متى يتكلم العلم العربية؟ (الطب نموذجًا)
د. محمود فوزي المناوي
مسيرة اللغة
قبل أن تشرق شمس الإسلام على الدنيا، كانت لغتنا العربية الباقية، قد استقرت مكانتها – زمنًا طويلاً – لغة للحديث، تلهج بها الألسنة، ولغة للتجارة يستخدمها أهل البيع والشراء، ولغة للشعر ينشد بها الشعراء، وينقل عنهم الرواة، ووسيلة لأرباب الفصاحة من الخطباء، يعبرون بها عن عواطفهم، ويعربون بها عن أفكارهم، وما يجيش في صدورهم من إحساسات ومشاعر. وعندما اختارها الرحمن، الذي خلق الإنسان وعلمه البيان، وعاءً للقرآن، ازدادت به رقيًا في الأداء، ودقة في التعبير، وازدانت بسمات الجمال والجلال، وضمن لها الخلود. وحين شاء الله أن يفتح لعباده المؤمنين أقطار الدنيا، حملها المجاهدون معهم لأنها لسانهم، ولأنها لغة العبادة ولغة الدعاء. وما كاد القرن الأول الهجري يوشك على التمام، حتى اتسعت رقعتها فيما بين حدود فرنسا (بلاد الغال)، إلى أقاصي أرض التركستان، على حدود الصين. وكلما دخل الناس في دين الله أفواجًا، صحبته "العربية" لغة للشعائر، وإقام الصلاة، وتلاوة الذكر الحكيم.
ومع انتصاف القرن الثاني الهجري، بدأ التمازج بين الحضارة الإسلامية وحضارات البلاد المفتوحة، التي أصبح من أهلها حفاظ القرآن الكريم، ورواة الحديث الشريف، كما أصبح من العرب من يعرف العلوم النظرية والعلوم التطبيقية، ولتصير "اللغة العربية" بعد ذلك لسان العلماء في هذه العلوم، ولغة للعلم بمفهومه الحديث.
وقد سبقت ذلك بوادر على الطريق، وظهر من قبل علماء تحدث عنهم التاريخ.
بوادر على طريق العلم والطب
أول الأطباء:
لاشك أن كل مجتمع قديم كان فيه من يعالج الأمراض، ويصف للمرضى الدواء. والمجتمع العربي، قبل الإسلام، مثل غيره من المجتمعات، كان فيه "الأساة" و"الآسيات" و"المتطببون"، غير أن واحدًا من هؤلاء – دون غيره – قدر له أن يتلقى الطب في أشهر معهد علمي في الشرق حينذاك، وهي جامعة "جنديسابور" في بلاد فارس، والتي اجتمع فيها علماء من الروم والفرس، ومن مدرسة الإسكندرية القديمة. أما الطبيب العربي الذي تعلم فيها، فهو "الحارث بن كلدة الثقفي" الذي رحل من "الطائف" إلى "جنديسابور" وأخذ الطب عن علمائها، ومارسه هناك، ثم عاد إلى بلده الطائف. وتروي كتب التراجم عنه حكايات كثيرة تظهر علمه وبراعته، ومنها حديث مطول دار بينه وبين كسرى فارس. وإذا أسقطنا جميع هذه الحكايات التي تروى عنه، بقيت لنا صورة تاريخية عن طبيب متعلم يتقن صنعته.
أول الكيميائيين:
هو خالد ابن الخليفة الأموي "يزيد بن معاوية بن أبي سفيان" الذي اهتم بعلم "الصنعة" ومعرفة الطب، ومؤلفاته عديدة في صنعة الكيمياء، نثرًا وشعرًا، حتى إن واحدًا منها فقط بلغ خمسمائة ورقة – شعرًا. إلى جانب كتاب "الحرارات" وكتاب "الصحيفة الكبرى" وكتاب "الصحيفة الصغرى" وكتاب "وصيته إلى ابنه في الصنعة"، و"مقالتي مريانس الراهب في الكيمياء".
لقد انصرف عن طلب الخلافة إلى طلب العلم، واستطاع أن يحيط بعلم العرب وعلم العجم، واستقدم بعض العلماء من الإسكندرية، ممن يعرفون اللغتين اليونانية والعربية، فنقلوا له كتب العلم من اللسان اليوناني واللسان القبطي إلى العربي، وكان هذا أول نقل للعلم، في الإسلام من لغة إلى لغة.
عندما تكلم الطب العربية
كانت للمسلمين – عربًا وغير عرب – عقيدتهم التي جمعتهم ووحدت قلوبهم، وصارت "العربية" لغة علمهم ومعارفهم، حتى صح لديهم القول المأثور "ليست العربية بأب أو أم إنما هي لسان". وفي نطاق سماحة الإسلام واتساع لغة العرب، شارك الجميع في بناء صرح الحضارة الإسلامية، لا فرق بين عربي وغير عربي.
أحدث نزول الوحي في المجتمع القبلي الجاهلي ثورة ثقافية عظمى. فكان القرآن هو المركز الذي دارت حوله دوائر علوم الحضارة العربية. فكان تقعيد قواعد اللغة – أي علوم اللغة – هو أول إنجازات الحضارة الإسلامية في عصرها الذهبي، وأساسها الوطيد.
ولقد كانت للمسلمين – منذ عصر النبوة – علومهم التي شغفوا بها: رواية ودراية، حتى إذا جاء العصر العباسي ورسخت أصولها، أصبحت لها مناهج واضحة، وضعوها على غير مثال. وفي مقدمة ذلك: علم الحديث، وعلم الفقه، وعلم اللغة، وعلم النحو، وعلما العروض والقافية.
ومن ثم أعدتهم علومهم ومناهجهم لاستيعاب علوم وحضارات اليونان والهند وغيرها، من رياضيات وفلك وفيزياء وكيمياء وطب.
ركة ترجمة الطب:
كان الطب من أبرز العلوم التي عنى الخلفاء العباسيون الأوائل بنقلها، فاستعانوا بالخبراء لنقلها إلى لغة العرب، حتى صارت هناك نهضة طبية، تعاقبت خطواتها سراعًا، من مرحلة الترجمة إلى مرحلة التأليف، منذ استقدم "الخليفة أبو جعفر المنصور" رئيس أطباء "جنديسابور" وهو "جورجيس بن بختيشوع" السورياني، الذي حضر إلى "بغداد" ومعه اثنان من تلاميذه هما "إبراهيم" و"عيسى" بن شهلا.
ثم عمرت بغداد بالوافدين من العلماء في شتى العلوم، من أنحاء الدولة الإسلامية، ولما بدأت حركة الترجمة، شارك فيها أهل العراق وفارس والشام والهند.
كان من مشاهير الذين عربوا الطب عن اليونانية وغيرها من اللغات آنذاك مجموعة من أبناء الأسر المشهورة بهذه المعرفة ومنهم: آل "بختيشوع" وأولهم جورجيس ثم ابنه "بختيشوع". وآل حنين من أهل "الحيرة" وأولهم "حنين بن إسحاق" وآل "ماسرجويه" وأولهم "ماسرجويه" طبيب "البصرة" وآل "ثابت" وأولهم "ثابت بن قرة" من مدينة "حران" ومن أشهر الأفراد: "حبيش الأعسم الدمشقي" و"قسطا بن لوقا البعلبكي".
مرحلة التأليف العربي في الطب
يمكن القول بأن حركة التأليف العربي المستقل؛ بدأت قرب نهاية القرن الثالث الهجري، وكان من أوائل المؤلفين في هذا المضمار "سنان بن ثابت بن قرة"، الذي ألف بعض الرسائل التي تعتبر بمنزلة "المذكرات" التي ينقلها الطلبة عن الأساتذة، خاصة أن "سنان" عهد إليه بامتحان الأطباء قبل الإذن لهم بممارسة المهنة، كما كان يسهم مع أبيه "ثابت" في إنشاء المستشفيات.
علي بن سهل وفردوس الحكمة:
هو أبو الحسن علي بن سهل بن ربن الطبري، من أطباء القرن الثالث الهجري، عمل في ديوان الخليفة العباسي "المعتصم" واعتنق الإسلام على يد الخليفة المتوكل، وتوفي في أواخر القرن الثالث الهجري، وله حوالي عشرة مؤلفات في الطب والصيدلة، أشهرها جميعًا كتابه المسمى "فردوس الحكمة" وهو أقدم كتاب جامع لفنون الطب والصيدلة مما وصل إلينا من كتب العلماء العرب. وقد رتبه على سبعة أقسام في ثلاثين مقالة، جمعها في 360 بابًا. وعلى سبيل المثال: يشتمل القسم الرابع على اثنتي عشرة مقالة، ويتناول فيه الأمراض بصفة عامة، ثم الأمراض الخاصة، فيدرس أسبابها وعلاجها، مبتدئًا من الرأس حتى القدم، وينتهي بمقالة في الفصد والحجامة وفحص البول.
الرازي ومؤلفاته:
هو "أبو بكر محمد بن زكريا الرازي" (251-311هـ)، المولود في مدينة "الري"، والذي أمضى شطرًا من شبابه في بلاد فارس انتقل بعدها إلى بغداد. وتبلغ مؤلفاته حوالي 224 كتابًا، ضاع منها الكثير وبقي القليل. ومن أشهر كتبه في الطب كتاب "الحاوي" وهو موسوعة كبرى تقع في اثنين وعشرين جزءًا، وكتاب "المنصوري" في التشريح، وكتاب في الأمراض، وآخر في الحصبة والجدري، وكتاب "من لا يحضره الطبيب" ويعرف بطب الفقراء. وله دراسات كثيرة في أمراض النساء والولادة والأمراض التناسلية، والعيون، ومن كتبه "منافع الأغذية". كما اهتم الرازي بكيفية اختبار الطبيب، لمعرفة علمه وقدرته، فألف في ذلك كتابًا عنوانه "محنة الطبيب".
وللرازي كتب أخرى في الكيمياء، والرياضيات والهندسة وغيرها، وإذا كان بعض قدماء المؤلفين العرب يعتبره "إمام وقته في علم الطب"، فإن بعض العلماء الأوربيين في العصر الحديث يعتبره "أعظم أطباء العرب... وكيميائيًا ذا مقام رفيع، وعالمًا طبيعيًا".
وقد ترجم الكثير من كتبه إلى اللغة اللاتينية وغيرها، وظل كتابه "الحاوي" عدة قرون أهم مرجع طبي في أوربا. أما رسالته في الجدري والحصبة فيقول عنها "ول ديورانت" في كتابه "قصة الحضارة": "كانت (أي هذه الدراسة) أولى الدراسات العلمية الصحيحة للأمراض المعدية، وأول مجهود يبذل للتفرقة بين المرضين (أي الجدري والحصبة)" ويدل على أثرها وشهرتها "أنها طبعت بالإنجليزية أربعين مرة ما بين عامي 1498 و1866م"، ثم يقول ديورانت "كان الرازي – بإجماع الآراء – أعظم الأطباء المسلمين، وأعظم أطباء الطب الإكلينيكي في العصور الوسطى".
ابن سينا وقانونه:
هو الطبيب الفلكي والفيلسوف الرياضي "أبو علي الحسين بن عبدالله بن سينا" المولود في سنة 371هـ والمتوفى في سنة 428هـ، أي أنه عاش حياته فيما بين القرنين الرابع والخامس.
اشتهر بلقب الشيخ الرئيس، وأطلق عليه المشتغلون بالفكر والفلسفة لقب المعلم الثالث، تاليًا في الترتيب أرسطو والفارابي. يهمنا من كتبه الكثيرة "القانون" الذي حظي بالتفضيل على ما سبقه من مؤلفات طبية، لما تميز به من دقة وحسن تبويب، ومن عرضه تجاربه وخبرته.
ويشتمل "القانون" على خمسة كتب، يختص الكتاب الأول منها بالأمور الكلية في الطب، ويهتم الكتاب الثاني بمفردات الأدوية، أما الثالث فيتناول الأمراض الجزئية، التي تصيب كل جزء من أجزاء الجسم، ويعرض الرابع للأمراض العامة، ويعنى الكتاب الخامس بالأدوية المركبة وتحضيرها.
وقد ظلت طبعات هذا الكتاب العربية تتتابع منذ ظهرت طبعته العربية الأولى في روما سنة 1593م حتى منتصف القرن العشرين، كما ترجم إلى اللاتينية، وطبع بها عشرين مرة، كما طبع باللغات الأوربية العديدة، وظل عماد دراسة الطب في جامعات أوربا عدة قرون.
ومما يدل على امتلاكه ناصية علم الطب وفن النظم في وقت واحد، أن "ابن سينا" لخص هذا الكتاب في أرجوزة مطولة، أوردتها بنصها لأهميتها في كتابي "حكماء، وشعراء من أون إلى قصر العيني".
وإذا كان ما تقدم واحدًا من نماذج وأمثلة محدودة للطب والأطباء في المشرق الإسلامي، عندما كانت لغتنا خير وعاء لهذا العلم، فقد كانت في المغرب الإسلامي نهضة مماثلة شاركت في إثراء تراثنا العلمي العريق في شتى المجالات، ومنها الطب. ويمكن – نظرًا لضيق المقام – الإشارة إلى بعض أعلامها الذين ذاع صيتهم في بلاد المغرب والأندلس ومصر، بل وفي أوربا نفسها.
من أشهر هؤلاء الأعلام في مصر، علي بن رضوان، ثم ابن النفيس (607-687هـ)، ومن أشهرهم في المغرب والأندلس، ابن طفيل وابن رشد (520-595هـ)، وغيرهم كثيرون. ويكفي التمثيل بنموذج متفرد من بين هؤلاء المشاهير.
الزهراوي وكتابه التصريف:
هو أبو القاسم خلف بن عباس الزهراوي (936-1013م)، نسبة إلى "الزهراء" ضاحية قرطبة، ويأتي في نهاية نسبه كلمة الأنصاري، لتشير إلى ارتباطه وأسرته بالأنصار أهل المدينة المنورة.
عاش الزهراوي في القرن الرابع الهجري وتوفي في أوائل القرن الخامس الهجري، حوالي 427هـ، والزهراوي من العلماء المتعمقين في الطب والصيدلة معًا، ينبئ عن ذلك كتابه "التصريف لمن عجز عن التأليف" الذي يشتمل على ثلاثين مقالة، تشتمل المقالة الأولى – إلى جانب الأمزجة وتركيب الأدوية – "على عيون من التشريح" كما تختص المقالة الثالثة والعشرون بالكلام على الضمائد لجميع علل البدن ومن القرن إلى القدم. أما المقالة الثلاثون فتتناول العمل باليد من الكي والشق والبط والجبر والخلع.
وبالرغم من أن بقية المقالات تهتم بالأدوية وأنواعها، فقد كانت شهرة الزهراوي قائمة على علمه بالجراحة، حتى اعتبر أشهر جراحي العرب وأشهر من ألف في الجراحة منهم. ويرجع ذلك إلى إبداعاته في هذا المجال، فهو أول من استعمل ربط الشرايين لمنع النزيف، وأول من رفع حصاة المثانة عن طريق المهبل، وأول من شق جيب المياه في أثناء المخاض لتعجيل الولادة، وأول من وصف "الهيموفليا". ومن أهم ميزات كتابه أنه أكثر فيه من الرسوم، وأشكال الآلات الجراحية وأنواعها واختلاف تصميماتها، تبعًا لشكل الأعضاء، ومواضعها من الجسم، وأهم من ذلك كله، أن معظم هذه الآلات من اختراعه.
وقد ترجم هذا الكتاب إلى اللغة اللاتينية، واللغة العبرية، ونال شهرة واسعة في أوربا – في مجال الجراحة – حتى العصر الحديث.
أوربا تنقل علمنا:
يرى الباحثون في تاريخ الحضارات وفي تاريخ العلم – حتى من الأوربيين أنفسهم – أنه كان للعرب دور بارز في تكوين الفكر الأوربي، وأنه أكثر بروزًا في العلم بمختلف فروعه: الطب، والطبيعة، والكيمياء والفلك، والرياضيات، والتاريخ الطبيعي، والفلاحة.
وقد تم انتقال علمنا إليهم من خلال الاحتكاك الحضاري في ثلاث مناطق: الشرق العربي إبان الحروب الصليبية، وصقلية في أثناء حكم العرب لها حيث كان التفوق للحضارة العربية، والأندلس الإسلامية خصوصًا مدينة قرطبة.
إنتقال علومنا الطبية إلى أوروبا
عندما كان الطب عندنا في أوج شموخه وازدهاره، كانت الأمم الأوروبية تجهله جهلاً يكاد يكون تامًا، ولكنهم عندما علموا بتقدم الطب في بلاد الإسلام، أقبلوا على بلادنا يتعلمون فيها الطب على أيدي أساتذته. غير أن جهدهم الأكبر كان مقصورًا على الترجمة من لغتنا العربية إلى اللغة اللاتينية، مع جهد المترجمين اليهود من النقل عن العربية إلى العبرية، ثم إلى اللاتينية في بعض الأحيان.
وكان من أوائل الكتب المترجمة من العربية كتاب "كامل الصناعة" أو "الملكي" الذي ألفه الطبيب "علي بن عباس" – لعضد الدولة البويهي. وقد ترجمه إلى اللاتينية "قسطنطين الإفريقي" (1020-1087م)، وكانت ترجمته فتحًا في تاريخ الطب الأوربي.
ومن الكتب التي نقلها الأوربيون – بالترجمة – عن طريق الأندلس، كتب الأدوية والعقاقير لابن البيطار، وأبي منصور الهراوي، وماسويه المارديني. ومن طب العيون (الكحالة) كتب علي بن عيسى، وعمار الموصلي.
أما كتب الرازي، وابن سينا، والزهراوي، فقد نالت عناية فائقة في ترجمتها وطبعها، وظلت تدرس في جامعات أوربا عدة قرون، في "مونبلييه" و"رانس" و"بولونبا" و"بادوا" و"أورليان" و"نابلي" و"اكسفورد" و"كمبردج" و"انجيه"، حيث أنشئت فيها مدارس للطب، وكلها كانت تستخدم الكتب العربية المترجمة إلى اللاتينية، أساسًا لتدريس الطب.
طور الكمون
ازدهرت لغتنا وتبوأت مكانتها الرفيعة، مع ازدهار أمتها ومنعتها، وقوة بأسها ورفعتها. وهكذا تقوى اللغة بقوة أبنائها، وتضعف بضعفهم. ولولا القرآن الكريم الذي ظل يحفظها، ولا يزال في الصدور وعلى الألسنة، لعصف بها ما عصف بلغات أخرى، تراجعت مكانتها بتراجع مكانة أهلها. وإذا كانت النهضة الأوربية تكونت في جانب منها بما نقلته عن لغتنا، فقد أتى علينا حين من الدهر – منذ منتصف القرن السادس عشر الميلادي – تعرضنا فيه للتضعضع، وتأثرت لغتنا بأوضاعنا المتداعية، بينما كانت أوربا تنشط فكريًا وعلميًا، بعلم تجريبي وفكر جديد، فانتزعت منا قصب السبق، علمًا وقوة، ثم ظهرت علينا في العصر الحديث بعلمها وقوتها وثقافتها. ولولا أصالة تراثنا وعمق قيمنا، لانتزعنا من جذورنا، وبهتت هويتنا، ومن ثم شهد القرن التاسع عشر الميلادي، شيئًا من الصحوة في بعض بلادنا، كان من بينها أرض النيل مصر. ويهمنا من شواهد تلك الصحوة هنا أن الطب عاد يتكلم العربية من جديد.
مؤقتًا: عاد الطب يتكلم العربية
واسمحوا لي أن أتحدث هنا عن معهدي "مدرسة طب قصر العيني"، الذي أعتبره بحق بيت الطب العربي الحديث، فمنذ نشأته، وهو يضم بين صفوفه طلابًا عربًا، وبخاصة من سورية ولبنان، منهم في عهد محمد علي: يوسف اسطفان، وغالب الخوري العقلني، والجراح النجار، ويوسف الجلخ، ويوسف لطيف، وسليم ملوك. ومنهم في عصر إسماعيل: فارس نجم، والشيخ شيبان الخان، وميلاد صغير، وإبراهيم صافي وسليمان أبو التحول. ثم شاكر الخوري، وإليال المرور، ونقولا لويس. وقد أصبح هؤلاء الأعلام المرجع الطبي لأبناء سورية ولبنان في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.
التدريس باللغة العربية:
على الرغم من أن مدرسة طب قصر العيني قامت على البعثات العلمية إلى أوربا، فإن تدريس الطب فيها كان باللغة العربية، وقد كتب كلوت بك (أنطوان برتسيلي كلوت) إلى محمد علي باشا والي مصر يقول "إن التعليم بلغة أجنبية لا تحصل منه الفائدة المنشودة، كما لا ينتج عنه توطين العلم أو تعميم نفعه" ولكي يحقق كلوت بك رؤيته تلك، ألحق المترجمين بمدرسة الطب واعتبرهم طلاب بها، وألحق بها معهم مائة طالب، اختيروا من الأزهر الشريف، وكان من هؤلاء التراجمة المسيو عينهوري، والمسيو رافائيل، اللذان ساعدا بكفاءة نادرة على ترجمة مؤلفات عديدة. ولم ترق فكرة التعليم باللغة العربية لفريق كبير من الأجانب، حتى إن بارون دي بواسليكوم الذي بعثته الحكومة الفرنسية لدراسة حال مدرسة الطب المصرية كتب يقول "إن مدارس الطب والصيدلة وفن البيطرة والكيمياء مكونة تمامًا من عرب، والمسيو كلوت يحاول أن يعطي تلاميذه روحًا وطنية عربية، ولا أعرف هل يستحق التأنيب أو التشجيع!!" وظل التعليم كذلك باللغة العربية حتى سنة (1903م) عندما أصدر اللورد كرومر المندوب السامي البريطاني أمره باستبدال اللغة الإنجليزية باللغة العربية.
يتبع