نتائج الرحمة

خطبة الشيخ محمود أبو الهدى الحسيني


جاء في الحديث عن الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم:
(أول شهر رمضان رحمة، ووسطه مغفرة، وآخره عتق من النار)*.
وما نـزال في عشرِ رمضان الأول عشرِ الرحمة، وقد تحدّثتُ في الأسبوع الماضي عن أسباب الرحمة، وقبل أن نودّع عشر الرحمة نجول في نتائجها، لأن الحديث عن نتائج الرحمة تجعل الإنسان متسائلاً وهو يجوز عشر الرحمة: هل حصّلت شيئًا من نتائج هذه الرحمة؟
وليس لنا في مثل هذا الموضوع أن نخترع اختراعًا، ولا أن نغرف من آراء عقولنا ما يحلو لنا، إنما علينا أن نغوص في بحر القرآن لنستخرج بعض الدُّرَر التي تفيدنا وتنفعنا وتوجهنا، فالرحمة ليست صناعة بشرية، فقد تكون آثارها في البشرية، لكن تنـزّل الرحمة إنما هو فعل من أفعال الله.
واستخرجت لكم من الكتاب المنير عشر نتائج:
1- الانعتاق من هيمنة النفس الأمّارة: ونستفيد هذا العنوان من قوله تبارك وتعالى:
{إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ} [يوسف:53] فإذا تنـزّلت الرحمة على القلوب انعتق الإنسان من عبوديته لنفسه وهواه.
ومع الأسف الشديد فإن قلوب الناس غالبًا ما تشتغل في شهر الرحمة والمغفرة والعتق من النار بالمادة والأشياء، وقد جعل الله سبحانه وتعالى هذا الشهر فرصة عظيمة حتى يتحرّر هذا الإنسان إلى العبودية لله سبحانه وتعالى وحده.
إذًا: تمضي الأيام الأولى من رمضان وينبغي أن نسأل فيها أنفسنا عن نتيجتها: هل حصلت فينا أم لا؟
عشرة أيام يصوم فيها الإنسان ويقوم، ويقرأ القرآن، ويدرّب نفسه على الطاعة ويجنبها المعصية... هي كفيلة عند أهل الفهم عن الله لأن تعتق نفسه من رقّ الأشياء.
فإذا كان الإنسان في هذا العشر ممن إذا أمرته نفسه بالسوء خالفها وزجرها فإنه حصّل النتيجة الأولى وهي الانعتاق من هيمنة النفس الأمارة.
2- الانعتاق من سلطان الشيطان: ونستفيد هذا العنوان من قوله تبارك وتعالى:
{وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً} [النساء: 82]
والسلوك في طريق الشيطان هو اتباعه، وطريقُ الشيطان عنوانُه مخالفةُ الله تبارك وتعالى ومخالفة أمره، والـ: "أنا" والكبر والعجب... {قَاْلَ أنَا خَيْرٌ مِنْهٌ} [ص: 76].
فإذا رأى الإنسان نفسه في هذا العشر متواضعًا وطائعًا فقد حصّل النتيجة الثانية.
3- المفاصلة مع أهل الضلال: ونستفيد هذا العنوان من قوله تبارك وتعالى:
{وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّت طَّآئِفَةٌ مُّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاُّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ} [النساء: 13] فأفهمنا الله سبحانه وتعالى أنه برحمته يجنّب عباده وأصفياءه وأولياءه إضلال الضالّين.
وفرِّقوا بين المجاملة العابرة والركونِ الذي يتضمن المحبة والميل.
فإذا وجد الإنسان نفسه تميل إلى أهل الضلال وتركن إليهم فليعلم أنه محروم من هذه النتيجة.
{ولا ترْكنُوا إلى الذينَ ظَلمُوا فَتَمَسَّكُمُ النّارُ} [هود: 113].
وإذا وجد أن قلبه لا يأنس إلا بأهل الله وأهل الإيمان، ويحبّ لله ويبغض لله، عندها يستبشر بهذه النتيجة.
4- النجاة من العذاب الدنيوي: فالله سبحانه وتعالى يُنـزل بسبب الذنوب أنواع الاضطراب الذي يحيط بالإنسان من فوقه أو من تحته، فيجد الإنسان الكون معاديًا له.
ونستفيد هذا العنوان من آيتين في القرآن هما قوله سبحانه وتعالى:
{وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} [هود: 58]
وقوله سبحانه: {وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا} [هود: 66]
فالأشياء تنفعل للطائعين، لأن الله سبحانه وتعالى سخّر الأرض والسماء للإنسان، فإذا عصى اللهَ يعصيه كلُّ شيء، وفرِّقوا بين الكون بأسره وبني البشر، لأن الكون بأسره منفعل اضطرارًا لا اختيارًا، وأما بنو البشر فإنهم بالتكليف أصحاب اختيار.
لكن ما يأتيك من الإيذاء من بني البشر قد يكون رحمة، وحينما تكون طائعًا لله فالكون يكون مسخَّرًا لك.
لا تلتفت إلى بني البشر لأن إيذاءهم يصيب بدنك ولا يصيب قلبك، أما إحسانهم فقد يصيب قلبك، فلا تلتفت إليهم، ووجِّه قلبك إلى الله.
5- أن يكرمك الله سبحانه وتعالى بأخٍ صادق مُعين لك في الحقّ: ونستفيد هذا العنوان من قوله تعالى:
{وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} [مريم: 53]
فالأخوّة الصادقة التي ليس فيها نفاق ولا مداهنة ولا كذب ولا التواء ولا خداع... رحمةٌ عظيمة من الله.
والذي يفرح بالمداهنين من حوله خفيف العقل، والذي يفرح بالصادقين من حوله الذين يحملون إليه النصيحة الصادقة هو العاقل ...، وكان عمر رضي الله عنه يفرح إذا أُهديت إليه عيوبُه، فكان يقول رحمه الله: "رحم الله امرَأَ أهدى إليّ عيوبي".
