الشيخ والمريد
من الذي يصنع الآخر؟

كتبه/ عبد المنعم الشحات
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فإن استفادة المتأخر من المتقدم أو التلميذ من الشيخ سنة كونية في كل المجالات، ومنها: مجال العلم الشرعي والسلوك إلى الله -تعالى-، ولهذه التلمذة صورة صحية وصور أخرى مرضية.
فالصورة الصحية تنبع من إخلاص القصد لله من كل من الطرفين ومن التأدب بآداب الإسلام، فالشيخ يتواضع ويخفض جناحه لتلاميذه ويحضهم على طلب العلم النافع عنده وعند غيره.
والتلميذ يحب الشيخ ويوقره طاعة لله دون غلو ولا إفراط، ولا يجعل هذا الحب مانعًا له من قبول الحق كما قال ابن القيم -رحمه الله-: "شيخ الإسلام حبيب إلينا، والحق أحب إلينا"، وهذه الصورة المشرقة من صورة التلمذة السنية هي تطبيق لقوله -تعالى-: (وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) (الفتح:29).
وعلى الجانب الآخر توجد صورة "الشيخ" و"المريد" الصوفية التي ينطبق عليها قوله -تعالى-: (وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا) (الأنعام:128).
إن الشيخ الصوفي همه الأكبر أن يصل إلى الفناء والوحدة وهو نوع من التأله والمريد يعلم أنه لن يمكنه أن يصل إلا من خلال شيخه، فبمقدار غلوه في شيخه يكون غلوه في نفسه وتكون فرصته في أن يقفز على كرسي المجد يومًا.
وليس مقصودنا التوسع في تحليل ظاهرة "الشيخ" و"المريد" عند الصوفية، وإنما مقصودنا أن نشير إلى أن الشيطان الذي أوحى إلى الصوفية بنظام الشيخ والمريد لم ييأس من غيرهم فتشربت أجزاء كبيرة من ظاهرة الشيخ والمريد حتى في أوساط تدعي أنها أبعد ما تكون عن الصوفية، وإذا وجد الشيطان "مشروع شيخ" متمثلاً في طويلب علم متسرع أو طالب علم أراد به الدنيا، ووجد له "مشروع مريدين" متمثلاً في متعبد متكاسل أو طويلب علم يريد به الدنيا ينتظر الفرصة؛ ليقفز مكان شيخه، فهذا هو عين المراد.
وإلا فإنه قد يسلط على الشيخ الذي ما أراد بطلبه للعلم إلا وجه الله أنواعًا من "المريدين" الذين لديهم استعداد فطريًّا للذوبان في شخصيات الآخرين أو الذين لديهم مآرب خاصة في أن يكونوا مريدين، فتكون فتنه كبيرة لهذا الشيخ، وفي هذه الحالة تتزاحم المصالح وتتعارض الإرادات، ويخفى على كثير من الخلق -إلا من رحم الله- إرادة الآخرة من إرادة الدنيا، ولا شك أن هذه الحالة تقتضي التعامل بالحزم الكافي مع هذه الظاهرة كما قال ابن مسعود -رحمه الله- لمن أراد أن يتبعه إلى منزله بعد الدرس: "ارجعوا، فإنه ذل للتابع و فتنة للمتبوع".
وقد يسلك السالك طريق العلم يريد به وجه الله فيبتلى بمن يدعو إلى نفسه في صورة الدعوة إلى الله ويريد من تلاميذه صورة من صور التقديس قريبة من صورة المريد الصوفي الذي ينبغي أن يكون بين يدي شيخه "كالميت بين يدي مغسله"، ويجعل همه الطعن في أقرانه تزهيدًا لهؤلاء المريدين عن طلب العلم عندهم وربما استهواه الأمر فراح يطعن في شيوخه وأساتذته، وربما استهواه الأمر فراح يطعن في أئمة العلم ممن جعل الله لهم لسان صدق في الأمة.
ومثل هذا الشيخ العلم عنده هو الفرع الذي يحسنه أو الذي يظن أنه يحسنه حتى وإن كان من علوم الأدوات فلازم على المريدين ألا يجاوزوا هذا العلم إلى غيره حتى لا يجاوزوا هذا الشيخ إلى غيره.
وربما لم يجد هذا الشيخ علمًا يزعم إتقانه فاكتفى بتوجيه النقد لغيره على نهج (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ) (التوبة:58)، وربما لم يجد بعضهم إلا علومًا نافعة ولكنها من باب أدوات الأدوات، فجعل نفسه فيها شيخا فيكون حاله كحال المدرس الذي يستغرق العام الدراسي كله في تعليم الطلاب كيف ينسقون الكراسات دون أن يتناول شيئًا من المنهج الرئيسي إلا النذر القليل، إلى غير ذلك من الصور التي تختلف في كثير من تفاصيلها مع اشتراكها في أنها إحدى صور الشيخ والمريد.
والخلاصة أن الإنسان عليه أن يحذر أن يدخل له الشيطان عن طريق حظوظ نفسه أو عن طريق استدراج غيره، فليحذر المبتدئ في طلب العلم والسلوك من شيخ مفتون يريد أن يجعل منه "درويشًا" حتى وإن كان "درويشا سلفيًّا".
وليحذر طالب العلم الذي شرع في تعليم غيره من مريد مفتون يريد أن يجعل منه "قطبًا" حتى وإن كان " قطبًا سلفيًّا"؛ ليكون هو من بعد من خواص ذلك القطب، ولا شك أن العمل الجماعي -هو بعد الاستعانة بالله تعالى- أحد أهم أسباب الوقاية من هذا الداء، حيث تتنوع الطاقات داخل الإطار الواحد وتقل أو تنعدم فرص استغراق التلميذ في رؤية شيخ واحد وفرص اغترار الشيخ بتلاميذ يعرف أنهم تلاميذه وتلاميذ غيره، ولعل هذا يكون أحد أوجه تشبيه المؤمنين "بالزرع الذي أخرج شطأه" دون "الأشجار"، ففي الأشجار تتميز كل شجرة بفروعها والتي ربما أضعفتها، بينما يتميز الزرع بأن الفرع يقوي الأصل، كما يمتاز بأنه يعسر على الناظر جدًّا أن يفرق بين الزرع النابت الجديد إلى أي أصل ينسبه. ولا عجب في ذلك فالشيطان أقرب إلى الواحد وأبعد إلى الجماعة.

نسأل الله -تعالى- أن يعصمنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن.