دار المقامِ
ثم سألتُ أحدُ مشايخِ الأعلامْ, ومفسِّر الأحلامْ, وراشدِ الأنامْ, عن رؤيايَ وفَحْواهَا, وَمَبدَأِهَا إِلَى مُنتَهَاهَا, بِبَيانٍ شافٍ ولَفظٍ مصيبْ, واخْتِصَارٍ كَافٍ ومعنًى سَدِيدْ, فَعبَّرَها بأحسنِ التعابيرْ, وأجْمَلِ التباشِيرْ, وقال: هيَ مُحتملةٌ لأَمرَينْ, وخَيرٌ في كِلا الحَالَيْن:
أُولَاهُمَا: أبُوكَ يعيشُ باسْتِئْمَانْ, فِي أحَدِ مَوَاطِنِ البُلدان, ويَسْتَقِرُ بِها ويرتاحْ, فذاكَ فَرَجٌ بَعدَمَا عَنَاءْ .
ثانيهما: دروسٌ تَرْجِعْ, ومشايخٌ تُولِعْ, بإلقاءِ الدروسْ, وإحضارِ النفوس, فِي مَسْجِدِكُم المَعْهُودْ, وَبَلدِكُم المَحْـبُوبْ, فذاك تعبري, وهذا ما بدرني, واللهَ نسْألُهُ الخَيْر, ولا نَرْجوه سِوَى العَونْ .
فقلتُ: بَاركَ اللهُ فيكَ من شيخْ, وجَزَاكَ اللهُ عَنِّي أفْضَلَ الجَزَاءْ، فقد صَارَ كَلامُكَ عِنْدِي أَشْرَف العَزَاءْ.
وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين .
هَــذَا وكتَبـَهَـا بـأنَـامِـلِه, وسـطَّـرَها بقـلَمِـهِ , صبيحةَ يومِ الاثنين , وأتمّها عصر يوم الاثنين : ... معـاذُ بـنُ إحسـان العتـيـبـي ...