أما الذين يداهنون وينافقون من أجل إدخال السرور على قلب شخصٍ ما فإنهم (ومَن فرح بفنائهم) سُذّج، وأقلُّ ما يقال فيهم أنهم بُله، فالدنيا ممرّ، وما نَفَعَ في المقرّ خيرٌ مما أمتَعَ في الممرّ.
6- الأخلاق اللطيفة: فإذا وجدتَ أنك في نتيجة هذا العشر عشرِ الرحمة قد تلطفَتْ أخلاقك وتنوَّرت أوصافك، فاعلم أنك من أهل النتائج الخيّرة، نتائجِ الرحمة.
ونستفيد هذا العنوان من قوله تبارك وتعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ} [آل عمران: 159]
فإذا تنـزَّلت الرحمة على قلبك ظهر ذلك لِينًا في أخلاقك.
7- التراحم بين أهل الإيمان: ونستفيد هذا العنوان من قوله تعالى:
{مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} [الفتح:29] فإذا أشرقت رحمة الله تبارك وتعالى من السماء على الأرض ظهر أثرها في السلوك الإيمانيّ بين أهل الإيمان وظهر التراحم.
(الراحمون يرحمهم الرحمن).
وثمة صلةٌ بين الرحمة المتنـزّلة وأثرِها بين أهل الإيمان، ولو كان مجتمعُنا مجتمعَ إيمانٍ لرأينا في أسواقنا نتائج الرحمة، ولرأينا في صناعاتنا نتائج الرحمة ولرأينا بمناسبة حلول شهر رمضان انخفاض شديد بالأسعار، بحيث يبيع الناس بما يقترب من رأس المال من باب الرحمة، فيبيعون صناعاتهم بما يقترب من رأس المال من باب الرحمة, ولكنّا رأينا أن الإنسان يبحث عن نفع أخيه، ويبحث عما يصلح أخاه.
8- استقرار المجتمع بعيدًا عن أذى العدو: ونستفيد هذا العنوان من قوله تبارك وتعالى وهو يحكي عن ذي القرنين بعدما بنى السدّ الذي منع يأجوج ومأجوج من شنّ الغارات على الذين بنى السد لهم، إذ قال لهم ذو القرنين: {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاء وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} [الكهف: 98] فتسليط العدو عذاب، وكفُّ أيدي العدوّ رحمة.
9- الكفاية المالية: ونستفيد هذا العنوان من قوله تعالى:
{فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنـزهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} [الكهف: 82]
فلا تتوهموا أن الأسباب ترزقنا وأنها تمنحنا الكفاية المالية، فالرزاق واحد هو الله.
{الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ، وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ، وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 78-80]
{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد: 16]
فمتى يستقر اليقين في قلوبنا بأن الرزاق هو الله؟
عندها لا نُرخِص نفوسَنا للخلق..
وعندها لا نـذلّ إلا لله..
وعندها نعلم أن ما أصابنا لم يكن ليخطئنا، وأن ما أخطأنا لم يكن ليصيبنا..
10- فهم القلب لأسرار القرآن وحقائقه: فإذا قرأت القرآن فوجدت قلبك واعيًا فاهمًا لمعانيه وحقائقه، فاعلم أن نتيجة الرحمة قد ظهرت فيك، قال تبارك وتعالى:
{وَنُنـزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِين َ} [الإسراء: 82]
وهذه الرحمة إذا دخلت إلى القلب شُفي القلب من أمراضه، وأمراضُ القلب ترجع إلى التفاته إلى غير ربّه، قال تعالى: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ، إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88-89].
وقال في حق أهل النفاق: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة: 10].
فالشفاء الذي ينـزله الله سبحانه في القرآن هو شفاءٌ للقلوب، وحينما تتنـزل الرحمة إلى القلوب تشفى هذه القلوب من أمراضها وتعود إلى فطرتها وتتوجّه إلى التوحيد، وعندما تنشغل بالمحسوس يصيبها المرض:
{فيْ قلوبهمْ مرضٌ} لأنهم يلتفتون إلى المحسوس، ويتّكلون عليه، ويعتمدون عليه.
{فزادهمُ اللهُ مرضَا} فالذي يتكل على الحلسوس لا يشبع من المحسوس.
والمحسوس مثله كماء البحر كلما شربتَ منه ازدتَّ عطشًا:
والنفس كالطفل إن تهمله شبّ على
حبّ الرَّضاع وإن تفطمه ينفطمِ

فشفاء قلب المؤمن بالقرآن، وعندما يخرج هذا القلب عن التفاته إلى الأشياء فلا يتوجه إلا إلى الله، ولا يعنيه إلا الله، ولا يشغله إلا الله... فإذا وصل هذا القلب إلى هذا الحال كان سليمًا من الأمراض.
وإذا كان هذا القلب يضطرب بصورة المحسوس فإن هذه النتيجة لم تصل إليه بعد.
اللهم سلّمنا لرمضان، وسلّم رمضان لنا، وتسلّمه منا متقبلاً، واجعلنا يا ربنا فيه من المرحومين، ومن أهل المغفرة والعتق من النار.
واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
أقول هذا القول وأستغفر الله.






---------------------------
*ويجب انتباه الدعاة لضعف حديث ” شهر أوله رحمة وأوسطه مغفرة ، وآخره عتق من النار ” ، وما يشمله من أمور لا يمكن القطع بصحتها، بل الواجب التنبيه على ضعفه وبيان رحمة الله تعالى الواسعة . (منقول)